Al-Quds Al-Arabi

التشكيلي العراقي عباس الكاظم: هيكل سرير... بقايا وطن

- ٭ كاتب عراقي

نــال الفنــان العراقي المغتــرب عباس الكاظــم، المقيــم فــي الدنمــارك الجائــزة الأولى في بينالــي القاهرة عام 1998، عن عمله الفنــي )وطن( وأصبح من ممتلكات متحف الفن الوطني المصري.

اعتمــد عبــاس إســلوب أو اتجــاه مــا يعــرف بفــن التجهيــز، أو التركيــب

، وهــو الفــن الــذي يعتمد الفكرة، كعنصر أساس فيه، وليس الشــكل. مشــاركة الكاظــم فــي البينالي جــاءت مصادفــة غيــر متوقعة لديــه، إذ أشــعرته إدارة البينالــي باعتــذار العراق عن المشــاركة فــي البينالــي، وطلبت منه تمثيــل بلده فــي هذه الفعاليــة الدوليــة، وكانت فرصة ممتازة أن يقدّم عباس نفسه كفنــان عراقــي جدير بتمثيــل الوطن، الذي ســدّوا منافــذ هوائه عنــه، وأحالــوه إلــى أشــباح تمتــد فــي الظــام، مــن هنــا بدأ التخطيــط لفكــرة العمل.

قدّم عباس ســريرا للنــوم مــن مــادة الحديــد، يرتكــز على كثيــب رملــي جلــب مادته مــن الأهرامات المصرية، الســؤال هو ما العلاقة بين السرير والرمل؟ وما الدلالات الرمزية التي أراد أن يوحي بها الفنان في اســتخدام هذه المــواد؟ وما علاقة هذه العناصر جميعا بالوطن؟

نعتقــد بأن أكثــر من عقدين مــن الزمن مضيا، ونزحت من خــال غفلتنا نماذج وتجارب أصيلة خــارج الوطن، واندثر العديد مثلها، بفعل ظروف الحصار والقطيعة الثقافية، أو تجاهلهــا، وعــدم معرفة قيمتها الفنيــة، إلا أن الأوان لــم يمت كليــا، وإنما ســلب نعمــة اليقظــة التــي تــؤدي الى الوعــي الكامــل بأهمية تعريف المتابع والمتخصص في الداخــل، لمنجز مبدعينا، الذيــن ذهبــوا الــى الأرض البعيدة، وغــادروا البلد يوم نخرتــه الحــراب، وتدثــرت مدنه باليتم والفقر والدماء.

وإذا تســنى لأي منــا أن يتأمــل التركيــب الفني لهذا العمل، سيجعلنا أقدر على فهمه، إذ ترتقي المهارة التقنية مع البعد الفلســفي فيه، فسيجد أنه صمم وفق أســس تمتد في عمق المعانــي، التي يحملها التراب في عملية الوجود )الولادة والموت(.

عنصــران مســتمران فــي حوارهما منــذ بدء الخليقة )الجســد والروح( عباس الكاظم أسرف

عباس الكاظم من أعمال الفنان

فــي خيالــه وراح يعيــد تأليف المنثور فــي المأثور الشعبي والأســاطي­ر، وجعل من الأشياء المألوفة قطعــة فنية متكاملة، تســتحث الرغبة في البحث عــن معنى الوطــن، بعاطفــة إنســانية تمثلت في السرير الذي يرمز للسكينة والاستراحة والتأمل والأحلام، والنــوم، والكوابيس والحب، والأمل، فهــو معادل للوطن، لكن هــذا الوطن مجرد هيكل لســرير خــاوٍ قاعدته ســراب، أشــار لهــا الفنان بمرآة على ســطح الرمل )القاعــدة( ، إذن لا ثبات ولا اســتقرار لهذا الكيان، كيان قلق غير مســتقر، زوالــه متوقع مع هبّة ريــح تعصف بهذا الوجود، إنه مجرد ســراب، كل شــيء مصنوع من الرمل، الحديــد والزجــاج، امتثــال متجانــس لعناصــر تخاطب مســتقبلا غير مأمــون، وثمة خيط يجمع أو يوصــل بين هذه المفــردات في هذا الضرب من الفن، إنــه لون من ألــوان التعزيــة، لأولئك الذين فقدوا وطنا.

في هــذه التجربــة التــي قدمها الكاظــم تكمن الأجوبة الصامتة للأســئلة، التــي تقدمت المقالة، وســيان أن تكون الأجوبة فــي منطقة الضوء من

أبصارنــا، أم فــي منطقــة الظــل مــن بصائرنــا. وثمــة حــوار خفــي بــن الشــكل والمثــال، بين الوطــن المتهــاوي، الغائب الحاضــر، بــن المنظــور والمضمــور، لكنــه حوار محكوم بامتحانات الإنســان العراقي وعذاباته. إن التعبيــر عــن الرؤيــة بمــا يوازيها مــن تأليف تشــكيلي يوحي بالجانــب الوجــودي ذاته، هنا تكمــن قــوة الفكــرة بلغة عبــاس الخاصــة، مثل أشــجار ســيزان التــي لا يمكنك ان تتســلقها، أو تــأكل فاكهتهــا. إن المتلقــي يســتطيع أن يشــف عن تاريخ الفنــان عباس الكاظــم وتجربته، التي فجــرت ينابيع ســيرته، التــي أراد أن تكون حرة كمولود جديد.

وهــو غالبا ما يتخذ المواقــف الجدلية من فنه، فينحاز إلى كشــوفاته الذاتية فــي أحيان عديدة، وهــذا ما فعله عباس إزاء أعمالــه الفنية، إن عمله )وطــن( رغــم بســاطة التكويــن، إلا أن المعالجة كانــت فــي غايــة الدقــة والعناية، وإســتطاع أن يجمــع عناصــره ويبــدع منهــا تأليفــا تشــكيليا جديــدا، يحمــل أكبر قــدر مــن المجــاز التناغمي، والتــوازن الإيقاعــي، لذلك نال إعجــاب الجمهور ودهشتهم، وحقق فوزا مســتحقا. وبموازاة هذا الإنجاز، ودهشــة الفــوز، كان حضــور الصديق كامل شــياع، قادما مــن أوروبا ليشــارك عباس فرحته بالفوز، أثرا بالغا في نفســه، وهو موقف لن ينساه أبدا لهذا المثقف الاستثنائي.

ســيرة عباس بدأها كطالب فــي معهد الفنون الجميلة في بغــداد 1970ـ 1976 ثم درس الفن في أكاديميــة الفنون الجــمــــ­ـيلة في رومــا وتخرج فيهــا عــام 1978، ودرس الفــن في كليــة الفنون الجميلة في الدنمارك وأقـــــــ­ام هناك، شارك في معارض وفعاليات فنية عديدة في أوروبا وبلدان عربية، ونال جائزة اليونسكو لترقية الفنون عام .1998

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom