Al-Quds Al-Arabi

الأدب في حال زوال أم تفكّك؟

-

لقــد تعرّض العالــم إلى تحــولات جوهرية، وأحد هذه التحولات: انتقال الحداثة من مرحلة «الصلابة» إلى مرحلة «الســيولة»، كما تنبّه إلى ذلك سيجموند باونــد، وقبــل ذلك تنبــأ ماركــس بــأن - كل ما هو صلــب فــي العالم يتبــدّد - حتى صــار العالم أقرب إلــى مصفوفة مــن اتصــالات وانفصالات مشــتتة، مصفوفة تغيرّات لانهائية في جوهرها».

وإزاء تحــوّلات ما بعد الحداثــة، تفكّك رأس المال، وتغيّر مفهوم العمــل، وتحلّلت الطبقات الاجتماعية، وتقوّضــت مركزيــة الدولــة، وانهــارت الحدود بين الثقافــة المعرفية والثقافة الشــعبية، وقبل ذلك كله، ظهــر فــي المرحلــة الأخيــرة مــن صياغــة الدينامية الحراريــة اللاخطيّــة مفهــوم «النظام عبــر المتقلّب»، حســب تعبير بريغوجين. وانبثــق فهم جديد للعالم: لم يعد الكائن الحي منعزلا في العالم الفيزيائي، فقد أصبح ســلوكه قابلا لفك رموزه بعبــارات فيزيائية. يقول الفرنســي البير ليونار فــي كتابه «أزمة مفهوم الأدب في فرنســا فــي القــرن العشــرين»: «التلوث والتدميــر المرعــب لنوعيــة الحيــاة فــي المجتمعــا­ت الصناعيــة، توازي تفكّك الأدب، ففي الحالين، يتعلّق الأمــر بأزمة الإنســان، ونقــص وعيه واســتخدام­ه لقدراته استخداما شاذّا».

ولعــل مــن أهــم أســباب )التفــكّك الاجتماعــ­ي( هــو التراكــم البدائي لرأس المــال، وقــد أدّى التفكّك الاجتماعي إلى اضطراب العالم، غير أن الاضطراب، كمــا يرى دريــدا «مطلوب مــن أجل التطــور أيضا»، وقــد طالت التحوّلات التي جلبــت التغيرّات - البنى الفوقيــة مــن أســفل البنــى التحتانية، ومنهــا بنية الأدب.

إذن، الأدب فــي حــال زوال أم تبعثر أم اضطراب أم تفــكّك؟ قبل لحظة الحمل بالإجابــة. تنبأ موريس بلانشــو، بأن الأدب بلغ النقطة الصفــر من الكتابة، لأن حالة تبعثر الأدب اليوم: «هي راجعة لتلك الحرية التــي تجعل منــه موضوع تجــارب دائمــة التجدّد». ولكــن بلانشــو ينفــي أن يكــون «تنــوّع ونــزوات وفوضــى التجارب هــي التي تجعل مــن الأدب عالما مبعثــرا أو كيانا مفكَّكا، وإنمــا «التجربة الأدبية هي مــن صميــم اختيــار التبعثر، هــي مقاربة مــا ينفلت من الوحــدة، هي تجربة ما يخرج عــن نطاق التفاهم والقانــون، هي الخطــأ والخارج، هي ما يســتعصي إدراكه، هي الشاذ».

ويحــدث فــي الأدب أن تتبعثر الأنواع وتُســتهلك الأشــكال، خاصة في «زمن لــم يعد العالم في حاجة إلى أدب»، حتى أصبــح «اللا- أدب» هدفا لتحولات الكتابة الجديدة. ويتســاءل موريس بلانشو: ما هي اتجاهــات الأدب المعاصر؟ والأدب إلى أين يتجه؟ ثم يجيــب قائلا: «الأدب يتجه نحــو ذاته، نحو جوهره: الزوال». ونحن لا نشــك فــي أن فكرة الــزوال نتاج الاســتهلا­ك/ تقــادم الزمــن/ تغيّــر البيئــة/ تبــدّل الذائقة، وســببية ذلك ناجمة عن استهلاك الأشكال غير الملائمــة لروح العصــر أولا، وصــراع الأجناس الناتج عن التناقذ الأجناســي ثانيا. فالأدب « فضاء حر» ليســت له مدلولات ثابتة ومســتقرّة، وإنما هو فضــاء من الدلالات المتعدِّدة. ولكن من أين يبدأ زوال الأدب؟

من هنا «لم يعــد من وجود للواقعــي ولا للخيالي إلا بحدود ضيّقة» بتعبير جــان بودريارد، فالحدود بــن الواقعي والتخييلي تميل إلــى الزوال، لهذا يبدأ زوال الحــدود بين الواقــع والتخييل من «اســتعمار الواقع في تعالي الفضاء»، أي من «نهاية الميتافيزي­ا، والاســتيه­ام، ونهاية العلم التخيّلي». وقد تنبّه جاك رانســيير إلى أن معنــى كلمــة «الأدب بوصفه أدبا» فقــدَ معنــاه فــي القرن التاســع عشــر وحســب في أوروبــا، وصار يعني «فــن الكتابة بحــد ذاته». كما اعتبــر رانســيير لا مبــالات فلوبير تجــاه تجميل أي رســالة للأدب، علامة ديمقراطية، خاصــة أنه ألغى كل التراتبيــ­ة بين الموضوعــا­ت النبيلة والموضوعات الوضيعة ـ وبين الســرد والوصف، وصــدر اللوحة وخلفيتها، وبالتالي ألغى حتى التراتبية بين البشــر والأشــياء. ويمكــن أن نلحظ أن الأدب، لــم يقم على مبادئ التجانس والانسجام بين رؤاه وأفكاره، وبذا تعكس بنية الأدب تعدّد أشــكاله وأساليبه ووظائفه التعبيريــ­ة، أي بمعنــى أن الأدب بنيــة طباقية قائمة على اتحــاد التناقضــا­ت بين الأشــكال والمضامين. لهذا لم يعــد مصطلح الأدب مصطلحا عابرا للتاريخ، لكي يشــير إلى مجمل نتــاج فنون الــكلام والكتابة، فالكلمــة لم تكتســب معناهــا المعــروف إلا في وقت متأخر، وصارت تعني «فــن الكتابة بحد ذاته». وإن كان الأدب قــد وصــل إلــى نقطة الصفر، فــإن نقطة الصفــر تعني غياب الحدود فــي الكتابة بما يتجاوز )أكاذيب الأدب(.

اذن، الانتقــال من الأدب إلى الكتابة ؛ ليس تطورا، وإنمــا هو إبدال، والإبــدال هنا يعــــني القطيعة، أي نفيــا لقيمــة، وبتعبير محمــد بنيس «تعويــض بنية بأخرى».

وبذا نحن إزاء انتقالة مــن الأدب إلى الكتابة، غير أن هذه الانتقالــ­ة لا تقوم على الإبــدال وحده، وإنما على الإزاحة، تمهيدا لتحـّـولات جوهرية في الكتابة. )كما سنلاحظ ذلك في سياقات مقبلة(.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom