تركيا الجديدة وأذربيجان الجديدة
يعيــش الشــعب الفلســطيني حالة فريــدة من التجزئــة، ومنــع التواصل بــن أجزائه المختلفــة، ويفــرض عليه هذا الواقع من قبل إسرائيل، التي اعتمدت سياسة تفتيت الفلسطينيين كاستراتيجية مركزية للهيمنة الكولونيالية على فلســطين وشــعبها. هذه التجزئة هي صــورة المرآة للنظام الصهيوني الإســرائيلي، الذي خصص لكل قســم من الشــعب الفلســطيني نظاماً فرعيّاً خاصّاً له مكوّناته القانونيــة والحياتية، عبر هيمنة واحتــال وتقييد حرية الحركة والتواصل.
هكــذا يجــري عــزل أهلنا فــي غزّة عــن بقية الشــعب الفلسطيني، وعن العالم كلّه، ويفرض عليه نظام السجن، الذي تلعب إســرائيل فيه دور الســجّان، وهــذا نظام من اختراع إســرائيل، ولا يوجد له مثيل فــي العالم، ويعاني شــعبنا فــي القدس المحتلــة من حالــة انفصــال عن غزة والضفة والشــتات، ويقــع تحت نظام ضــم وتهويد، أمّا في الضفــة الغربية فهنــاك تقييدات للحركــة والتواصل بين مناطق الضفة ومع غزة والقدس والداخل والشتات، والنظــام المفــروض عليها هــو نظام احتلال اســتعماري عنصري، وفي الداخل الفلســطيني يعيش الناس في ظل نظــام التمييز العنصــري الكولونيالــي، وبعزلة تامة عن غزّة والشتات، ويعاني من تقييدات شديدة على التواصل والــزواج مــن أبنــاء وبنــات بقية الشــعب الفلســطيني، أمّا الشــتات الفلســطيني فهو محروم مــن الوصول إلى الوطــن، ومــن التواصل مع مــن فيه، وهو مــا زال يواجه نظام التهجير الإسرائيلي. هذا التفتيت الإجرامي للشعب الفلســطيني، يلزمنا بأن نطالب بحقّ، قــل من يطالب به، وهو الحق في أن نكون شعبا له كيان جماعي موحّد، قبل الحديث عن دولة واســتقلال، وقبل أن نطالب بهذا الحق من أحد، علينا أن نطلبه من أنفسنا.
لا شــكّ بــأن تقطيــع أوصال الشــعب الواحــد، وعزل كل جــزء منه عــن الآخر هو لبّ السياســة الاســتعمارية الإســرائيلية، التي تمادت في تطبيق شــعار «فرّق تسد»، وذهبــت بها إلى حدود بعيدة. في المقابل حاول الشــعب الفلسطيني، عبر منظمة التحرير وفصائلها ومؤسساتها، وعبــر المقاومة وتجاوز قيــود التجزئة، التمــرّد على هذا الواقع، ولم يستســلم لــه وحافظ على وحــدة كيانه قدر المســتطاع في ظروف في غاية التعقيــد والصعوبة. كان الرد على «فرق تســد» هو الوحدة أولا والوحدة الكفاحية ثانيا.
وهنــا لا بــدّ مــن الســؤال الجــارح: هــل الانقســام الفلســطيني الحالــي يســاهم في تقــديم خدمــة مجّانيّة لهذه الاســتراتيجية الصهيونية؟ وكأننا نقول للمستعمر لا تتعب نفســك في تجزئتنا فنحن نقوم بذلك بأنفســنا، وعلــى أكمل وجــه. والطامــة الكبــرى هي أن الانقســام لــم يعد سياســيا فحســب، بــل هــو انقســام جغرافي، ســيؤدّي اســتمراره إلــى خلــق واقع يصعــب إصلاحه. الوقــت هنا ليس فــي صالحنــا. يعتقد بنيامــن نتنياهو وحكومتــه أن أفضــل الطــرق للتحكّــم بمصيــر الشــعب الفلســطيني، وتقزيم حركته الوطنية، هــو المحافظة على الانقسام الفلسطيني الجغرافي والسياسي، بما ينسجم والاســتراتيجية التاريخية الصهيونية. وهو يســعى إلى إضعاف الســلطتين في غــزّة وفي رام الله، لســد الطريق علــى بلورة إرادة وطنية جمعيــة وموحّدة، وعلى أي تحدّ فلســطيني للاحتلال والاستيطان. من هنا فإنّ استهداف مشــروع التجزئة الإســرائيلي هــو أهم ما يمكــن للقيادة الوطنية الفلسطينية القيام به هذه الأيام. وإذا كان فرض التجزئــة والفصل على الشــعب الفلســطيني هو من عمل إســرائيل ونناضــل لإنهائه، فإن الانقســام هو من صنع أطراف فلسطينية، وبيدها تغييره.
تزداد أهمية المصالحة الفلســطينية، تبعا لتحديات من النوع الثقيل، تواجه شــعب فلســطين وحركتــه الوطنية، تجلّــت فــي وثائــق معلنــة واضحــة النــص والقصــد، وفــي مقدمتهــا قانــون القوميــة اليهودية، الــذي يحدّد سياسات إســرائيل وتجري ترجمته على الأرض بوتيرة متســارعة، وصفقــة القــرن، التي يجــري أيضــا تطبيق بنودهــا حرفيا عبر ما تقــوم به الولايات المتحدة بشــأن القدس واللاجئين والاســتيطان. ويأتي التطبيع والتتبيع المعلــن لكل من الإمــارات والبحرين، ومن ســيلحق بهما، ليشــكّل اقترابــا جديا لإســرائيل، وابتعــادا جديا ايضا عن فلســطين وقضيّتها. وهنا يصبح اســتمرار الانقسام الفلســطيني خطــرا داهمــا وخســارة للجميع، للشــعب وللقضية ولحماس ولفتح، ولكل الفصائل. لقد استبشر الكثيــرون خيــرا باجتماع الأمنــاء العامــن ومخرجاته، وزاد هذا الاستبشــار خيرا بعد لقاء وفدي فتح وحماس في الســفارة الفلســطينية في إســطنبول، وبعــد لقاءات وتصريحات تشــير إلى قرب تحقيق المصالحة. ما رشــح من كل هذا هو نصف مصالحة يشمل انتخابات تشريعية ورئاســية، تشــكيل قيادة موحّدة للمقاومة الشعبية، مع الالتفــاف على قضايا الخلاف الجوهرية الشــائكة، التي منعــت، حتى الآن، الاتفاق على المصالحة. المشــكلة طبعا
أن النصــف الآخر، الذي لا اتفاق حوله ولا مســار لاتفاق حوله، ســيعطّل نصــف المصالحــة الأول. مــن الصعب، ويكاد يكون من المســتحيل الإبقاء على الانقســام الفعلي القائــم، وإجــراء انتخابــات تشــريعية ورئاســية، التي تتطلب اتفاقا على إجراءات معقّدة وثقة متبادلة وحســن نوايا وشــفافية، ليســت متوفّــرة ولن تتوفّر مــا دام متن الانقســام قائما. أكثر مــن ذلك فإنّ إجــراء انتخابات بلا مصالحة حقيقية، قد يؤدّي إلى تعميق الانقســام وزيادة الاســتقطاب، وهو ليس الحل المطلوب للصمود والتحدي في الظــروف الصعب التي يمر بها شــعب فلســطين. من اجــل التغلّب على فــخّ نصف المصالحة، التــي من الممكن ان تأتــي بنتائــج عكســية، خرج بعــض محبّــي الحلول الوســط باقتراح خوض الانتخابات في قائمة مشــتركة لفتح وحماس، بمشاركة بقية الفصائل، وفي هذه الحال لا خــوف مــن النتائج ويطمئن كل طرف علــى عدم تزوير الانتخابــات، وعلى ضمان تمثيله في المجلس التشــريعي ســلفا. يضــاف إلــى ذلــك الاتفــاق، ســلفُا أيضــا، على حكومــة وحدة وطنية بمشــاركة كل الأطراف، وحتّى في ما يخص الانتخابات الرئاســية جرى تقديم طرح جديد، مــن بعض قيادات حماس تحديدا، وهو ترشــيح الرئيس محمود عبّاس، والتزام حماس بعد تقديم مرشــح لها، ما يضمن، ســلفا أيضا، فوز أبو مازن بالرئاســة. لم يصبح هذا الاقتراح موقفا رسميا لحماس، وإن حصل ذلك فهي بالتأكيد ستطلب مقابلا من النوع الثقيل.
من المســتبعد أن يتم الاتفاق علــى كل هذا، وأن تجري انتخابــات صورية، ومجرد طــرح اقتراحات الوحدة قبل الانتخابات، تشــير إلــى تخوفات من حكم الشــعب أولا، ومن نزاهــة الانتخابات ثانيا، ومن عدم احترام الحســم الديمقراطــي ثالثا. هذا اصلا إذا كانــت هناك نيّة حقيقية بإجــراء انتخابــات، أم أنهــا محاولة لامتصــاص النقمة الشــعبية، وكســب للوقت حتى موعد إجراء الانتخابات الأمريكية. وإذا كان هناك اتفاق على النتائج، فما الحاجة للانتخابــات. الأفضــل أن يجــري المضي فــي المصالحة وإجراء انتخابات لاحقا لا سابقا لها.
ومع أن ظروف الســلطة في رام الله في غاية الصعوبة بكل ما يخص الأوضاع السياسية والاقتصادية )الحالة الأمنية تحت الســيطرة(، وكذلك أحوال الناس والسلطة في قطاع غــزّة، فإنّ القيــادة الفلســطينية، التي تتعرض لحصار غير مسبوق عربيا وأمريكيا، لم تستنتج بعد أن لا مفر من المصالحة، وأن الامتناع عن الاتفاق عليها ســيأتي بنتائــج وخيمــة ليــس على الشــعب وحــده، وإنمــا على القيادة ذاتها أيضا. إن أهم فعل سياســي فلسطيني هذه الأيــام هو اللافعل وانتظار نتائــج الانتخابات الأمريكية، أمــا بأن يفوز بايــدن ويرمي جانبا صفقــة القرن ويلغي العقوبات، ويعيــد العلاقات والمســاعدات، ويفتح الباب أمــام المفاوضات مــن جديد )لا يصدّق! هنــاك من ما زال يحلــم بالمفاوضات(. وتأمل حمــاس أيضا أن يؤدي فوز
مرشّــح ديمقراطي إلى تخفيف الضغط عنها، تبعا لموقف الديمقراطيــن من حركة الإخوان المســلمين عموما، ولكن إذا ارتاحت الســلطتان فــي رام الله وغزّة ولــو قليلا فإن فرص المصالحة، القليلة اصلا، تقل أكثر.
ولكن ما الذي ســيحدث إذا فاز ترامب؟ أولا هذا ممكن، وثانيا مواقف ترامــب معروفة ومعلنة، وهو يقوم بتنفيذ سياســته وخطتــه أولا بــأول. إن اســتمرار السياســة الأمريكية على ما هي عليــه، يعني المزيد من الحصار على القيادة الفلســطينية، بتنفيذ إســرائيلي ودعم عربي. في هذه الحال ستزيد أسباب الذهاب نحو المصالحة، ويزيد الضغط الشــعبي بهذا الاتجاه. ومع ذلــك ليس من المؤكّد ان يؤدّي ذلك إلى مصالحة فعلية.
في مواجهة اســتراتيجية المســتعمرين بالكســر «فرق تســد»، يتبنّــى المســتعمرون بالفتح اســتراتيجية وحدة الصــف، للمحافظــة علــى الــذات وعلــى وحــدة الكيــان ولمنــع التفتيــت، وبالأســاس لأن وحــدة الصــف تمنــح المســتضعفين المزيد من القوّة على المقاومة وعلى تحقيق التحــرر والعدالة. في ثلاثينيات القــرن الماضي دارت في الصين حرب ضروس بين الشــيوعيين بقيادة ماو تســي تونع، والقوميين بقيادة تشانغ كاي شيك ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من القتلى. وبعد ان احتلت اليابان أجزاء واســعة من الصين، دعا الشــيوعيون، والحــرب الأهلية على أشــدّها، إلــى الوحــدة الوطنية فــي مواجهة المحتل والمستعمر، لكن، تشانغ كاي شيك، زعيم الحزب القومي «الكومينتــاغ» رفض ذلك، فقام عدد من الضباط باعتقاله وباقتيــاده مرغمــا لاجتمــاع مع الشــيوعيين، جــرى فيه الاتفاق على تشكيل جبهة وطنية موحدة ضد الاستعمار اليابانــي، ظلت تقاتــل حتى انتهاء الوجــود الياباني في الصين عما 1945.
إن المعادلة في غاية البســاطة وهي، أن مواجهة المحتل والمســتعمر أهم مــن الصراعات الداخليــة، ولكن «وحدة الصف» أفرغت من مضمونها، فالكل ينادي بها، ولا أحد يلتزم بهــا. الكل يقول صباح مســاء مصالحة مصالحة، ولا مصالحــة. تصــدر البيانات ويستبشــر النــاس خيرا بإنهــاء الانقســام، وبعــد مــدة قصيــرة تخــذل الأحلام وتتبدد الأوهام. لقد شــبع الشــعب الفلسطيني من خيبة الأمل وسئم من كلام بلا رصيد عن وحدة بلا تنفيذ، ولكن حتى لــو خذلنا المرة تلو الأخرى ســنظل ننادي بالوحدة الوطنيــة، فهي مفتاح وبوصلة الطريق نحو التحرر ونحو تصحيــح الغبن التاريخي، الذي لحق بشــعب فلســطين. وهــي برأيــي ســتأتي عاجــا أم آجــا.. ســواء أرادت القيــادات ذلك أم اقتيدت إليها مرغمة، وإذا لم يحدث ذلك فلا مفر من اســتبدالها بقيــادة جديدة تقــود نحو وحدة حقيقية، ونضال فعّال، لتحقيق العدل لشــعب فلسطين، الذي يستحق العدل.
استمرار الانقسام الفلسطيني خطر داهم وخسارة للجميع، للشعب وللقضية ولحماس ولفتح، ولكل الفصائل