Al-Quds Al-Arabi

كورونا وسلعة ما بعد الحداثة

-

المظاهــر الأبرز في أزمنة كورونــا المعاصرة لا تقتصر على إجــراءات الســامة والتباعــد الاجتماعي وإغــاق الحدود وتعطيــل الأشــغال وجمــود الاقتصــاد، إذْ ثمة ذلــك البُعد الخاصّ الذي يكشف حيرة العلوم عامة، في ميادين الأوبئة والمناعة والأدوية واللقاحات خاصة، إزاء الحدّ من انتشــار الفيروس ثمّ مقاومته وعلاج المصابين به. وقبل أن تستنسخ أســواق ووهان الصينية هذا الفيروس الرهيب، أو بالأحرى تنتزعه قســراً من مواطنه الحيوانيــ­ة الطبيعية؛ كان العلماء الصينيــون، مطلــع العــام 2019، قــد تفاخروا باستنســاخ خمســة قرود، اعتماداً على التكنيك الذي اســتُخدم أساساً في استنساخ النعجة الأشهر دوللي ‪.)2003- )1996‬

لكــنّ أهوال فيروس كورونا وضعــت جانباً تلك الأبحاث الصينيــة، التي تردّد أنهــا ذهبت إلى درجة استنســاخ أوّل طفلتــن، لولو ونانــا، معدّلتَيْن وراثيــاً؛ إذْ الأغلب أنّ العلماء أولئك استحوا قليلاً من انهماكهم في هذه المناوشة الخطيرة مع الخلايا الجذعية، في أوقات تشــهد عجز العلم عن إنقاذ مئات الآلاف مــن موت محتم. ومع ذلك فــإنّ أمثولة النعجة دوللي تبقــى ماثلة في الأذهان، أو لعلهــا تقفز بقوّة إلى أيّ مشــهد نوعي وكوني تشــير ســياقاته إلى اختراقات علمية استثنائية، أو إلى عجوزات علمية فاضحة ومربكة ومحيّرة؛ ســواء بســواء. وتبقى حاضــرة، بدورهــا، تلــك المناورات والأحابيل والمخططات التي تنخرط فيها مجموعات الضغط العاملــة لصالــح صناعات الــدواء والمســتحض­رات والمواد الطبية عموماً.

ونتذكّــر هنــا أنّ دوللــي، فور النجــاح في استنســاخه­ا على ذلــك النحو الدراماتيك­ي، احتلــت موقع المحطة الأعجب فــي تاريــخ انتقــال الحداثــة الأوروبية إلــى أطوار مــا بعد الحداثــة. وكيــف يُنســى أنّ النعجــة المرحة أخــذت أدمغة الغرب السياســية والروحية والعلمية على حين غرّة، ابتداءً مــن الرئيس الأمريكي الأســبق بيل كلينتون، مــروراً بالبابا يوحنــا بولــس الثانــي، وليــس انتهاءً بأســاطين هندســة الوراثة الحيوية من حملــة جوائز نوبل وبوليتزر، إذا وضع المرء جانباً كبار الشــركات العملاقة التي تحتكر الصناعات الدوائية.

كذلــك لــم يكــن عجيبــاً أن نســمع مَــن يهتــف، بحماس تبشــيري حارّ، أننا لا نعيش في عصور مــا بعد الحداثة، أو أحقاب ما بعد التصنيع، أو الأزمنة ما بعد الفوردية )نســبة إلــى صانع الســيارات الأمريكي الشــهير(، أو حتــى أطوار الرأســمال­ية المتأخرة )حســب تعبير ماركســيين مــن أمثال فردريك جيمســون(؛ وإنما نعيش في «أزمنــة دوللي»، على وجــه الحصر: ما قبل دوللي شــيء، و ما بعد دوللي شــيء آخر لا يشــبه أي عصر ســالف. وعلى صفحات «واشــنطن بوســت»، كانت جيسيكا ماثيوز قد بشّرتنا بأن العالم اليوم يدخل طور «الوعي ما بعد الاستنساخي!»

وفــي جانب آخر هــامّ من المســألة، لعلها ليســت مبالغة أنّ أكثــر النــاس فزعاً واضطرابــاً وبلبلة كان البروفيســ­ور الأســكتلن­دي إيــان ولموت نفســه، والفريق الذي ســهر معه آنــاء الليــل وأطــراف النهــار لإنتاج هــذه النعجــة الفريدة، وجعلهــا تتقافز بحيوية أمام العدســات. وبــدل الغرق في مشــاعر الفرح والفخار، كان البروفيسور يتابع بقلق أسئلة الاحتجــاج الشــكّ والامتعاض والإدانــة؛ ثم يقرأ مــا يقوله اختصاصيــو الإثارة حول الكارثة التي ســتحلّ بالبشــرية إذا ما ســمحت التكنولوجي­ا الجديدة لديكتاتور مثل الرئيس العراقي صدام حسين أن يعيد استنساخ عشرات من توائمه المطابقة، فيقوم هؤلاء بانتاج أســلحة الدمار الشامل، وغزو الكويت، وتكرار «عاصفة الصحراء» كلّ بدوره، وبمعدّل ربع قرن بين غزو وغــزو مثلاً! ثمّ بلغت أســماعه أنّ لعاب مئات مــن رجال الأعمــال أخذ يســيل للتــوّ، إزاء مختلف ضروب الاستيهاما­ت الاستثماري­ة، التي سرعان ما اقترنت بإمكانية الاستنســا­خ الحــرّ للســابلة والســائمة والــزرع والضرع، وحسب الطلب دائماً.

لكــنّ دوللي قضــت، كما هو معروف، عن عمر ناهز ســتّ ســنوات ونصف بعــد إصابتها بمــرض عضال فــي الرئة، وكان في مقدورها أن تعيش سنوات أطول في إسار المرض، كما ذكر معهد روزلين في إدنبره، لولا أنّ البروفيسور ولموت نفســه اتخذ قرار إنهاء حياتها عــن طريق حقنة قاتلة. وكان طبيعياً أن تعود إلى الصدارة أطروحة الفيلســوف الأمريكي تومــاس كون حــول قصور العلــم فــي إدراك الحقائق، وأن يُعــاد إنتاج مقولات مــا بعد الحداثــة بصدد علاقــة العلوم بالسياســة والاقتصــا­د والصناعــة ورأس المــال... علــى وجــه خــاصّ، فــي الســياقات ذاتها، بــرزت بقــوّة فرضية أدوار العلــوم فــي صناعة الواقع، ســواء عبــر الاختراقات التكنولوجي­ــة الناجحــة أم الإخفاقات، وعلــى صعيد البيئة والحياة البيولوجية والطبيعية أساساً.

ومــن الجلــي أنّ أمثولــة الاختــراق العلمي الاســتثنا­ئي، وإشــكاليا­ته الأخلاقيــ­ة بصفــة خاصة، لم تُســتذكر خلال الضجيج الذي اكتنف سجال البروفيسور الفرنسي ديدييه راولــت حــول فاعلية عقــار كلوروكــن في عــاج المصابين بفيــروس كورونا، على ســبيل المثال؛ ليس فقــط لأنّ العقار كان موجوداً أصلاً، لعلاج الملاريا؛ وليس، أيضاً، لأنّ جائحة كورونا لم تشــغل البشــرية جمعاء، فحســب. لعلّ الســبب يعــود إلــى أنّ عصــور الحداثــــ­ـة الغربيــة أدخلت الســلعة بوصفهــا قيمة، وعصور ما بعد الحداثــة الغربية حارت في ما ستفعله بالإنسان/ القيمة، وقد تحتّم أن ينقلب إلى سلعة أو استعارة للسلعة.

وبهــذا المعنى فــإنّ الاستنســا­خ الصيني، على مســتوى القــرود أو حتى الأطفال، يمكن أن ينتظــر قليلاً ريثما يتمكن العلم من قطع الشكّ باليقين؛ ليس بصدد الحفاظ على سلعة ما بعد الحداثة فقط، بل حول مسائل الحياة والموت.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom