Al-Quds Al-Arabi

رسائل حب ملغمة

- ٭ شاعرة وإعلامية من البحرين

لــم أعــرف التمييز بــن رســائل الحــب الحقيقية والمزيفــة، إلا من خلال الأدب. فالحب في الواقع أكثر مادة قابلــة للتزييف فــي عالمنا البشــري. تذكروا أن الحيوان مقنع في محبته للإنســان، أكثر من الإنسان نفســه، لكــن من يرفــض الكلمــة الجميلة حــن يكون الشــخص في حاجة إليها مثل حاجتــه للرغيف؟ لقد اســتُخدِم الحب فخا لاصطياد أحدهم، كما اســتخدم ســاحا قاتلا للانتقام، واعتبره كثيرون في مجتمعنا مــادة أخطــر مــن الســجائر والكحــول والمخــدرا­ت، واقتنــاء الأســلحة وبيع الجنس. شــخصيا، كثيرا ما تســاءلت ما الهدف مــن ارتداء قناع الحــب، والتقرب من شخص آخر من أجل اســتغلاله؟ فخراب العاطفة قد تكون عواقبه وخيمة فوق كل التصورات الممكنة.

ينصحنا أندرس إريكســون عالم النفس السويدي أن نتوخــى الحذر قبــل تحرير عواطفنــا والتعبير عن حبنــا لأحدهــم، بل يذهــب بعيدا فــي تحذيــره ذاك، حــن يربط بين الحب المزيف والكراهيــ­ة المدمرة، قبل أن يفتــح أعيننــا علــى مُرَكبات الحب علــى اختلافها، التي غالبــا ما نتعامــل معها كجُزَيْئات من مشــاعرنا المغلوطة، فلا نفرق بينها وبين الحب المكتمل الناضج. يســلط التحليل النفســي الكثير من الضــوء على هذا الموضوع المعقد، لكنه يظل بعيدا عن اهتمامات الناس، إلا إذا وقعــوا ضحايــا نصــب عاطفــي، أو ضحايــا أنفســهم، بعد أن تعذرت عليهم رؤية الحقيقة، كما هي في حينها.

إن الغيــرة والحماية المفرطة، أو الشــعور بالتملك، والملاحقة ليســت ســوى أجــزاء صغيرة مــن الحب، وهــي في الغالب حين تطغى على ســلوك الشــخص، فهــذا يعنــي أن ثمة خللا يجــب معالجتــه. لا أذكر أن أحدهم شــرح لي هذه الأمور بهذه التفصيلات، لكنني أذكر الروايــات التي فتحت عيني على مشــاعر الكبار الملغمــة. وأذكر في مــا أذكر أنني كتبت رســائل حب لصديقــة، كنــت وســيطا جيدا بينهــا وبــن حبيبها، لكنني بالإطلاع على رســائله لها شعرت بأن الرجل لم يكن صادقا، وقد جعلني ذلك الإحســاس أشعر بثقل المهمــة التي أوكلت إليّ. كنت أصغرها بعدة ســنوات، ومع هذا كانت حاســتي السادسة متقدة ويقظة، فقد كنت أتوقف عند كلمات معينة، فيقشعر بدني، إنها لا تدل على الحب، ولكن على شــيء آخر غير سوي. كان ذلك الإحســاس وإن نبع من ردة فعــل طبيعية لمراهقة حذرة، إلا أن ما صقله هو النصوص التي كنت أقرأها، بدءا بنجيب محفوظ، ويوســف إدريس وإحسان عبد القدوس، إلــى عمالقة الأدب العربي فــي تلك الحقبة، الذيــن اجتهــدوا فــي تشــريح المجتمع العربــي لإبراز عقده.

فــي مجتمع محافــظ ومغلــق، كان الأدب ولا يزال عيننــا الحقيقيــة علــى الحيــاة العميقــة، كونــه كان محفوظا في صمــت الكتب، وبالطبــع تعالت أصوات كثيرة لمحاربة صوت الحقيقــة المنبعث من داخلها، إلا أن الدراما أخرجت أســرار الكتب للعلن.. ولا أدري إن كانــت تلك المرحلــة جيدة لمجتمعنا المرعــوب دوما من الحــب وتوابعــه، أم لا، فقد أدت إلى تســارع تطورنا، مثل ثمــار الخِيــم، والقطعــان المحقونــة بالهرمونات لتســريع تســويق لحمهــا، لم نفهــم الحب جيــدا، من خلال ما قدم لنا من نتاج مصري آنذاك.

تورط جيلنــا في علاقات ملغومــة، وأحب النماذج المشوهة لقصص الحب الفاشلة، وتعلم طرق الاحتيال العاطفي، وصدق مقولات التشــكيك فــي التغير نحو الأفضــل، فقد قُدمت المرأة في أغلــب الأعمال الدرامية العربيــة، ضحيــة لعواطفها، وقُــدم الرجل في صورة «الذئــب» المخادع. قلــة هم الأبطال الذين رســخوا في ذاكرتنــا الجماعيــة بمعطيــات إيجابيــة. والمثير حقا هو أن تلك الشــخصيات المخادعــة، حازت اهتمام فئة أوســع من المتابعين، ولعل ذلك راجع لرســائل الحب الملغمــة، التــي كانت تُمَــرر لنا عبــر وجــوه أحببناها لوســامتها وقدرتهــا علــى التمثيــل. ألم يكــن الفنان

محمود مرســي، رحمه الله، آسرا في دور سي السيد في ثلاثيــة نجيــب محفوظ؟ ألــم تكــن الثلاثية قصة تروي ما تخفيه أغلب البيوت العربية، إلى أن جاء دور الدراما التلفزيوني­ة لتضع في تصوراتنا ملامح الرجل الجميــل، ذي العينــن الملونتين وهو في قمة ســحره كمصيــدة ذكية لقلــوب المراهقات، اللواتي ترســخت لديهن صورة فارس الأحلام الوســيم، القاســي، ذي الشــخصية القويــة، المحترم من طــرف الجميع، الذي يخفي وجهه الآخر لمغامرات الليل.

إن إعــادة قراءة نجيب محفوظ، وكتاب جيله اليوم مطلــب ملــح، لمناقشــة نصوصهــم وطــرح أفكارهم، مقارنة مع تطورات واقعنا المعاش، ومع قراءات أخرى لآداب مــا بعد تلك المرحلــة، وآداب من خــارج بيئتنا. لقــد عمد ذلك الأدب إلى تكريــس أخطائنا وإخفاقاتنا بالتأكيد، وكان أي إخلال بذلك التوازن الوهمي، الذي عشــناه آنــذاك يُجَابَه من جهةٍ ما بــكاتم صوت، لذلك لم نســتفد كثيرا من تفادي البشــاعات، التي نقلها لنا بصيغــة الأدب، لم نكــن مهيئين ربما. وآمــل أن أكون مخطئة، كونــي انتمي لجيل لديه الكثير من الشــكوك تجاه رســائل الحب، والكثير من العقــد والريبة تجاه اعترافــات الحب، إذ يتبادر إلــى أذهاننا أنها قد تكون نهايتنا، أو نهاية من يعتــرف لنا بمكنونات قلبه. إنها آثــار الذين عبّدوا تلك الطريق بشــكل خاطئ، وتفننوا في جعله فأل شؤم بدل أن يكون العكس.

قــال الكاتــب فرناندو بيســوا ذات يوم: «رســائل الحــب إذا كان حبا، يجب أن تكون ســخيفة»، وأعتقد أن ســيمون دي بوفــوار اتفقت معه في هــذا المفهوم، حــن قالــت إن الحــب الحقيقــي يجعلنــا نتصــرف بسخافة، لكن ماذا نســمي الحب الوقور الذي يرتدي عبــاءة الرهبنــة؟ حب ســي الســيد لأم العيــال، حب الــا لغة، أو الصيــغ الكلامية المحترمة؟ فــي أي خانة نضعه؟ وهو المطلوب دوما في قواميســنا الاجتماعية المتفق عليها؟ هل يمكن الاستغناء عن اللغة في الحب؟ هل يمكــن تعويض الحــب بالهدايا الماديــة، أو بمبالغ نقديــة؟ وماذا لو كان الحب لا يقدر بثمن؟ هل تذكرون فيلم «اقتــراح غير لائــق» لروبرت ريدفــورد، المأخوذ عن قصة بالعنوان نفســه للكاتــب جاك إنغلهارد؟ هل تذكرون تلك الصفقــة الغريبة التي وضعت الحب في كفة، والمال في كفة؟ تلك كانت من أروع رسائل الحب للتعامل معه خارج المقامرة النقدية.

في رسائل كتبتها جورج صاند لألفرد دي موسيه، تســتأذنه بتهذيــب لا مثيل له «أحتفــظ بذكرى قبلتك في تلــك الليلة، وبودي أن أخبرك أني جاهزة لأمنحك عواطفي، وأكشــف لك روحي العارية، بدون أي حيل، تعال وزرني لنتحدث كأصدقاء بصراحة، سأثبت لك أني المرأة التي تســتحق الحب، أنا جادة، لست لعوبا، ولا مزيفة».

الشــاعر الرقيق الــذي مات قبل بلوغه الخمســن، كتــب بأناقة لصانــد، على الأقــل كانت رســائله غير ملغمة، أو هذا مــا أراد أخوه أن يثبّته في كتاب رد فيه عليها، إذ يبدو أن صاند كانت تتقـــــــ­ن فن المــــراو­غة بقلمهــا، وتعــرف كيف تســتعمل الكلمــات لاقتناص فرصها مــع الرجال، وقلما نجد هــذا النموذج متكررا في تاريخ الأدب والأدباء.

هذه الرســائل الثمينة ليســت ســوى مــرآة عكس الوجــه الآخر لنمــوذج لا نعرفه في عالمنــا العربي، مع أنني متأكدة أنه موجود.

فــي كتــاب ممتــع وخفيــف بعنــوان «الحــب فــي التاريخ» لســامة موسى، نجد قصصا من هذا النوع، ولا بــأس مــن اقتنائه والاســتمت­اع به فــي غياب متع أخــرى في هذا الزمن الكورونــي، أراهن على أن أغلب الكتــاب الذين أبدعوا في كتابتهم عن الحب، كانوا إما ضحايا، أو أصحاب مؤامــرات ذكية لاختلاق الحب، حتى يبقوا على قيد الكتابة.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom