Al-Quds Al-Arabi

مسلسل «الخلاص»: نهاية العالم بين السياسة والعلم

- ٭ كاتب أردني فلسطيني

لقد شــهدت صيغ الترفيه تحوّلا مع انطلاق الشّبكات والشركات التي تقدم محتواها عبــر البث من خلال الإنترنت، وأشــهرها شــبكة «نيتفلكس» التي أحدثت طفرة في نمط الترفيه، وتراتبية المحتوى حيث بدأت المسلسلات التي تنتجها تتخذ نموذجا مؤثرا من حيث الكم والنوع، كما الموضوعات والأشــكال التي تعتمدها في محتواها، ومع أن الشــركة تنتــج الأفلام وتعرضها، غير أن تأثيرها يتجلى في المسلســات التي تنتج أعدادا كبيرة منها، مع الاســتعان­ة بنتاج شــركات أخرى، وقد لوحظ أن هذا الأثر العميق للدفق الدرامي ينطوي على الكثير من الأنساق والثيمات، وأهمها مقولة )نهاية العالم(.

صيغة نهاية العالم

لعل المشــاهد يلاحظ غزارة واضحة في إنتاج المسلسلات، خاصة تلك التي تتنــاول موضوع «نهاية العالم» الذي يعبر عنه بالإنكليزي­ة في ســياق ثقافي

توجــد جذور هذه الفكــرة أو التصور في معظــم الثقافات والأديــان. فهذا النوع من الأدب قد انتقل إلى الســينما والتلفزيون من عقود، ولكنه فــي الآونة الأخيرة بدا على قــدر كبير من التأثير، ضمــن بنية ثقافية تستهدف صيغة خطابية تعتمد على إعادة التمركز في الوعي عبر اعتماد مبدأ التكــرار. ربما هذا نتج بفعــل المزاج العام الكوني، الــذي بدأ يضطرب نتيجة الحــوادث المتكررة، بالتوازي مــع فيض المنصات الإعلاميــ­ة التي تروّج لهذا النمط من مقولة نهاية العالم، ســواء أكان عبر الصيغة التقليدية، أو الصيغة الدينية، غير أن أكثرها حضورا يتصــل ببروز قوى خارجية أو داخلية تتصل ببنيــة الأرض، وما تعانيه من اســتنزاف فــي المــوارد، أو نتيجة الاحتباس الكوني، أو أي تأثيرات بيئية، فضلا عن الغزو الفضائي أو اصطدام كويكب أو نيزك بالأرض، أو ظهور فيروس ينهي الحياة على الأرض. هذه الصيغ لا تبدو في الواقع المعاين ضربا من المســتحيل، فثمة مؤشرات واضحة تجعل من هذه الأعمال في صيغتها وجيهة التكوين، إذ هي لم تعد تندرج ضمن مقولة الخيال العلمي، إنما شــرعت تتحول إلى صيغ خطابية؛ فلا عجب - إذن- أن تنشط تلك الشــركات للإفادة من هذه الثيمة، التي تتغذّى على هواجس الإنســان، ومخاوفه، وكل هذا طبعا يتحقق في ســياق توفر البعد الرأســمال­ي لشركات تنظــر إلى أي طارئ بوصفه صيغة اســتهلاكي­ة، ضمن مبادئ ما بعد الحداثة، التي أحدثت تأثيرات جديدة في قيم الإنسان المعاصر ومنظوره.

المصير بين السياسي والعالِم

لقد ظهر العديد من المسلســات التي تناولت نهاية العالم، منها على سبيل المثال و و بالإضافةإل­ىمسلسل «الخلاص» ،وســوفنتنـ­ـاولبعضهذه­الأعمــالف­يمقالات مقبلة، غير أن أهمية المسلســل الأخير- وأعنــي «الخلاص» - تتأتى من كونه لا ينهض على صيغة مبالغ فيها من حيــث الاعتماد على نزعة الخيال العلمي، فكل أحداثه تجري على الأرض، في حين تتخذ العلاقات الإنسانية، والنموذج القيمي مركزا متقدما في المقاصد الكلية للمسلسل. المشاهد يتعلق بحدث يتمثل بقدوم كويكب فضائي، ســيقوم بتدمير الأرض عنــد ارتطامه. وبهدف تجاوز هذا المصير، نرى شــخصية «دارســن تانز» بوصفه عالما، ورجل أعمال يمتلك شــركة «تانز» للتكنولوجي­ا، التي تتعاون مع الجيش الأمريكي. يسعى «تانز» إلى اختراع أو ابتكار وســيلة تحول دون وصول هــذا الكويكب، بالتعاون مع الحكومة ضمن تداخل وتنافس مع روسيا، التي تسعى لتقويض المحاولة الأمريكية، كونها سوف تؤدي إلى ســقوط الكويكب على النصف الآخر من الكرة الأرضية.

يمكــن حصر النمــاذج النســقية القائمة في المسلســل عبر تحليلها، من خلال عدة جوانب، لعل أهمها مــا يتصل بتصويــر البيت الأبيض، خاصة الصراع على الســلطة بين تيارات داخل الحكومــة الأمريكيــ­ة، مــن خــال الاغتيالات والتصفيــة، والاقتراب من حافة حــرب أهلية. يمكن تأويل هذا التوجه بوصفــه تبصرا عميقا لتوصيف واقع أمريكا فــي عصر ترامب، أو نقدا للمنظومة السياســية الحاكمــة، على الرغم من أن المسلســل من إنتاج عام 2108، إلا أنه يحتوي على قدر كبير من الذكاء لنقد الدولة العميقة، أو المؤسســة التي تحكم البيت الأبيض، في سياق فلســفي وحضاري معاصر. تتجه الأحداث إلى تمثيــل بعض الصقــور الذيــن لا يتورعون عن إشــعال العالم، بغية تحقيق مصالح شخصية، ولهذا نرى صراعا بين الرئيسة الأمريكية الشــرعية الســيدة «مكينــزي» ونائبها «بينيــت»، فيمتد الصراع ليطال الجيش المنقسم على ذاته، حيث يســعى كل طرف للقضاء علــى الطــرف الآخــر عبر التصفية، أو من خلال اللجوء للقضاء، مع محاولة السيطرة أو التلاعب بالقضاة.

في ظل انشــغال أجهــزة الدولة وانقســامه­ما، ومحدودية الشفافية، تظهرجماعــ­اتثائرةعلى­هذهالمنظوم­ة الفاسدة، وتتمظهرفيج­ماعة«المقاومة»،وهمعبارة عــن ناشــطين سياسيين،وخبراءتقني­ينمنالشباب،الذين يحاولون تقديم رسالة قوامها فقدان الثقة بالطبقة السياسية الحاكمة في جميع أنحاء العالم، وهكذا تسعى المنظمة للســيطرة على منظومة الصواريخ النووية، بوصفها الوسيلة الأخيرة لتدمير الكويكــب، إذ تقوم المقاومة بتوجيــه الصواريخ نحو الدول الكبرى، كي تكون وســيلة ضغــط، بالتراصف مع محاولــة التحكم بعملية القضاء على الكويكب، مــن خلال اختيار مجموعة من علمــاء العالم لإطلاق مشــروع إنقاذ. مقابل هذه المجموعة ثمة مجموعة أخرى تبدو المســؤولة عن إشــعال الفتنة في البيت الأبيــض، وتتمثل بجماعة Q17 الســرية، وتتكون من )17( عضــوا من رجال الأعمال الأثرياء، الذيــن يقومون بتحريك أحجار الشــطرنج، والتحكــم بالزعامات السياســية، تبعا لمصالحهــم الخاصة في الخفاء، هي جماعة أشبه ما تكون بالماسونية، ولاسيما أنهم يقررون من يحكم البيت الأبيض، كما يتحكمون بمفاصل العالــم، وتوجهاته.. وفي معمعة هذه الأحداث يبقى «داريوس تانز» والشــاب «ليام» وبعض الأفراد من الحكومة، كوزيــر الخارجيــة «هاريس»، والســيدة «غاريس باورز» أوفياء للقيم التي تسعى لتجنب تدمير الكــون، من خلال جهود فردية، وتضحيات خاصة. في جانب آخر من الفعل النســقي للمسلســل، نقرأ إشــارات واضحة لتراجع الدور السياسي على حســاب العلم، وهنا يبدو أن صانعي المسلسل ينتقدون السياسيين وعدم قدرتهم على التعامل مع مستجدات العصر، حيث نرى الحكومة والدولة، بكل قوتها عاجزة عن التصدي للكويكب؛ فتســعى للاســتفاد­ة من عبقرية شــاب صغير«ليام» بقيادة «تانز»، ويأتي هذا على خلفية أحداث وتقاطعات متعددة، تتصل بمعنــى الاختيار والقــدرة على اتخاذ القــرارات المصيرية، ولا ســيما في حال أن هذه القرارات تســتوجب وجود ضحايا، أو التضحية بمجموعة من البشر، مع تنازع بين مصارحة العالم بالحقيقة أو إخفائها. لعل إحــدى أهم المقولات المشــتركة في هذا النوع من المسلســات، تتصل بتأمــل معنى اتخاذ القرار، ومدى أخلاقيته في ســبيل المصلحــة )الكونية(، بالتــوازي مع تبرير بعض الأفعال ضمن صيغ ميكافيلية، كما نشــاهد نزعات لنقد البيروقراط­ية، وضيق الأفق الحكومي، وهذا كله يتراصف مع نقد نماذج دوغمائية، أو مثالية أو ذاتية، لا تحفل بما يحصل، فنرى ظهور جماعات دينية تخرج بصيغة قوامهــا تقبل الواقع، وعــدم المقاومة لأن هذا يعــد قدرا، لكن الرسالة المضمرة تتضح عندما نكتشف أن هذه الجماعة الأيديولوج­ية تتواطأ مع جماعة فنــرى اجتماع تجار الأيديولوج­يا مــع الأثرياء للإفادة من المشكلة، أو للبحث عن خلاص فردي، فيسرقون المركبة الفضائية التي وضعها «تانز»، بوصفها السيناريو الأخير للمحافظة على الجنس البشري عبر اختيار (160( شخصا مميزا للبدء في الحياة مرة أخرى. تبدو شــخصية «درايوس تانز» مؤثرة أو ذات طبيعة جاذبة للمشــاهد، حيــث يتمتع بالجــرأة والمغامرة، وقدرته على اســتخراج الأفــكار المبتكرة،

بالتوازي مع وجود الشــاب «ليام»، الذي توضع على عاتقــه مهمة إنقاذ العالم، وهنا نلمح صورة شــديدة الأهمية، من خلال نقد قدرة المؤسســة الحكوميــة على مواجهــة المســتجدا­ت، وإنقاذ العالم، فتبدو أقرب إلى شبح مقابل شركة «تانز» ومنظمة «المقاومة»، بوجود نخبة من علماء تقود مهمة الإنقاذ، غير أن المسلسل في منعطف على مســتوى ســرد الأحداث، يقودنا إلى نقد السلطة في البيت الأبيض، حيــث تؤول مهمة رئيــس الولايات المتحدة إلى تانــز )العالم(، مع عبارات تتصل بأن هذا العصر لا يصلح السياسيون لقيادته كونه يحتاج إلى العلماء القادرين على خلق تصور أفضل لعالم الغد، مع إيجاد حلول للمشاكل، وهذا يبدو موفقا في تكريس هجاء خطابي للسياسيين من قبل صناع المسلسل، حيث يصور فشل القادة في خلق عالم متناغم، وأخلاقي، فهم غالبا ما يلعبون على التناقضات والاختلافا­ت واســتغلال المشاكل، من أجل البقاء في السلطة، في حين أن «تانز» بعد أن يخرج بوطنه من أزمته يتخلى عن الرئاســة لرئيس يؤمن بالحقيقة والشفافية والعدالة.

إصلاح الإنسان

من القضايا التي احتملها المسلســل في النموذج النسقي، التنبه إلى خطر الأســلحة النووية، حيث تتخذ هــذا القضية جزءا من توجيــه النقد القيمي للدول، ومحاولة اســتخدام هذه الســاح للقضاء على بعضهم بعضا، فهذه الأســلحة باتت لعبة يمكن لأي كان من اختراق شيفرة الإطلاق، أو التحكم بها عبر النموذج التقني أو الذكاء الاصطناعي، الذي يكنى عنه بالكمبيوتر الضخم المسمى «تيس»، والذي ابتكره «تانز».

المسلسل يمتلك رؤية عميقة للمشكلة القيمية التي تتصل بالعلم، ودوره في تحسين حياة البشــر، على الرغم من أن الأخير هو المعضلة، ففي أحد المشاهد تقول إحدى الشــخصيات، بــأن العلم قادر على حل جميع مشــكلات العالم، ولكنه غير قادر على إصلاح طبيعة الإنســان، فالخطــر الحقيقي الذي يتهدد وجودنا، والعالم الذي نعيش فيه، لا يتأتى حقيقة من قوى خارجية، إنما يكمن في وجود الإنسان وجبروته، خاصة عدم قدرته على التعامل مع ذاته، بوصفه وجودا يتساوى مع باقي الموجودات، فالإنسان محكوم بالرغبة في السيطرة، واستغلال كل شــيء لمصلحته الخاصة، كما الاســتئثا­ر بكل شيء. هذه القيم بدت في المسلسل ضمن صيغ فنية، مزجت بين الإبهار المرئي المتزن، مع الاعتماد على ســياقية الحدث، وعمق الفكرة، التي نلمحها لا عبر صيغ الحوار وحسب، إنما التلقي في ســياق مشــهدية الأحداث التي تعمد إلى التشويق على خلفية توفير علاقات إنسانية تتناول الحب والعائلة والإرادة، وغيرها.

ينتهي المسلســل في جزئيه حين يكتشــف «تانز» بأن هذا المقبل الفضائي ليس كويكبا كون حركته تشــبه الطائر الطنان الذي لا نستطيع رصد مساره، وهكذا يكون مســار الكويكب غير موجه للأرض، فــي حين أن كافة الابتكارات من محركات كهروميغناط­يســية أو أشرعه حرارية أو قذائف نوورية، أو جرار جذابية لم تعــد ضرورية؛ لأن هذا الكويكب جاء ليحمل رســالة ما، فنرى في المشــهد الأخير العيون، وهي ترقب انحرافه عن الأرض، غير أن مروره المربك، دفع الإنسان لاكتشاف ذاته من جديد.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom