عمالة الأطفال ظاهرة مؤلمة في مخيم الرشيدية قرب مدينة صور اللبنانية
يقع مخيم الرشيدية للاجئين الفلسطينيين على مسافة خمسة كيلومترات جنوب مدينة صور اللبنانية، ويبعد عن الحــدود مع فلسطين 15 كلم شمالاً.
وقد تم إنشاء المخيم القديم خلال فترة الاحتلال الفرنسي للبنان، وبالتحديد في عام 1936على تلة الرشيدية لإقامة لاجئي أرمينيا آنــــــذاك، وفـــي عـــام 1949 لجأ العديد من اللاجئين الفلسطينيين إلـى الرشيدية، وأنـشـأت وكالة الأمم المـتـحـدة لإغــاثــة اللاجئين الفلسطينيين «الأونـــروا» في عام 1963 المخيم الجديد للاجئين الذين تم إخلاؤهم من مخيم غورو قرب مدينة بعلبك، وتجمعات فلسطينية أخرى.
وتبلغ مساحة مخيم الرشيدية حوالي )2.5( كلم مربع، وقد وصل عدد سكانه المسجلين في سجلات «الأونــــروا» إلــى نحو )28( ألف لاجئ فلسطيني.
يشكل الأطفال دون الخامسة عشرة من العمر42 في المئة من إجمالي سكان مخيم الرشيدية، أي أن المجتمع الفلسطيني في المخيم يعتبر فتياً تبعاً للمقاييس الديموغرافية، الأمــر الــذي جعل أعباء الإعـالـة كبيرة على أربـاب العائلات في المخيم، خاصة في ظل منع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان من العمل في 72 مهنة في إطار الاقتصاد اللبناني.
ثــمــة مـــؤشـــرات اقـتـصـاديـة واجتماعية لها دلالات خطيرة حول أوضـــاع اللاجئين الفلسطينيين فــي مخيم الـرشـيـديـة، وبسبب منعهم من العمل في لبنان تفاقمت معدلات البطالة في المخيم، حيث وصلت إلـى نحو 80 في المئة من إجمالي قوة العمل خلال السنوات الأخيرة، كما كان لمنع السلطات اللبنانية دخـــول مـــواد البناء إلـى المخيم الأثــر المباشر لارتفاع أسعارها، مما أفقد عددا كبيرا من المهنيين من الاستحواذ على فرصة عمل، وخاصة في مهن: البناء، النجارة، الحدادة، الدهان، وغيرها من الأعمال المهنية، واضطر العديد منهم القيام بأعمال موسمية خارج المخيم، مثل قطف الحمضيات.
ونـــظـــراً لـضـعـف الخـــيـــارات
والأعــمــال المـوسـمـيـة، انتشرت ظــاهــرة عـمـالـة الأطــفــال لتصل نسبتهم إلى 5 في المئة من سكان مخيم الرشيدية وأكثر من 30 في المئة من عـدد الأطـفـال في المخيم يعملون في أشغال معظمها شاقة بالنسبة إلـى أعمارهم )حــدادة، بويا، دهان بيوت، كهرباء عامة، كهرباء سيارات، ميكانيك، بلاط، ألمنيوم ونجارة( وثمة من يعمل في تجميع الخردة من الحديد والتنك والبلاستيك وبيعه لتجار لبنانيين في جوار المخيم.
في الوقت نفسه فإن كثير من الأطفال الفلسطينيين يضطرون طفل فلسطيني يعمل في مخيم الرشيدية
إلى العمل في أسـواق المـدن وفي مختلف المجالات، إن في التحميل أو أعمال البناء أو تصليح السيارات أو تسلق الأشجار وقطف الليمون وغيرها من المهن الخطيرة.
قد يكون الحديث عن وجود عدد لا بـأس به من العاملين الأطفال في مخيم الرشيدية «عادياً» في ظل الحصار المعيشي والتمويلي المفروض عليهم وتصاعد الأزمات الاقتصادية والانهيار المعيشي والمالي الذي يتعرض له لبنان، إذ إن المشكلة لا تكمن هنا في الأرقام غير المحددة رسمياً حتى الآن، بقدر ما تتعلق بظروف هذا العمل القاسية، التي تطاول الفئة الأصغر سناً،
وبالتالي الأقـل قـدرة على الدفاع عن نفسها، في المخيم، ما يعرضها لأنواع فظيعة من الاستغلال، بدون أن يتسنى لها الاحتجاج.
قرر علاء، ابن العشر سنوات، منذ نحو عام تقريباً التخلّي عن علبة أقلامه وحقيبة كتبه المدرسية، أو حسب تعبيره «وجـع الـرأس» لينضم إلــى صـفـوف «الأطــفــال الكادحين» في المخيم. توفرت له فرصة عمل في أحد «كاراجات» تصليح الـسـيـارات الـقـريـب من منزله، فعدّ نفسه محظوظاً لتمكنه من توفير مصاريف النقل. هكذا يستجمع علاء يومياً كل ما أوتي
من طاقةٍ في جسدٍ لا يزال في طور النمو، ليصبّه في عمله الشاق. تبدو علامات هـذا العمل المرهق جليّة على شـرايـن هــذا الطفل الـتـي تنتفض وتنتفخ بوضوح في جسده النحيل، مستاءة من الأشياء الثقيلة التي يقوم بحملها أو نقلها خلال قيامه بعمله، وهي أحياناً كثيرة تفوق وزنه الضئيل بأضعاف. إلـى ذلـك فـإن أوقـات العمل غير محددة، فهي قد تبدأ في الثامنة صباحاً، لتنتهي في ساعات متأخرة من الليل. ساعات عمل لا يتحكم بتحديدها إلا «ضغط الشغل» كما يقول الصبي الذي كبر قبل أوانه. يعترف علاء بأن عمره الفتي لا يحميه من شتائم وسباب رب العمل، وأصناف «التأنيب». وكل ذلك يتحمله هذا الطفل من أجـــل 15 ألـــف لـيـرة يتقاضاها أسبوعياً، أي 60 ألف ليرة شهرياً وما يعنيه هذا الكلام «بدي عيش» يقول الصغير، مقلداً ما يكون قد سمعه من الكبار في عائلته على الأرجــــح، ليس مـن دون قناعة. بمعنى آخر، بات يترتب على هذا الولد أن يعتمد على نفسه، لسوء حال عائلته مادياً.
ولجمع الخــردة، يذهب الكثير من الأولاد والفتيان إلى البساتين المحــاذيــة لمخيم الرشيدية «لكن
هذا العمل يبقى موسمياً» يقول عـلـي الأحــمــد )16 ســنــة( الــذي قضى نصف حياته في العمل في مجالات متعددة، في محل حدادة، أو كــاراج، أو في صالون حلاقة، إلى أن استقر الآن على مساعدة والده في جمع الخردة. وفي جميع الأحوال، فإن جلّ ما يتقاضاه علي من بدلات لا يتجاوز 60 ألف ليرة شهرياً.
هكذا تعيش فئة كبيرة من أطفال مخيم الرشيدية، خارج أدنى حماية مكفولة لــــأولاد، تـقـرّهـا جميع الشرائع والاتفاقيات الدولية. فوفقاً لدراسة عينية أجرتها جمعية «نـبـع» وتـنـاولـت المتسربين من المدارس في مخيم الرشيدية، تبين أن من أصل 345 طفلاً، هناك 30 في المئة يعملون في الأشغال الصعبة، علماً أنه وفقاً للدراسة عينها، فإن معظم المتسربين العاملين هم من الذكور، لكون غالبية الإناث تلازم المــنــزل، خصوصاً لــدى الفئات العمرية الصغيرة. ويرجّح مدير مركز التنمية المجتمعية في «نبع» علي ســـام، أن نسبة التسرب في المخيم تفوق 345 طفلا لتزيد معها نسبة العمالة، خصوصاً أن معظم الأهالي في المخيم وأثناء إجراء هذه الدراسة لم يعترفوا إلا بولد واحد متسرب لديهم. ويتابع
سلام مستفيضاً «إن سن العمالة تبدأ لدى هذه الفئة من عمر التسع سنوات، ويعملون في شتى أنواع الأعـمـال القاسية، بالنسبة إلى بنيتهم وفي ظروف صعبة، بحيث يتعرضون يومياً لأخطار جسدية ـ صحية لا تعدّ ولا تحصى، في المـقـابـل يـتـقـاضـون أجــــوراً جد زهيدة، ويتعرضون لأبشع أنواع الإهانات من رب العمل، كل ذلك يـعـد انـتـهـاكـاً صــارخــاً يخالف القوانين والمعاهدات والأعــراف الـدولـيـة، لا سيّما تلك المتعلقة باتفاقية حقوق الطفل التي وقّع عليها لبنان، علماً أن الاتفاقيات الدولية هي أسمى من القوانين الداخلية، بيد أن الدولة تتنصل مـن هــذه المسؤولية على اعتبار أنها غير معنية بالفلسطينيين، علماً أن المجلس الأعلى للطفولة التابع لوزارة الشؤون الإجتماعية، خــصّ الـاجـئـن فــي الكثير من البنود في تقريره المرفوع للجنة الدولية لحقوق الطفل». من هنا يحمل سلام «السلطات اللبنانية مسؤولية الوضع المأسوي الذي وصل إليه هؤلاء، لا سيما في ظل فرض الخناق على الفلسطينيين بحرمانهم من العمل ومـا شابه ذلــك، وهـو ما يــؤدي بالطبع إلى إنعدام الحوافز لمتابعة تحصيلهم العلمي، وكـذلـك يتحمل كـل من وكالة الأونروا المسؤولة عن رعاية اللاجئين، وأربـــاب العمل الذين يعمدون إلى استغلال هذه الفئة، قسماً كبيراً من المسؤولية».
وما زاد الأمور تعقيدا في الفترة الأخـــيـــرة، هــو انـتـشـار فـيـروس كورونا، وإقفال المدارس والانهيار المالي والاقتصادي وغلاء أسعار السلع الغذائية، ما جعل الأطفال وبـسـبـب حــالــة الـفـقـر والــعــوز، يبحثون عن فرص عمل وإن كانت شاقة، من أجل تأمين لقمة عيشهم.
الــفــقــر والـــعـــوز إلــــى جـانـب الأوضـاع المأساوية التي يتعرض لها اللاجئون الفلسطينيون في لبنان، تعد أسباباً أساسيةً تدفع بالأطفال الفلسطينيين لترك مقاعد الــدراســة، باحثين عن فـرص في أعمال شاقة لا تحتملها أجسادهم.
وعمالة الأطفال، ظاهرة سلبيّة مــؤلمــة، تطفو عـلـى سـطـح واقــع مخيّمات اللجوء في لبنان، إلى جانب ظواهر أخـرى، لكن لعمالة الأطـفـال قسوة أكبر، لما لها من آثار تُبقي ندوباً عميقة في جسد المجتمع في حاضره، وتستمر معه في مستقبله بفعل آثارها النفسيّة على الأطفال.
«عمالة الأطـفـال هـي الأعمال التي تضع أعباءً ثقيلة على الأطفال وتُـــهـــدّد صـحـتـهـم وسـامـتـهـم ورفاهيهم، أي الأعمال التي يُستغل بها ضعف الأطفال وعدم مقدرتهم على الدفاع عن حقوقهم، والأعمال التي تعيق تعليم الأطفال وتُدمّر مستقبلهم» بهذه العبارة عرّفت اتفاقية حقوق الطفل، في مادتها (1-32( مشيرة إلى الآثار السلبية التي تـؤثّـر على الطفل، وتدمّر مستقبله.