Al-Quds Al-Arabi

أدونيس يمانيا

- ٭ كاتب وإعلامي يمني

في توقيتٍ عاصفٍ من حياتي عام 2011 جاء أدونيس إلى لنــدن، لتســجيل مختارات من شــعره لــدى إحدى شــركات الإنتاج الفنــي البريطانية. اتصلــت بي منتجة البرنامج، طالبة التعــاون، بمقارنة وضبط تزامن قراءة النــص العربــي، خلال التســجيل مع نظيــره الإنكليزي المتوالي الظهور على الشاشة. لا بد أنه تم اختياري لهذه المهمة بناء على اقتراح من أدونيس، أو بعلمه وموافقته، لكننــي قبلتها على الفور رغم انشــغالي أوائل ذلك العام بمتابعة تطورات الاحتجاجات الشبابية، خلال ما عرف بـ«الربيــع العربي». لم يكن بإمكانــي الاعتذار، وتفويت فرصــة لقاء لــن يتكــرر بأدونيــس المفكر والفيلســو­ف والشاعر، إلى جانب هذا كله الصديق القديم الكبير، بعد سنوات من الغياب.

فــي آنٍ واحدٍ تجاذبتني أمورٌ عدة جعلت مهمتي تبدو غيــر ممكنة، أولها أنني كنت إما مســتمتعا للمرة الأولى بقــراءة أدونيــس بصوتــه وروحــه لمجموعــات منتقاة مــن قصائده، أو أن يتحــول عندها تركيــزي إلى النص الإنكليــز­ي المدهــش، الــذي أعده مترجــم عراقــي، جعــل قصائــد أدونيــس تبــدو كأنهــا نصــوصٌ بديعــة أخــرى، روح أدونيــس موجودة فيها، لكنها بالضرورة لا تقوله تماما.

وصلــت بعــد هــذه التجربــة القصيرة إلــى قناعة، بأن الترجمة الجميلــة ليســت أمينــة، وأن الترجمــة الأمينــة ليســت جميلة، وأن الأفضــل هــو قــراءة الإبداع، بل الفكر كله أيضا بلغته الأصلية. ربمــا لــم تعجــب أدونيــس هــذه الملاحظــة حينــذاك، لا أدري كيف استســاغها، لكننــي قــررت أن أحاول إتمام مهمتــي بالقدر الذي أســتطيع. في أحد أيام التســجيل وردني خبر مقتل عشرات الشبان المحتجين في صنعاء، في ما عرف لاحقا بـ«جمعة الكرامة»، فأضاف هــذا الأمــر عامــا آخــر إلــى عدم قدرتــي علــى التركيز، فــكان لا بد أن أخبــر أدونيس بهذا، وأعتذر عن مواصلة المهمة، ومن المفارقة أنــه أخبرني أن ذلك اليــوم كان الأخير، غير أنه كان غاضبــا لما حــدث في صنعاء، بــل كان لديه موقف عام متحفظ للغاية إزاء ثورات ذلك «الربيع».

اليمن وأدونيس

ارتبــط أدونيس بعلاقــة قديمة مع اليمــن، حتى قبل أن يعــرف يمنيــا واحدا يقول في قصيــدة «المهد»، وهي إحدى أطول وأجود ملاحمه الشعرية على الإطلاق: عَلِي أَحْمَد سَعِيد، اسْمٌ يَمَاني سَــمِعْتُ هَذَا مِرَارا والنّقْشُ الَّذِي بَقِيَ مِنْ قَصْرِ غُمْدانَ يَعْرِفُ

اسْــمِي وَالحَجَرُ الذِي نُصِبَ لِعَشْــتَرَ يَتَذَكَّر اسْمِي لي فِي تُرَابِ اليَمَن عِرْقٌ مَا طِينَتِي قَابِلَةٌ وَغَرِيزَتِي حُرّة أَنَا الأُسْطُورَةُ وَالهَوَاءُ جَسَدِي الذِي لاَ يَبْلَى هَكَذا ذَهَبْــتُ مَعَ ظَنِّي الجَمِيلِ انْسَــلَخْتُ مِنْ أَنْقَاضِي وَرَمَيْتُ نَرديَ.

ثم تطورت علاقات أدونيس باليمن واليمنيين، بعدما تكررت زياراته لمدينة عدن، ثم صنعاء في أوقات لاحقة. لن أحــاول هنا مجاراة مــن كتبوا عن تجربــة أدونيس، ســواء مــن خــال دراســاتهم النقديــة أو طروحاتهــم العلمية، ولســت في وارد الحديث هنا عن فكره وإبداعه الشــعري، اللذين يعرفهما الجميع، ولكن عما اســترعى انتباهــي فــي شــخصه كإنســانٍ وصديــق. لا يختلف أدونيس في إنتاجه الفكــري والإبداعي عنه في الواقع،

فمثلما هو إشــكالي في فكره واســتثنائ­ي في شعره هو كذلك في حياتــه اليومية وعلاقاته بمن حوله. تتموضع تجربة أدونيس كفيلسوف وشاعر بين عقود طويلة من البحــث في الموروث وتحليله ونقــده، ومن التجريب في الشــعروتط­ويره وإبداعه، غير أن هذه الســطور مكرسة لإطــاق حزمة من الضــوء على علاقــة أدونيس باليمن وأهلــه تحديدا. أحــب أدونيــس اليمن الواحــد، وكتب عنه وفيــه بعضا من أهــم نصوصه الشــعرية وأكثرها عمقا. لم يمضــغ أدونيس «قات» اليمن فقط، لكنه مضغ اليمن نفســه، استغرق اليمن الذي استغرقه، وكتب عنه نصوصــا في عمق ما عنــاه اليمن فــي الأرض والحياة. على نحــو عبقري اســتلهم أدونيــس الكثير مــن تاريخ اليمنيــن، من فلســفة المعمــار في بلادهــم، من طقوس عيشــهم، مما لا يلفت الانتباه إلى ما يلفت في الكثير من الصور التي التقطها وأوضحها بحسٍ عبقري خلاق. في رائعته «المداعة» وهي وســيلة التدخين اليمنية التقليدية الشــهيرة، نهــب أدونيــس روح اليمــن، أنفاســه، نكهة الأرض، وعبق التاريخ: «أضع شفتيها بين شفتي، عنيتُ المداعة، راميا شــفتيَّ في جوف الرمانة، حيث تستقبلها رئــة هواء يبــدو كأنه آخــر الهــواء، الذي تبقــى لنا من فراديسنا الضائعة».

ســألت صديقــه عبدالعزيــ­ز المقالــح، مــاذا يريــد أن أحمله لأدونيس في طريقــي ذات يوم إلى باريس فقال: «مداعــة» وأضاف: «لا توجد لدينا هــذا العام إصدارات جيــدة لنهديها إليه». بالفعل أرســل المقالح إليّ «مداعة» لا تشــبهها أي مداعــة، تحفــة خالصــة مــن فــن اليمن حملتهــا إلى باريــس، وفي مطار «أورلــي» كانت المداعة مثار دهشــة، وموضوع حديث طويل وغريب بيني وبين ضابطة الجمارك.

أدونيس الذات والكرامة

زرته في فندقه في صنعاء، عندما جاء إليه من يقترح عليه أن يقوم بزيارة للرئيس الراحل علي عبدالله صالح فكان رد أدونيس «لماذا لايزورني هو؟» ولمعرفتي الجيدة بشــخصية كلا الرجلــن، أدونيــس وصالــح فقد كنت متحفظــا، وأعرف أنــه لا يوجد موضوع يمكــن أن يدور بينهما حديث حولــه، حتى لخمس دقائــق، وقد ينتهي اللقاء بما لا يحمد عقباه، رجــوت من صاحب «المبادرة» ألاّ يخبــر صالــح بجــواب أدونيــس، لكــن المشــكلة أنه أخبره. وفي أول لقاء جمعني به ســألني صالح بتهكم: أين صاحبــك «المبدع»؟ ثــم نهض من كرســيه ومضى، وفي لقاء تالٍ ســألني ساخرا ما هو «الإبداااع»، ففهمت أيضــا أن ســؤاله مرتبط بشــعوره بالإهانــة من موقف أدونيس. حاولت تبسيط الأمر بأن قلت له إن «أدونيس

يعيش في باريس، حيث يعتاد صديقــك الرئيــس فرانســوا ميتران فــي كل يومين أو ثلاثة من الأســبوع أن يشــرب قهوة الصباح مع أربعة أو خمســة من الفلاسفة، يدعوهم إلى أحد فنادق باريس وليس إلــى قصرالإليزي­ة»، وهذا هو عالم أدونيس الذي دعــــــــ­وناه لنكرمه، لا لكي نســيء إليه. رمقني الداهية صالح لحظتها بنظرة لئيمة، شعرت معهــا كما لو أنــه لفظني من حياته، أو علــى الأقل أدرك أنــه في وادٍ وأنا في وادٍ آخر، ومع ذلك لم يقطع شــعرة معاوية بيننا، وتلك تقريبا كانت عادته مع كثيرين غيري أيضا.

أثر أدونيس

قصــارى القول إنــه كلما كنت ألتقــي بأدونيس أكاد أشــعر بأنني أخرج من عنده شخصا مختلفا، حين تلقاه

وتجلس إليه وتســتمع لحديثه، يخلصــك أدونيس مما لا تحتــاج إليه، ويحفظ أهم ما فيــك، ينخلك مثل غربالٍ، حتى يجعل منك أنت، ولا تكون سواك. تعلمت الكثير من أدونيس، حرية البحث، حق السؤال، توظيف الوقت في ما يجــدي، القراءة المتوالية لكتب يقــودك أحدها إلى ما بعده، وغير ذلك.

عندما زرته في شــقة صغيرة في باريــس، بعد ردود الفعــل التي أعقبت نشــر مجلة «شــارلي إيبــدو» صورا مسيئة لنبي الإســام محمد، وجدتني أمام ترسانة من الكتــب وليس مكانــا للعيش، لا بد أن هذه الشــقة كانت صومعة أدونيس الخاصة بالقراءة فقط، كنت أرغب في إجراء حديث معه حول جذور العنف في التاريخ العربي والإســامي، لكن المصور الذي رافقني وجد صعوبة في العثور على مســاحة كافيــة لنصب الكاميرا وتســجيل حديثنا. هناك آراء ناقدة بشــدة أحيانا لتجربة أدونيس ومغامراته في الفلســفة والفكر والشعر، بعضها يدخل في ســياق النميمة والغيرة المعروفة في بعض الأوساط الشــعرية والأدبية، ولا علاقة لها بـ«النقد»، ومع ذلك قد نتفق أو نختلف مع بعــض تلك الانتقادات، من زاوية أن أدونيــس أتى بمنهج صادم في البحث التاريخي، وبلغة تجريبية مغامرة في الشعر، لكن يبقى الأهم أن أدونيس يظل حالــة خاصة، فــي تاريخنــا وثقافتنا لــم أَجِد من انتقــده بالعمق، حيث كنــت دائما أتمنــى أن أَجِد مفكرا اســتطاع بموضوعية تفكيك الصورة التي ارتســمت في مخيلة جيلي لأدونيس كمفكرٍ وفيلسوفٍ لا يضاهى.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom