Al-Quds Al-Arabi

أسئلة رواية «جريمة في مسرح القباني» للسوري باسم سليمان

-

روايــة «جريمــة فــي مســرح القبانــي» للكاتــب الســوري باســم ســليمان، ذات حمــــــول­ة ثقافية دســمة، ولغة مجازية، ومستويات متعددة. رواية لا تُعطــــــي قيادها للقارئ بسهولة، بل لا بــد من المعانــاة والإعــادة والتفكير، والتحليل للإمســاك بتلابيــب المعنــى والمــراد، وربمــا ينجــح القــارئ فــي مغامرته القرائية، وقد لا.

من خلال جريمة قتل عبدالله على مسرح القباني في دمشق، فــي صبيحة أول أيــام عيد الأضحى، يربــط الكاتب بين أحداث الثمانينيـ­ـات الدامية، والأحــداث الحالية الجارية في ســوريا، ويستدعي النص القرآني والأدب العالمي، في توليفة عالية المســتوى، ليس للتدليل على أفكاره والبرهنة على ما يظنه ويراه، لكــن ليضع بين يدي القارئ قضايــا في حاجة إلى إعــادة تفكيــر وتأويــل وبحــث، وأن لا تُؤخذ الأمــور على علّاتهــا، وأن لا يرهن القارئ عقله لغيــره، فالنص ملتبس، يحتمــل تعدديــة التأويــل، ويســتحق أن يكون لــكلٍ رأي فيه، مــا دام يبتعد عــن الشــطط، ويراعي ما تتقبلــه اللغة ومجازاتها، والفكرة وامتدادتها، والنفس وأغوارها.

لعل الســؤال الأهم فــي الرواية: «إلى متى يبقى شــال الدم متدفقا؟؟» ليس في سوريا وحسب، بل في كل مكان، وتعيدنا الروايــة إلى مقتل هابيل على يد أخيه قابيل، فمن القاتل، ومن القتيل؟ أبناء رجل واحد من أم واحدة، وهكذا في كل أنهار الدم التي تجري صغرت أم كبرت، خاصة في سلاســل الثأر التــي لا تتوقف، فالكل أخــوة، والخلافات مهما كبــرت، فثمة نقاط التقاء أكبر وأهــم وأولى أن تُقدم وتُراعــى، لكن، لا بد من «إســماعيل» ليتقبــل الفداء، حتى يتوقف الدم والذبح.

ثمة سؤال متعلق بإعادة النظر في تأويل النص، بشكل عــام، ومنه النــص القرآنــي، فالنص القرآنــي نص مفتوح علــى التأويل والتفكيــر، وإلا لجاء التفســير مرافقا للنص حتــى لا يزيغ أحــد، لكن تعددت التفاســير البشــرية، وما زالــت تتدفق، دلالة على التجديد، وتطور الفكر الإنســاني، وتوســع مداركه. صحيح أن المفســرين أشــبعوا القضايا الإشــكالي­ة بحثــا وتأويلا، لكن هذا لا يمنع مــن أن الفضاء يتســع لــكل جديد، ومــن ذلــك قصــة اصطفــاء آدم عليه الســام، وقتل هابيــل، وفداء إســماعيل، وغيرها. كما أن الرواية أشارت إلى بعض الروايات الإشكالية الأبرز عالميا مثــل، «الجريمة والعقاب» و«أحدب نوتــردام» وما تفيض به من قضايا وأســئلة وأفكار ما زالت حية مؤرقة ملهمة للكتاب والباحثين.

تثيــر الرواية ســؤالا نوعيــا عن الروايــة الثقافيــة التي قد لا تكــون جاذبــة للقــارئ العَجل الــذي يــروم التســلية، وإزجاء الوقــت انتظــارا للوصــول، أو دورا يزف، لكنها تُطــرب القارئ الــذي يبحث عن الجمال والإبــداع، وما يتحــدى عقله، ويدعوه للتأمــل والتفكيــر والتأنــي، فثمــة ثمــار لا تُنــال إلا بصعوبــة وجهد. فالكتابة والكتب كانت هي الأســاس في الرواية، شكلا ومضمونــا، فجميع شــخوص الروايــة هم قــراء أو باعة كتب، وبعضهم يمارس الكتابة هوايــة أو عملا، وحضرت في الرواية المسرحية المتكاملة، والمذكرات والقصص والأشعار، التي طغت علــى الرواية، ولــم تترك إلا القليــل للراوي العليــم، فكان دوره ثانويا. كما أن الإحــالات إلى النص القرآني والنصوص الأدبية والمســرحي­ة والكتب كانت بــارزة في الروايــة وفاعلة ومؤثرة، بحيــث لا يُمكن القفز عنها، فهي جزء أساســي مــن بنية النص الروائــي، والتعاطي معهــا ضروري للوصول إلــى فهم الرواية وأسرارها، والإمساك بمفاتيحها.

يُحيلنــا الســؤال الســابق إلــى قضيــة ثقافــة الكاتــب وانعكاســه­ا علــى ما يكتبه، وتوظيفهــا بفاعلية تُعطي ما يكتب قيمــة مضافة ونوعية، وهذا يُســلمنا إلى ســؤال القــراءة بحد ذاته؛ فهل القراءة مجرد فعل ماضٍ تسلوي؟ أم هي فعل مستمر منتج؟ وهل القراءة بالعين فقط أم بالعقل والروح؟ وهل القراءة بكميــة ما نقــرأ أم كيف نقرأ؟ وهــل القراءة هوايــة أم ضرورة؟ وهــل القراءة فعــل تغييب عن الواقــع ونســيانه؟ أم فعل وعي وتنوير وتغيير وبناء؟ وعشــرات الأســئلة التي تتناســل؛ إذ أن القــراءة هي أول خطــوة في خريطة الطريــق لأي عملية إصلاح وتطويــر وتغييــر ورقي، وهي الأســاس، ولذا كانــت أول كلمة

نزل بها الوحي )اقــرأ( لما لهذا الفعل من آثار ونتائج مســتقبلية، وخطرها الكبير على كل سلطة تحتكر تفسيرها الخاص، وتُغيِّب وعي الناس لمصلحتها.

ويبــرز ســؤال العلاقــة الحقيقيــة بــن الســلطة والشــعب، والســلطة هنا، كل ســلطة لها أتبــاع، ابتداء من الأب المتســلط، إلــى الجماعــات والأحــزاب والتنظيمــ­ات، مــرورا بالطوائــف والعصبيات والقبليات والقوميات، وانتهاء بالسلطة الحاكمة، فكلهــا تنظر لأتباعها علــى أنهم دُمى ليس أكثــر، فهي التي تصنعها كما تريد، من المادة واللون والحجم والشكل الذي تريــد، وتحركهــا وتنطق عنهــا عندما تريد، وهــي حتى إن احتضنــت هذه الدُمى وقبلتها وألبســتها الحرير والذهب، فهــي التي تحدد مصيرها في الوقــت، والكيفية التي تريد، فهي الخالق والواهب والمنتقم والمميت، ولذا فالسلطة تريد من أتباعها أن ينظــروا إليها نظرة المخلوق إلى خالقه، ليس لــه من الأمر شــيء، وهي علــى حق دائمــا لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفهــا، أمرها مُطاع، وحكمها فصل، ورأيها يقين لا يقبل الشــك. ولعل هذه العلاقة/الإشــكالي­ة هي ســبب كل مصائب الشــعوب وما تعانيه من ظلم وفقر وحرمــان، وإذلال وهــوان وخنــوع وعبوديــة، وصراعات داخليــة. وثيــر الروايــة ســؤالا: «هل لا بــد لــكل قتيل من قاتل؟» مــن حيث المبدأ، نعــم، لكن، قد يكــون القاتل فردا، أو مجموعة، أو ظروفا، أو أســرة، أو عشــيرة، أو مجتمعا، أو دولــة. ظاهرا، قــد تبدو الجريمة بشــعة إن ارتكبها فرد واحد، فيســارع الكل لإدانته وتجريمــه وعقابه، لكن، كلما اتســعت دائرة القتلــة، قلت بشــاعتها، واكتســبت بعض الشــرعية، حتى تصبح شــرعية تماما بدون لبس، وبدون أن يوجه أي اتهــام للقتلة. وما أقبح الدولة/المجتمع عندما تشــرعن الجرائم باسم الدفاع عن شــرف المجتمع ومكانة المجتمع وسمعة المجتمع، فيضيع حق المقتول تحت الأرجل، ويتفرق دمــه بين القبائل! الجريمة جريمة، والأصل أنه إذا زاد عــدد القتلة، أن تشــكل خطرا على الجميــع، وأن تُقرع أجــراس الإنذار، لما يشــكله الأمــر من خطــورة، وانحراف عن جادة الحــق والحقوق، وتغيير للقيــم، والانقلاب على الأصول والأعراف والفطرة البشرية التي تعتبر كل اعتداء على النفس البشرية اعتداء على الجميع، وقتل نفس بريئة قتــل للجميع، لكن للســلطة أبواقها التي تحــول الحق إلى باطل، والنور إلى ظلام، والمظلوم إلى ظالم، والحمل الوديع إلى وحش مفترس.

والمتأمــل فــي روايــة «جريمة فــي مســرح القبانــي - الحد والشــبهة» دار ميم ـ الجزائر 2020 ـ 167 صفحة، ســيجد أسئلة وتســاؤلات كثيرة، تطــرق تفكيــره، وتدعوه لإعــادة النظر إلى الأمــور مــن زوايــا مختلفــة، خاصــة أن بعــض الزوايا تحجب الرؤيــة، ومتحيــز ظالم من يكتفي بزاوية الســلطة، أي ســلطة، فهي أكثر الزوايا إعتاما وأبعدها عن الحقيقة.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom