Al-Quds Al-Arabi

ثورة العشرين: جدل عراقي متجدد

- *كاتب عراقي

علــى الرغم مــن محورية الحدث وأهميته في التاريخ العراقي المعاصر، إلا أن مــا حصل فــي حزيران/يونيو 1920 مازال يمثل موضوعا إشــكاليا تختلف فيه وجهات النظــر، ومن ثم تقييم الحدث، وبناء على ذلك يختلف التعاطي مع نتائجه ســلبا، أو إيجابا. ما بات يعرف في الســردية العراقية الرســمية باسم )ثورة العشــرين( تم تناولها في العديد من الكتب والدراســا­ت الأكاديميـ­ـة والمقــالا­ت والبحــوث، لكن جــزءا كبيرا من التعاطي مع هذا الحدث بقي أسير التناول العاطفي، الذي أســبغ الكثير من التبجيل على الحدث، وأحاطه بنوع من القدسية جعلت منه تابوها يمنع مسه أو تفكيك معطياته، للوصول إلى فهم تأريخي موضوعي لما حدث.

أما في وقتنا الحالي، فإن الانفتاح الكبير، والســهولة الطاغية التي وفرتها منصات التواصل الاجتماعي، فتحت الباب على الغارب، وبات بإمــكان الآلاف، أو ربما ملايين العراقيــن التعليق ســلبا أو إيجابا على مــا حدث، لكن الواضح أن الكثير من هذه الكتابات يشــوبها عدم الدقة، وعدم بذل الجهد لتحري المعلومــة الصحيحة، والنتيجة استســهال في إطلاق الأحكام، وســلبية حد الشتيمة، أو إيجابية حد التبجيل.

ويبــدو أن الجدل هــذا العام كان أكثر ســخونة، ربما بســبب الذكرى المئوية للحــدث، ومع ذلــك، وبعد مرور مئة عــام، مازال الكتّــاب والمدونون مختلفــون حتى في اختيــار اســم أو توصيف يطلــق على أحــداث حزيران 1920. ويذكــر المؤرخ العراقي كمــال مظهر أحمد في كتابه «ثورة العشرين في الاستشراق الســوفييت­ي» إلى نقطة مهمة، وهي تشوش المصطلح السياســي في التعاطي مع الحدث التاريخي، إذ يقول «الارتباك واضح في استخدام المصطلحات التأريخية، بأســلوب غير علمــي في معظم دراســاتنا»، ثم يعرج على الأحداث بقوله «إن من يتصفح المؤلفات العراقية مثلا يستطيع أن يعد عشرات )الثورات( التي شــهدتها البلاد في غضون أقل من ســبعة عقود من تأريخــه الحديث، فكل انتفاضــة جماهيرية، وكل خروج على الفســاد، وكل تمرد عشــائري، وكل حركة عسكرية، هي )ثورة( حسب تعبير الأغلبية الساحقة من مؤرخينا، بينمــا لكل من هذه الأحداث مفهومــه الخاص تبعا لطابع الحدث وأهدافه والقوى العاملة فيه».

يمكننا أن نصل من ذلك إلــى نقطة مفادها، أن الثورات هي تلك الحركات التي تســتهدف وتــؤدي بالنتيجة إلى حدوث تغيير في المجتمع، كأن تحول العلاقات أو النســق الاقتصادي، من الإقطاع إلــى البورجوازي­ة، مثلما حصل في الثــورة الفرنســية، أو تغيير العلاقــات الاقتصادية الرأســمال­ية إلى علاقات اشــتراكية مثل ثــورة أكتوبر/ تشرين الأول الروسية، أما ما حصل في العراق عام 1920، فهي بالنســبة للبريطانيي­ن، تمرد عشــائري، بينما يراها الباحثون الســوفييت، انتفاضة شعبية تحررية، موجهة ضد مستعبد أجنبي، أحدثت تغييرات سياسية لاحقة، إلا إنهــا لم تصل حد الثورة، لكنها لا تقــل عنها أهمية، وربما شكّلت مقدمة لتغيرات مهمة لاحقة.

ونجد البعض يســقط أحكامه، المؤسســة على وجهة نظــر معاصرة علــى الأوضــاع التأريخية قبــل قرن من الزمان، أي يضــع معيار اليوم على خريطة علاقات عمرها 100 عــام، ويريد أن يخــرج بأحكام ونتائــج صحيحة، وهذا بالتأكيــد إجحاف وعدم دراية، فالحركة الشــعبية عام 1920 كانت تتســم في الكثير من تفاصيلها بالعفوية، والمشاركون فيها كانوا بسطاء وأميين في الغالب، يقودهم قادة المجتمع التقليديين من شيوخ القبائل ورجال الدين، وبعض أفندية المدن المتكبريــ­ن، الذين لم يكونوا قبل ذلك يتكلمون مع القروي أو البدوي احتقارا له. لكن من جانب آخر، هنالك مبالغة فــي الحدث، وتصويره على إنه حدث عراقي، وطني، قومي، عروبي مناهض للاســتعما­ر، وقد اشترك فيه كل العراقيين. وهذا الأمر فيه شطط من الجانب الآخــر، إذ أن بؤرة التوتــر التي انطلقت منهــا انتفاضة القبائــل كانت حــوض الفــرات، إذ انطلقت من وســطه وجنوبه شــرارة التحرك، وتحديدا من الفرات الأوسط، من قبائــل الديوانية والمناطــق المحيطة بهــا، وباركتها بعض المرجعيات الدينية في النجف وكربلاء والكاظمية، ثم بعد حولي شــهر ونصف الشــهر، أي في منتصف شهر أغســطس/آب التحقت بالانتفاضة قبائــل أعالي الفرات من الفلوجة إلى دير الزور، وشــمل ذلك قبائل شمر ودليم ببطونها المختلفة، أما بغداد فكانت تلعب دور المحور المثقف من الحراك، عبر الســعي لبلورة مطالــب المنتفضين أمام الإدارة البريطانية، إذ شهد جامع الحيدرخانة، الذي مثّل

مركز الحراك في بغداد، الكثيــر من التجمعات الخطابية، والفعاليات الشــعبية الغاضبة من سياسة البريطانيي­ن، والمؤيدة لانتفاضة القبائل. كذلك من الضروري الإشــارة وبشفافية، إلى الأوضاع الاقتصادية والسياسية المختلفة، التي كانت تعيشــها مناطق العراق المختلفة، إذ كانت مدن حوض دجلة مستقرة نسبيا، وكانت الملاحة النهرية تعمل تجاريا في نهر دجلة بشــكل منتظم، وكانت الشركة الأهم في الملاحة النهرية هي شــركة بيت لنج لملاكها الإنكليز، ما يعني أن الوضــع الاقتصادي في مدن حــوض دجلة كان مستقرا، كما أن الشــيوخ القبليين لحوض دجلة كانوا قد تحولــوا مبكرا إلــى اقطاعيين ملاك لأراضــي قبائلهم في الثلث الأخير من القرن التاســع عشــر، بعد تنفيذ قانون الطابو في عهد الوالي مدحت باشا، ومن ثم قاموا بتحويل أبنــاء قبائلهم إلى وضع أشــبه بقنانــة الأرض المعروفة فــي الإقطاع الأوروبي، ما جعلهــم يحكمون قبضتهم على حمولاتهــم القبليــة، ومنعها من الانتفاضــ­ة، بينما كانت قبائــل حوض الفرات مــا تزال في طور أكثــر بداوة، ولم تعرف التحول الإقطاعي، والنتيجة اشتعال الانتفاضة في حوض الفرات، وهدوء في حــوض دجلة، نتيجة علاقات شيوخ عشائره الحسنة مع البريطانيي­ن.

كذلك كان حال البصرة المدينة الأهم حينها، والمنافســ­ة للعاصمة بغــداد، لأن البصرة حينها كانت ميناء شــمال الخليج الأهم، والأكثر ثراء، لذلك شــهدت مدينة البصرة ما عرف تأريخيا بالحركة اللامركزية، أو الحركة البصرية الانفصاليـ­ـة، التي تمحورت حول إقامــة نوع من الاتحاد الكونفدرال­ــي بين البصــرة والعــراق. وهنالــك وثيقة تأريخيــة مهمة في هــذا الصدد، هي المذكــرة التي وقعها وجهاء وشــيوخ البصرة، والتي قدمت إلى السير برسي كوكس المندوب الســامي البريطاني بعد انتفاضة 1920، وقد أبــدت النخبة الارســتقر­اطرية البصرية تخوفها من الاتحاد بين البصرة الثرية مــع بقية مدن العراق الفقيرة، وقد أشارت المذكرة إلى الفروق الحضارية بين مدن العراق المتخلفــة حينها، والبصــرة بصفتها مينــاء منفتحا على العالم، ويضم بين ســكانه جالية كبيرة من الأجانب، كما ذكَر طلب البصريين الســير برســي كوكس بان مدينتهم لم تشــترك في أعمال )الشــغب والتمرد(، بحسب وصف المذكرة لما عرف بـ»ثورة العشرين»، وإنهم كانوا مطيعين

للإدارة البريطانية وتعليماتها، وبالتالي فإن من حقهم أن يحظوا بمعاملــة مختلفة من البريطانيي­ن تميزهم عن بقية مدن العراق.

أما وضع كردســتان العــراق، فلم يكــن مختلفا كثيرا عن وضع البصرة، بل يمكننا القــول إنه كان أقوى وأكثر تماسكا، وأكثر وضوحا في مطالبه القائمة على الاستقلال، المســتند إلى الخصوصيــة القومية، وعلــى وجود قيادة كارزمية متمثلة بالشــيخ محمود الحفيد البرزنجي، الذي كان يقدم نفســه على أنــه ملك كردســتان، وكان يطالب البريطانيـ­ـن بتطبيق حــق تقرير المصيــر، الذي تضمنه خطــاب الرئيس الأمريكــي وودرو ويلســون في مؤتمر الصلح في باريــس. وكانت قضية تبعيــة ولاية الموصل تقلق البريطانيـ­ـن، إذ احتلها البريطانيـ­ـون بعد انتهاء الحــرب العالمية الأولى عــام 1918،عندما انســحب منها الجيش العثماني من دون قتال، ما يعني أن تحكيما دوليا مستقبليا قد يعيدها للتبعية التركية، بالإضافة إلى طبيعة إمارة محمــود الحفيد في الســليمان­ية، التي كانت تتمتع بنوع من الحكم الذاتي، كل تلك الأســباب جعلت بريطانيا تعامل الكــرد بنوع من الخصوصية، مــا دفع باتجاه عدم مشاركة العديد من مناطق كردستان في انتفاضة 1920.

وتبقى أهمية ما حققته انتفاضة 1920 العراقية من حسم الصراع بين مدرســتي السياسة البريطانية، مدرسة الهند البريطانية، ومدرسة القاهرة البريطانية، إذ كانت الأولى تــرى مصلحة بريطانيا في ادارة دول الشــرق الأوســط إدارة عسكرية مباشــرة، أو إلحاق هذه المناطق بحكومة نائب الملك في الهند. بينما كانت مدرســة القاهرة ترى أن الأفضــل للامبراطور­يــة البريطانية المنهكــة من الحرب، والمفلســة نتيجة ما تكبدته من خســائر، إقامة حكومات محلية وربطها ببريطانيا، عبــر نظام الانتداب أولا، ومن ثم المعاهدات التي تضمــن المصالح البريطانية. وقد فازت هذه المدرســة في الصراع، وتم الاتفاق مع الأمير عبد الله بن الحسين على تسنم عرش شرق الأردن، والأمير فيصل بن الحسين على تسنم عرش العراق بعد سنة واحدة فقط من انتفاضة 1920، لتولد تغيرات جيوسياســي­ة مهمة في منطقة الشرق الاوسط من رحم هذه الانتفاضة.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom