Al-Quds Al-Arabi

السودان: الاعتصام السلمي سلاح الهامش الجديد

- ٭ كتب سوداني

الثورة الصناعيــة الرابعة، الثــورة التكنولوجي­ة/ الرقميــة، التي هــزّت أركان عصرنا الراهن، أشــاعت المعلومة وعولمتها، قافزة بالوعي البشري قفزات هائلة، لدرجة أن الأميين اليوم قــادرون على امتلاك قدر محترم مــن المعرفة والثقافة، سماعا ورؤية. والنتيجة هي اتساع قطاعات المجتمع التي باتت قادرة على معرفة ودراســة ما يدور حولها، ومن ثم تحديد أدوارها فيه، من أجل تحقيق تطلعاتها المشــروعة لعالم أكثر عدالة ورحابة. وأعتقد أن قفزة الوعي هذه، ســاهمت في إعلان ميلاد ثورات أبناء الهامش والمناطق الطرفية في السودان، والتي اتخذت اشكالا متعددة، تبعا للاختلاف والتنوع الإثني، ووفقا لتفاوت مستويات التطور الاقتصادي والاجتماعي وكل تفاصيل الجغرافيا السياسية، وكذلك حسب سطوة وقبضة الســلطة المركزية على هذه المناطق، واخيرا حسب القدرات والإمكانات الذاتية لهــؤلاء الثوار. وما كل الاتفاقات التي وقعها نظام الإنقاذ في الســودان مع الحركات التي حملت الســاح في الأطراف، بما فيها الحركة الشعبية لتحرير الســودان وحركات دارفور ومؤتمر البجا، إلا دليلا علــى طبيعة هذه الثورات ونجاحها بدرجــة أو أخرى. وهذا أمر له دلالته. فأن تأخذ الثورة في الســودان منحى إثنيا، لــم يأت من فراغ، بل جاء كرد فعل طبيعــي لهيمنة الثقافة العربية الإســامية في المركز منذ الاستقلال، والتي اكتسبت بين يدي سلطة الإنقاذ طابع الطغيان والاستبداد، المترجم إلى عنف، تجاه الثقافات والقوميات الأخرى، مما دفع الأخيرة للرفض والتمرد. والملاحظ، أن هذا التمرد، لم يكن ضد سلطة المركز وحدها، وإنما تفجّر أيضا ضد القوى السياســية التي ظلــت، ولفترات طويلة، تحتكر التعبير عن هذه المناطق، لكنها فشــلت في تلبية مطالبها، بل زادت الطين بلة بممارساتها السياسية الخاطئة والمتراكمة عبر السنين.

ولقد كان للثورة الرقمية المدهشــة، وما صاحبها من متغيرات كونية عاصفة، الأثر المباشــر في تطور حركة الاحتجاجات والاعتصاما­ت في بلادنا، واكتسابها ســمات جديدة. فاحتجاجات واعتصامــا­ت مناطق المناصيــر بولاية نهر النيل 2011، ومنطقة لقاوة جنوب كردفان 2014، ومؤخرا منطقة نيرتتي وسط دارفور، والمستمر منذ أكثر من اسبوع، تضمر حالة سياسية، وأخرى فكرية، جديدة أكثر تقدما بالمقارنة مع حالات الاحتجاج الســابقة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والتي كانت محصورة في تكوين الروابط والأندية المناطقية والقبلية في المركز، كما أنها تختلف، أو تتمايز، عن الاحتجاجات المســلحة التي ظلت تقودها الحركات المسلحة في الهامش. ويمكننا مشــاهدة تخلّق هذه الحالة السياسية/ الفكريــة الجديدة، في عدد من الملامح. فهذه الاحتجاجات والاعتصاما­ت، وكأنها تؤكد أن المقاومة المســلحة لنيل المطالب والحقوق ليست قدرا محتوما، وأن هناك من يفكر في فعل مقاومــة لا يكون وقوده الأرواح الصاعدة من قتل الســوداني للســوداني، حتى وإن كان هذا الفعل فــي منطقة تماس مياديــن القتال الدائر اليوم، احتجاجات لقاوة ونيرتتي نموذجا، وحتى وإن واجهت الســلطات هذا الفعل السلمي بالعنف المســلح، احتجاجات المناصير نموذجا. ولعل الاستنتاج الرئيسي هنا، أن هذه الاحتجاجات والاعتصاما­ت السلمية، والمنظمة والواعية، تبنت شعار الإضراب السياســي العام، وترجمته إلى فعل الاعتصام في ميادين الأطراف، مؤكدة أن هذا الشــعار لم يعد ماركة مسجلة حصريا فقط لدى القوى الحديثة في المدينة وفي المركز.

أيضــا، كل هــذه الاعتصامات والاحتجاجـ­ـات ترفع شــعارات واضحة ضد التسييس والاستغلال الحزبي للقضايا التي تثيرها، وتتمسك بها بقوة، دون أن ترفض السياسة أو الأحزاب، ودون أن تتوهم هي، أو نتوهم نحن، أن اعتصاماتها واحتجاجاته­ا هذه بعيدة عن السياســة. أيام الإنقاذ، ربما كان رفض التسييس وإقحــام الحزبية في هــذه الاحتجاجات يأتــي تخوفا مــن ردة فعل الحكومة الشرســة والمتوقعة حال ظهور الأحزاب في الصورة، ممــا يهدد الحقوق. لكن، أعتقد أن هذا الرفض، في الأســاس، ينبع من فكرة تمتين وحدة وتوحد المحتجين حول القضايا المطروحــة، وتحصنا ضد مرض التجيير الحزبــي الذي كثيرا ما يفضي إلى الصراعات المضيعة للحقوق، مثلما يفضي إلى الاســتجاب­ة لاغواءات كراسي السلطة والسلطان على حساب حقوق الناس. ولعل الاحتجاجات بذلك، تود إرسال إشارتين هامتين، الأولى رسالة تحذيرية إلى الحكومة بألا تبتذل الأمر وتتهرب منــه، وتتحلل من مهامها وواجباتها في مخاطبــة المطالب الحياتية في مناطق الهامش عبر اختزال القضية ووصمها بأنها أحد أوجه الصراع السياسي بين الحكومة ومعارضيها، كما كانت تفعل الإنقاذ. والإشــارة الثانية مرسلة إلى الأحزاب والقوى السياسية، وتتضمن نقدا ورفضا لسلوك هذه الأحزاب ومناهج عملهــا التي لا تضع مناطق الهامش وقضاياها ضمــن أولويات اهتماماتها. ومن ناحية أخــرى، فإن مواقف المحتجين تجاه التســييس والحزبيــة، فيما يخص القضايا المحــددة موضع الاحتجاجــ­ات، تعكس أيضا وعيــا متقدما يتجلى في إدراك أن تنمية مناطقهم لن تتأتى من خلال مسؤول حاكم، ولو كان متبوئا رتبة رفيعة في الدولة، ما دامت تنمية المناطق المهمشــة ليســت ضمن أولويات هموم الدولة، وليســت ركنا من أركان اســتراتيج­ياتها، وفي رفضهم إغراء الانضمام للحــزب الحاكم من أجل تحقيق أهدافهم المعلنة، ورفضهم أن يســتخدم النظام، أي نظام، ابناء المنطقة المنتمين للحزب الحاكم لكســر شوكتهم. ومن هنا قناعتي بأن الاعتصامات والاحتجاجا­ت المناطقية هذه تحمل بزرة فعل سياســي جديد سيتعلم بسرعة كيف يضع السياسي، أو نائب الدائرة، أو المسؤول الحكومي، في كرسي المساءلة، ويواجهه بالاستجواب­ات والاستفسار­ات ويحاسب على أدائه.

حكومة الإنقاذ المبادة كانت تتهم المحتجين والمعتصمين بتنفيذ مكائد ودسائس المعارضة المســلحة. ومع ذلك، لــم يخف هذا الاتهام ولم يمنــع، مثلا، أهل لقاوة المعتصمــن في المنطقة المتاخمــة لميدان الحرب في جنوب كردفان من اســتقبال برقية التضامن التي أرسلها لهم القائد عبد العزيز الحلو، زعيم الحركة الشعبية/ شمال، رغم اختلافهم عن الحركة في منهجية وأسلوب المقاومة. استقبلوا البرقية بكل هدوء واحتــرام، دون أن يطوف في خلدهم أي تخــوف باتهامهم بالانتماء للحركــة، بل وكأنهم يرفضون مواقف الحكومــة التخوينية التي توصم بها مثل هذه الحالات.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom