Al-Quds Al-Arabi

كي يستمر إرث مالكوم كير

-

هذا الشــهر، شــاركت مع زملاء لي في مؤسســة كارنيغي للســام، في إطلاق اســم مالكوم كير على مركز كارنيغي للشــرق الأوســط، من أجل إحيــاء ذكرى هذا الأكاديمي المرموق، الــذي ارتبطت حياته وعمله بمنطقتنا بشكل وثيق.

بيــد أن الإرث الأكاديمي لكير وتاريخي الشــخصي، وهما مترابطان في منطقتنا، يكتسي أهمية خاصة في هذه المرحلة المصيرية.

نشر الرئيس الراحل للجامعة الأمريكية في بيروت مالكوم كير كتابه «الحــرب العربية الباردة» قبل أكثر من نصف قرن، لكن هذا العمل يبقى مرجعاً لفهم جــذور الأزمات الحالية في المنطقة، والمســار الطويل الأمد للمنطقــة وشــعوبها ومكانها فــي العالم. علاوة على مضمــون كتاباته وأفكار، يُجسّــد كير كطالب وأســتاذ وإنســان كرّس حياتــه في خدمة المنطقــة، التي عاش وعمل فيهــا، مثالاً مؤثراً وتحديــداً في هذه المرحلة المصيرية.

مالكــوم كير نمــوذج أو مثــال فــي المنطقة، لأنه شــدد فــي كتاباته، وبشــكل مبكــر، على الأدوار المحليــة للقرارات الكبرى فــي المنطقة، بدلاً مــن إحالة المســؤولي­ات للخــارج وتنصل الأنظمــة والقــادة منها. كتب فــي «الحرب العربيــة الباردة» عــن ضــرورة تبديد فكرة أن السياســة العربيــة هي انعكاس للقــرارات اتُخذت في عواصم أخــرى. ومثل هذه المقاربــة تتيــح تحديد المســؤولي­ات فــي منطقــة تغيب عنها المحاســبة بشــكل كبيــر. بالروحيــة نفســها، تحــدث كيــر عــن الارتبــاط الوثيق للأيديولوج­يــا فــي المنطقة، غالبــاً بالأجنــدا­ت الضيقــة، وتحولها إلى حجــج لخنق الأصــوات المعارضــة والمنافســ­ة، وطبعــاً محاولة طمس الفشــل في المجالات الاقتصادية والاجتماعي­ة السياســية. لم تكن هذه الأيديولوج­يات المنافسة، أكانت إســامية أو قومية أو اشتراكية، على ارتبــاط بالرغبة فــي فتح الطريــق أمام مســتقبل واعد، بقــدر خدمتها طرفــاً دون آخــر، في التنافــس السياســي، وتبريرها الفشــل بإحالته لمؤامــرات خارجية. لكن كير، وهو يُعالج هذه القضايا الشــائكة ويؤرخ للحــروب والصراعات، أصيب بحــزن عمّا آلت اليــه المنطقة. بعد حرب عام 1967، كتب أن السياســة العربية لم تعد ممتعة، إذ فقد حماسته في شــرح الحروب والتصدعــا­ت المتتالية. ذلك أن الحــرب أصابت بآثارها المعنوية شبكة علاقاته وأصدقاءه المتواصلة على مدى عقود، وبالتالي شــعر بارتداداته­ا في المجتمعات العربية، وســط الانقســام­ات الحادة والإحساس المتنامي بالعجز.

لم أحظ بشــرف التعرّف إلى كير شــخصياً. ابنة عمــي الراحلة، رندا المعشّــر، كانت تُجالس ســتيف ابن مالكوم وآن كيــر، في طفولته، حين انتَسَــبَتْ إلى الجامعة الأمريكية في بيروت في حقبة الستينيات، وكان مالكوم حينها أستاذاً فيها.

عندما أصبحتُ عضواً في مجلس أمناء الجامعة عام 2007، أطلعتني آن كيــر، التــي كانت هــي أيضاً عضــوا في هــذا المجلس، علــى العلاقة الخاصة التي نسجتها هي ومالكوم مع رندا. علاقة قُيِّض لها أن تستمر إلــى أن خطف الموت باكراً ابنة عمي. بيــد أني كنت أعرف مالكوم بحكم شــهرته التي طفقت الآفاق. كنتُ قد انتسبت إلى الجامعة الأمريكية في الفترة بــن 1972 و1976 وغادرت قبل خمس ســنوات من تبوؤ مالكوم منصب الرئيس فيها. ما أزال أتذكّر تلك الحماســة والإثارة اللتين سرتا في أوصال أســرة الجامعة بعد تعيينه. ولا عجب، إذ كانت تســبق ذلك شهرته منقطعة النظير كعروبي وباحث عظيم الاهتمام بالمنطقة.

أساســاً، كتــب مالكوم عــن بــروز نظامين عربيــن آنــذاك، أحدهما سياسي، والآخر اقتصادي برز مع الطفرة النفطية في السبعينيات. كان مالكوم، في كتابه «الحرب الباردة العربية» بالغ النقد لنظام سياسي لا يعتمد على الوحدة العربية، بقدر اســتناده إلى التعظيم الشخصي. كما كان لاحقاً ناقداً بالقدر نفسه لنظام اقتصادي انطلق من الطفرة النفطية في الســبعيني­ات، وكان غالباً مُغرقاً في الإنفاق المادي على مشــاريع لا طائــل فيها أو فائدة منها. مــع الوقت، تداعى هــذان النظامان: فالنظام السياســي انهار مع انطلاق الانتفاضات العربية عام 2011، وســار في ركابه بسرعة النظام الاقتصادي مع تدهور أسعار النفط عام 2014.

والآن، حــن نُلقــي نظــرة تأمليــة على الماضي، تتكشّــف لنــا فداحة الوقت الطويل الذي أهدر بفعل هذا النقص الفادح والجســيم في مجال الحوكمة الرشيدة، السياســية كما الاجتماعية - الاقتصادية. صحيح أن العالــم العربي تغيّــر كثيراً منذ أيام مالكوم، لكنه فــي مناحٍ أخرى لّما يتغيّر قط. فبعد مرور أكثر من خمســن سنة على نشر كتابه الذي ألمعنا إليــه، أدى تعثّر الحوكمة هــذا إلى اندلاع الربيع العربــي. كما أن وجود أنظمــة الرجــل الواحد والحزب الواحد، المتشــابك­ة مع غيــاب الاهتمام ببناء مؤسســات فاعلة وفعّالة، عنى أن الفراغ الذي تركه انهيار النظام العربــي القديم لــن يجري ملؤه، ســوى من أنظمــة دينيــة، أو من قوى مُتطرفة ومتعصّبة، أو كليهما.

لايزال إنجاز مالكوم الرؤيوي بعد نصف قرن، يُلهم العديد من الناس الذين يحلمون بعالم عربي يستطيع النهوض من كبوته، وإطلاق طاقاته الكامنة وقدراتــه الكاملة، وتطوير أنظمة سياســية واقتصادية جديدة تُسدد خطاها الحوكمة الرشيدة واحترام التعددية. وأنا كنائب لرئيس مؤسســة كارنيغي للســام، ومشــرف على المركز في بيروت وبرنامج الشرق الأوسط في واشنطن، أشعر بأني محظوظ وممتّن لكوني طرفاً في هذا الجهد.

 ??  ?? مروان المعشر٭
مروان المعشر٭

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom