Al-Quds Al-Arabi

أمي وحبيبتي وأنا

- ٭ كاتبة سورية

كنت يافعــا عندما غادرت مدينتــي الصغيرة، فــي ليل مظلم، أمــي وضعت علــى النافذة قنديلا ملأتــه زيتا ليبقى متوقدا، يقــاوم العتمة والريح، كنت أسير وألتفت ثم أسير، ضوء بيتنا كان يتلألأ خلال الضباب والظــام، ظلّ هذا النور في النافذة الصغيرة يضيء قلبي لسنوات طويلة، وأنا أجوب العالم الواسع ولا أستريح.

مشــهد الرحيل كان حاضرا بقــوة في حياتنا، هو قدر في بلادنا، شــاركنا دائما مســار الحياة، كل البيوتات فيها ركن فارغ، لغائب، وفيها مشــهد وداع، وفيها وعد بالعودة.

لــن أغيب طويلا يا أمــي، قلت لهــا. هكذا كنت أعتقد.. وعد يستكين في عمقه شعور مبهم بالذنب، ربما لن يتحقق، بعودة ما، في يوم ما.

كانت أمي ظــل الزمان، لكني أردت أن أبحث عن ظلي الخاص. فــي قلبي كان يؤرقنــي حلم، توق مبرح، أن أغرس روحي في فضاءات لم أطأها قبلا، أردت أن اقتحم الدنيا، أردت أن أحيك حكاياتي، من نسيج اللغات التي أتقنتها.

كتبت الكثير من الكتب، كتبت عن جدلية الزمن والحلم المفقود، أردت أن أبرهن على أن كل شيء له علاقة بكل شيء في هذا العالم، فأما أن تكون فاتحا في كافة المجالات أو لا تكون، كتبت عن العلاقة بين الفتوحــات الفكرية والفتوحــا­ت الغرامية، أردت أن أبرهــن أن الناس في هذا العالــم لا يريدون أن يلتفتــوا ويروا مــا يجري حولهــم، لا يريدون أن ينصتــوا الى الإيقاعات والأنغــام التي يفيض بها العالم، لكن امــي الأمية هزمتني، كان لها رأي آخر، قالــت لي يا ولدي، لا أفهم لمــاذا يجب عليّ أن أتقن لغة الآخر، وهو لا يعرف لغتي ولا يتقنها.

لكل إنسان لغته، أحب لغتي، هي لحني وصوت قلبي. عندما كنت صغيرا، قصت عليّ حكاية الوزة، قالت: صحيح أن الوزة تعرف الغطس والسباحة، لكنها لن تكون ابدا كالســمك. وصحيح أنها تعرف الطيــران، لكنها لن تكون أبدا كالطيور، وتعرف أن تغني لكنها لن تكون أبدا كالشحرور. تقول أمي... إصغ إلى الحكايات يا ولدي، ضعها في قلبك، دع شذاها ينفذ إلى روحك بعمق.

بقي صوت الحكايات التي كانت تســردها أمي، فــي ليالي البــرد، تهــدل كرجع أغنيــة بعيدة في أذني، حيــث الرائحة والدفء والــروح، وصوت الكســتناء يتفلق علــى ظهر الموقــد، كنت أنصت بشــغف إلى حكايا الأوطان، حكايــا الهجر، وهي تعطيها من خصوصيتهــا، وحنيتها ودفئها. كانت تقص لي حكايــات الذين ســافروا بعيدا، وأولئك الذيــن صمــدوا في أرضهــم، تقص علــيّ قصص الأنهار وتفتح الأزهار، والنحل الذي يحوم حولها ويرتشف رحيقها، حكاية السنبلة، والمطر، وقوس قزح بألوانه الجميلة.

عندما كنــت طفلا بعيدا عنها، كانت الليالي تمرّ، لا أعرف للنوم فيها طعما، وأنا أنتظر في قلق زيارة أمي قادمة من مدينة أخرى، أميل بإذني لاستمع إلى صريــر الباب، وتصبح الدقائق ســاعات، في هذه الليالي كان جدي يهرع ليســرد لي شيئا، يهدئني، قصة أو أغنية أو كلمة مضحكة.

أمي الأمية قالت لي، عندما تكتب قصائد الحب، أكتبهــا بلغتك الأم يا ولدي، قلت لها أخاف من أن لا أحسن ذلك يا أمي، قالت، لا أصدق من لغة الأم، هي صوت القلب.

كتبت لحبيبتي قصائــد الحب، بلغة الحب، لغة أمي، قلت لها:

أيتها الحكايــات، يا عصفي المجنــون، يا حبي العصي

هل في مقــدورك أن تجعلي الطريق الشــتوي الطويل إلى دارها أقل طولا وأقرب سبيلا؟

هــل فــي مقــدورك أن تســمعيها كل الأغانــي واللحون التي يفيض بها قلبي؟

وهل في مقدورك أن تجعليني ســحابة ماطرة، لأهطــل على ذرى قلبها، لتجعله أقل شــجنا وأكثر رحمة؟

يا قصــص قلبي، هل في مقــدورك أن تقولي لها إنني لا أســتطيع لها هجرا، مهما تأخرت اللقاءات، وأصبحت مستحيلة؟

لكــن حبيبتــي هزمتنــي، كان لهــا رأي آخر، قالت لي: يا شــاعري المجنون، صحيح أنك شاعر جميل، لكنك شــريك ســيئ في الحب، ترتاد أرض الحب، كشــاعر هائم، يريد أن يقطف الورد والقُبل والنجــوى، تريده جزءا مــن فتوحاتك، فتوحات لا هزيمــة فيها، لا تخضع إلى عــرف ولا قواعد ولا قانون، تريده ظلا مرتعشــا، غامضا، وليس نورا مبهرا، فلا تخيفني ولا ترهبني بضجيج آلامك، فقط تسلّل إلى روحي برفق، لتبقى هناك.

هزمتني أمي، هزمتني حبيبتي، هزمني الحنين، لقــد ابتعدت كثيرا عــن البيت، لكــن ذلك الضوء البعيد فــي النافذة الصغيرة، مازال يشــد الصبي اليافع الذي كنته يوما.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom