«ثلاثية غرناطة» لرضوى عاشور: ذاكرة خصبة في سرد رحلة الفقد والألم
لا يملــك من يقــرأ روايــة «ثلاثيــة غرناطــة» للروائية والناقــدة المصريــة رضــوى عاشــور، إلا أن تصاحبــه مشــاعر مختلطــة مــن شــهقات الراحلــن المودعــن، وغصات الحنين إلى مجد مضى، وذاكرة تصطاد كل من يبحــث عن أوجاع الأمة العربية. ومــن يقرأ الرواية يفهم جيــدا لِمَ لم تعد الرواية رواية نادرة وجوهرة من جواهر الأدب الثمينة.
يربط الشــاعر الفلسطيني محمود درويــش بــن النكبــة الفلســطينية، وســقوط الأندلس ويعمل توازيا بين ســقوط غرناطــة وســقوط القدس، ويتأمــل التاريــخ الأندلســي، معتبرا إيــاه حجــر الزاوية في قــراءة تاريخ العرب الحديث قائلا:
كانَ تاريخَنــا حَــوْلَ تاريخِكُــمْ في الْبلاد الْبَعيدَة
وَسَنسْــأَلُ أَنْفُسَنا فِي النِّهايَة: هَلْ كَانَتِ الأَندلس
هَهُنا أَمْ هُنَــاكَ؟ عَلى الأَرضِ أَمْ في الْقَصيدَة؟
كمــا يلتقــط كتــاب «الأندلــس: تاريخ الشــتات» لمحمد الرزاز، ورواية «ثلاثيــة غرناطة» للروائيــة والناقدة المصريــة الراحلــة رضوى عاشــور، بدايــة النهايــة الأندلســية، نهايــة المســلمين الأندلســيين، وبداية تاريخ المورسكيين الذين يعتبرون منذ هــذه اللحظة مزدوجي الهويــة والانتماء، يقفــون عنــد عتبة تحــولات كثيرة وتســاؤلات وجودية مهمــة: هل هــم عــرب مســلمون؟ أم عرب مســيحيون، وتتمــزق هويتهــم بين ظاهــر معلن وجوهــر خفي، فهم بالنسبة للسلطة القشــتالية مسيحيون يحملون اسمين وانتمائــن: انتمــاء ظاهريا للدولة القشــتالية وأســماء مســيحية، وانتماء داخليا حقيقيا عميقا للثقافة العربية والديانــة الإســامية، وكل التفاصيــل الحميميــة التي تشــكل الهوية العربية الإســامية: الديــن، اللغة، الزي، العادات والتقاليد، وأطباق الطعام العربية.
انطلقــت الروايــة مــن بدايــة النهايــة لحيــاة العرب المســلمين فــي غرناطــة، وبــدأت حيــاة مختلفــة تماما بتفاصيلهــا المؤلمــة عــن معانــاة العــرب المســلمين فــي بلدانهم العربية. عــاش أبطال الرواية حياة يملؤها الذل والخزي، والإحســاس المرير بالإهانة الشــخصية، لكل أندلسي يعيش تحت ظل الحكم القشتالي.
يعاني أبطــال الرواية عبــر أجيال متعــددة، بدءا من جيــل أبــي جعفر الــوراق وأســرته فــي حــي البيازين، الجيــل الأول لســقوط الأندلــس، وصــولا إلــى الجيــل الرابــع، الحفيــد علي، الناجــي الوحيد من هذه الأســرة فــي غرناطة، وحياتــه في الجعفرية. يعانــي علي وبقية المورســكيين من محــاولات متعددة للقشــتاليين لطمس الهويــة العربية الإســامية، مثل إجبارهم علــى اعتناق الديانة المســيحية وعدم السماح لهم بممارسة أي طقس من طقوس ديانتهم، حتى لو كان بشــكل خفي وســري. إلا أن الهويــة العربية راســخة الجذور في الأندلســيين، تقــاوم كل محاولة للطمس والتحريف والتشــويه، رغم كل المحاولات والممارســات القمعية العنيفة، التي يبذلها القشــتاليون فــي التعامل مع أهل غرناطة المســلمين في حي البيازين.
يعــرض الخط العــام للرواية حياة العرب المســلمين، الذيــن قرروا البقــاء في غرناطــة، وتبين عنف الســلطة القشتالية الممارس بقوة ضدهم، الذي يتفاوت في درجة عنفه حســب قوة وضعــف رجال المقاومة فــي الخارج.
يســتمر خوف القشتاليين ويتزايد من حضور أي علامة من علامــات الهويــة العربية الإســامية، مثلهم مثل أي محتل طاغية يخاف من الأغنيات والأناشــيد والعادات والتقاليــد العربيــة، فــي الضيافــة والأطبــاق العربيــة المميزة، والطقوس الدينية في الأعياد، ورمضان، لدرجة أن مريمة وعلــي يضطران لتأجيــل إفطارهما، خوفا من
إطلاع السلطات القشتالية على الأمــر، وتحويلهم إلــى الديوان ومحاكم التفتيش لمحاســبتهم. وهــو الأمــر الــذي دفــع إحدى الشــخصيات، التــي ظهرت في الروايــة متأخــرة، الفقيــه عمر الشاطبي يرصد المفارقة عندما ذهــب لزيــارة القــدس ورأى التعايــش الدينــي الموجود بين المسلمين والمســيحيين، في تلك الفتــرة الزمنيــة، التــي رصدت لهــا الرواية، ويتســاءل: لماذا لا يحدث هــذا عندهم في غرناطة، وبلنســيا وغيرهــا مــن المناطق الواقعة تحت السلطة والهيمنة القشتالية.
فــيالروايــةمــداراتحكائيــة ممتعــة ، وثيمــات فكرية تســتحق التأمل وتحليلهــا مثل: قضية التاريــخ الرســمي والتاريــخ الشــفوي المقمــوع للعرب المسلمين، أثناء الهيمنة القشتالية، وصورة المرأة والقهر الــذي تتعرض له في الدولة القشــتالية، التــي لم تتقبل وجود امــرأة متعلمة، تقرأ الكتب وتعالج المرضى، لأنهم يحاربون العلم بشــكل عام، والعلوم الإســامية بشكل خاص، ولا يريدون للعرب المسلمين أن يقرأوا ويتعلموا، فتظهر عقوبات صارمة لجريمة «اقتناء الكتب»، ما يعني أن ثقافة حرق الكتب آلية اســتعباد عالمية وتملك تاريخا طويلا من الممارسات، وليست حكرا على ثقافة معينة.
خيــر مثال على هذه الحالة، ما حدث لســليمة حفيدة جعفر الــوراق، التي أســهم الانفتاح الذي عاشــت فيه، أســرتها المتســامحة في تثقيفها، وتركها تمارس حقها في تحديــد كينونتها وهويتها، كونهــا امرأة حرة واثقة بقرارتهــا فــي الحيــاة. وفي المقابــل، نجد القشــتاليين يتهمونهــا بالكفر والإلحــاد، ويعدمونهــا حرقا. ظهرت ســليمة في الرواية على أنها نموذج يوضح صورة المرأة المســلمة، في ظل تطور حضاري كبيــر، كما تبين تخلف
أوروبا فــي القرون الوســطى قبل بداية عصــر التنوير بقليل.
عنــد الوقــوف عند شــخصية ســليمة، المــرأة المثقفة الشــجاعة التي اســتمرت في تثقيف نفســها بشجاعة وإصرار كبيرين، نجدها تســجل موقفا لها ولجدها أبي جعفر الــوراق، الــذي تذكرته وهي خاضعة للمســاءلة مــن قبل لجنــة التحقيــق التابعــة لمجالس التفتيــش، التي مــن ضمن مهامهــا التأكد مــن عدم ممارســة المســلمين المورســكيين المســيحيين الجــدد لأي مــن طقوســهم الاجتماعية، أو الدينية. عند الإعدام حرقا، تذكرت ســليمة جدهــا وأبت على نفســها وتاريخ جدها المليء بالاعتزاز أن تكذب أو حتى تضعــف وترتعش في مواجهة الموت والحــرق، فكانــت صابرة محتســبة قوية الإيمان ثابتة على مبادئها وقناعاتها.
لو قمنا بالمقارنة بين ســليمة وشخصية جوديث شكســبير، التي تخيلتها فرجينيا وولــف فــي كتابهــا «غرفــة تخــص المرء وحــده»، نجــد أن كلا من أخت شكســبير جوديــث، وســليمة تلاقي المصير نفســه، المــوت. نجــد ســليمة امــرأة تمــارس حقها فــي التعليم وممارســة مهنــة الطــب الشــعبي فــي مجتمــع اســتعماري يعيش ظلمات مضاعفــة، فيمــا تتخيــل وولف أخت شكسبير وهي تواجــه محنتها في رفضها عــادات وتقاليــد المجتمــع السائدة. مثل ســليمة التي اعتزلــت عــن مجتمعهــا، ورفضت الاهتمام بزوجها، نجد أخت شكســبير يرغب والداهــا فــي تزويجهــا، وترفض وتهرب من أسرتها إلــى أن لاقــت مصيرهــا في المــوت انتحــارا، بعــد أن دارت في سلســلة طويلة من الاستغلال والاستعباد حتى الاغتصاب والحمل والموت. حقيقــة، لم تكن كل من ســليمة وجوديــث، وهما من صنع المخيلة، في صــورة أبعد من الواقع، مادام التاريخ الحقيقــي قدّم نموذجا أشــد قســوة ومرارة هــو أميرة الجبل أســمهان، التي ســجلت مفارقة مشابهة لحالتي جوديث شكسبير وسليمة، أســمهان التي لاقت حتفها في وقت مبكر جدا من حياتها، بينما استمر أخوها فريد الأطرش بالطرب والغناء، وكان هذا يتضح في رؤيتهما فريد وأســمهان للموت والحيــاة، تقول اســمهان: «أنا عمــري قصير، ويرد عليهــا فريد أنا غيرك يا أســمهان، أحــس أن عمري طويل، وأســتطيع القيام بمــا أريد على مهل».
غيــر صــورة ســليمة، تتضح صــورة كوثــر في حي الجعفرية، التي تلقى المصير نفســه من أهلها المســلمين إذ خالفت العــادات والتقاليد، ووشــت بوالدها فلاقت المصير نفســه القتل من أخيها. تبين الرواية أن التطرف ليس خاصا بأمة من دون أمة، ولا ديانة من دون ديانة، بل كانت هذه الممارســات المتخلفة ممارسات عالمية. في الرواية، كثير من الثيمات التي تســتحق التأمل والتعمق فيهــا، وأهــم مــا فيهــا، رغبــة المســلمين فــي التعايش
رضوى عاشور
والحياة، رغم كل هــذه العقبات والقلاقل التي مروا بها. كمــا تعــرض الرواية لنماذج شــخصيات متعــددة نظرا لحجم الرواية الكبير، مثل شــخصية علي الرجل الوحيد الذي بقي من أسرة أبي جعفرالوراق.
لم يكن علي بن هشــام بن حسن بن ابي جعفر الوراق مجرد عاشق سيئ الحظ بجدارة، بل هو أيضا شخصية يعاندهــا القــدر بشــدة، ويرســم تفاصيــل تعاســتها وشــقائها بكل قســوة ومــرارة. كان علــي مدفوعا بكل أســباب الرحيــل، وهو يتعلق بكل قشــة للبقــاء، إلى أن يتــم اقتلاعه هو ومن تبقى في حــي الجعفرية نهائيا من الأندلس مرغمين على ذلك لا مختارين، بقرارات إسبانية ظالمــة وجائــرة. بعــد أن قضــت مضاجــع الإســبانيين حركات ثوار البشارات، أرادوا أن يبعدوا كل المورسكين )المسلمين المتحولين للديانة المسيحية قسرا( إلى المغرب العربي، ويستبقوا من أطفالهم من هم دون سن السابعة لكي يعلموهم المسيحية ويصبحوا مسيحيين مخلصين.
لقد كان علي محملا عاطفيا بكل أسباب البقاء، ولكن الظروف كلها كانت تدفعه نحو العودة إلى الشــرق. كما كان عاشــقا ســيئ الحظ، ابتلي بلعنة النبــذ والإقصاء والاقتلاع. لم يكن طفلا يعيش طفولته الطبيعية، لأنه كان مســؤولا عن إعالــة جدته مريمة، الســيدة الوحيدة التي تبقت له من لعنة الشتات، والتي كانت تشاركه تفاصيل وحدتــه وغربته، فــي أرض تضيق عليهم كثيــرا بعد أن رحــل الأحبة على أشــكال مختلفــة للرحيل والشــتات: موتا ونفيا وشنقا. يتمسك علي وجدته مريمة تلك المرأة المزيــج الرائع من الهزل والجد والحكمة والحنكة والمرح والحب وحســن التصرف، بالبقاء في أرضهما وبيتهما وحيهما حي البيازين الذي انغرس في وجدانهما وشهد على تفاصيل ذاكرتهما الحميمية.
أحب علــي دائما النســاء الخطــأ، صدفة فــي الزمن الخطــأ. لم يخطط علي في حياته لشــيء مــا أبدا، فظهر فــي تصاريف الحيــاة مدفوعــا دفعا قدريــا للوقوع في شــباك النســاء الخطأ فــي الأوقات الخطــأ، أحب فضة وطــارده الجنود، فتركها، أحب كوثر تلك الفتاة المتمردة والثورية على إرث الماضي، وتتبعها تتبع عاشــق ممتلئ بها، وتتبع كل تفاصيل معاناتها، وحاول أن يرتبط بها، ولكنها رفضت وتزوجت من غيره، وبعدها قتلها أخوها لرد اعتبار وشرف أسرته المنتهك.
مــن وجهة نظري لم يكن علي ســوى صــورة للعربي المسلم الناجي الأخير )مجازيا( في الرواية، الذي حصد خيبات شــتى وانكســارات عدة، حاول أن يضرب وتده بأي بقعة كانت في أندلســه، لكنه لم يفلح لأن المســلمين العرب خصبهم انقطع في أندلســهم، ليعيشــوا أشــكالا مختلفة من النفي والشــتات ورحلة محملة بأشــكال من الرفــض وعدم الانتمــاء، والاســتخدام السياســي غير المشروع في أي بقعة يضربون فيها أوتادهم.
ختاما، لــم تكن رواية «ثلاثيــة غرناطة» رغم ضخامة حجمها إلا رحلة ســردية ممتعة تعانق التاريخ والذاكرة الجمعية للعرب والمســلمين، وتشــعل مواقد الحنين في قلوبهم.