Al-Quds Al-Arabi

العقول السورية: من الهجرة إلى اللجوء

- رياض معسعس ٭ كاتب سوري

أصــدرت الســلطات التركيــة مؤخرا آخــر إحصائيــة لأعداد اللاجئين الســوريين فــي تركيا إذ تشــير الأرقام إلــى وجود ما يقرب الأربعة ملايين لاجئ.

وهــذا الرقــم الأكبــر لأعــداد اللاجئين الســوريين فــي باقي دول العالم. وهذا الرقم يســاوي تقريبا عدد ســكان سوريا في خمســينيات القــرن الماضــي. ويقدر عــدد اللاجئين الســوريين في العالم منــذ بداية الثورة بحدود ثمانيــة ملايين لاجئ، وهذا العدد يساوي عدد سكان ســوريا في ثمانينيات القرن الماضي. وبالتالــي فإن عدد ســكان ســوريا اليــوم يصل إلــى حوالي 13 مليون نسمة )من أصل 22 مليون نسمة حسب آخر إحصاء، مع الأخذ بالاعتبار مقتل لا يقل عن 600 ألف شخص منذ العام 2011 دون حســاب المهاجرين قبل الثورة الذين لا يوجد لهم حســاب دقيــق للأرقام أو بمفهوم آخر فإن نصف ســكان ســوريا باتوا خارجها مهاجرين ولاجئين(.

نظرية التجانس

ويبدو هذا الرقم مريحا لرئيس النظام الســوري بشــار الأسد الذي يرى فيه «أن الشــعب الســوري أصبح أكثر تجانســا» كما صرح سالفا.

ويقصد أن مكونات الشــعب السوري قليلة العدد ترى نفسها اليــوم «أقــل أقليــة» كالطائفــة العلوية التــي ينتمي إليهــا. لكن نظرية التجانس هذه التي جاءت على حســاب ملايين اللاجئين والنازحــن والمهجرين، وقتلــى المعارك، وأقبيــة التعذيب، التي يرى فيهــا رئيس النظــام الجانــب «التجانســي» ويغفل جانب الخســارات الكبيرة في العقول الســورية التي فرت من ســوريا

بحثــا عن مــكان آمــن يضمنون فيــه حياتهــم ويمارســون فيه خبراتهــم العلمية والعملية بعيدا عــن القصف اليومي بالبراميل المتفجــرة، وبالأســلح­ة الكيميائيـ­ـة، وعــن خطــورة الوقوع في معتقل من المعتقلات والنهاية المحتومة.

الهجرة الأولى: عرفت ســوريا أول هجرة للسوريين مع نهاية القرن التاســع عشــر وقبيل الحرب العالمية الأولى جراء المجاعة التي ضربت المنطقة بأكملها، فهاجر عشــرات الآلاف إلى أمريكا وكندا وبعض دول أمريــكا اللاتينية. لكن هذه الهجرات لم تؤثر اجتماعيا على مكونات الشــعب الســوري )كانت سوريا تشمل مجمل الهلال الخصيب(.

وهــذه الهجرة شــكلت جاليات ســورية في أكثر مــن بلد في القارة الأمريكية واستطاعت تحقيق نجاحات كبيرة في التجارة والمال والسياسة والفن.

الهجــرة الثانيــة: لكن الهجرة بــدأت من جديد في ســتينيات القرن الماضي، وكانت هجرة عمالة ذات خبرات متعددة اتجهت بشــكل رئيســي نحو دول الخليج وليبيا نظرا لفشــل سياســة النظــام الاقتصاديـ­ـة وتفشــي البطالــة، وهجــرة رؤوس أموال بعد سياســة التأميــم التي انتهجها حزب البعــث الحاكم والتي حرمت ســوريا من رؤوس أموال كانت تدعم الاقتصاد السوري وخاصة في مجال الاســتثما­ر والتصنيع. لكنها تكثفت بشــكل متســارع ومتعاظــم مــع بدايــة ســبعينيات القــرن الماضي، أي بعد انقلاب حافظ الأســد وبدء المرحلة الأســدية لحكم سوريا، وهذه المرة ليســت على مســتوى العمالة فقط ورؤوس الأموال، ولكن على مســتويات أخرى تشــمل الأدمغة والخبرات العالية التكوين من أطباء، ومهندسين، وأساتذة جامعيين، وصحفيين، وشعراء، وكتاب.

في تقرير لدائرة الشــؤون الاقتصاديـ­ـة والاجتماعي­ة التابعة لقســم الســكان في الأمم المتحدة يشــير إلى أن عــدد المهاجرين الســوريين قبــل الثورة وصل إلــى حوالي مليونــن ومئتي ألف مهاجر، أي ما يقارب عشر السكان.

في ســنة 2000 وصل عــدد الأطباء الســوريين المهاجرين إلى أمريــكا أكثــر مــن 6000 طبيب )وهــذا الرقم يمثل ثلــث مجموع الأطبــاء العرب فــي امريكا(. وبلغ عــدد الأطباء الســوريين في ألمانيــا إلى 18000 طبيب. وتشــير نقابة الأطباء في ســوريا إلى أن ثلث الأطباء الســوريين قد اختاروا الهجرة إلى أوروبا بشكل خاص، وكذلك الأمر بالنسبة للصيادلة، والمهندسين.

وتؤكد دراسة للأمم المتحدة أن أكثر من ثلث المهاجرين هم من الخبرات العلمية العالية. وتعتبر سوريا أول دولة من بين الدول العربية في نسبة هجرة الأدمغة.

وقد بلغت خســارة ســوريا جراء نزيف الأدمغــة حوالي 2,2 مليار دولار في حين كســبت الدول المضيفة أكثر من 10 مليارات دولار حسب تقرير الأمم المتحدة.

المواجهة المسلحة

وفي دراسة لسلســلة قضايا التنمية البشرية تعزو الدراسة الهجــرات الســورية إلى انعدام الاســتقرا­ر الأمنــي، وانخفاض مســتوى الدخل، وضعف البحث العلمــي، وفقدان آفاق الإبداع والتطوير خلال أكثر من أربعة عقود من حكم عائلة الأسد.

من الهجــرة إلى اللجــوء: انطلقــت عملية اللجوء بعــد اندلاع الثورة الســورية في العــام 2011 بعد أن انتهج النظام سياســة المواجهــة المســلحة للمظاهــرا­ت الســلمية والاعتقال لعشــرات الآلاف من المتظاهرين.

ومع تجييــش الثورة واندلاع المواجهات المســلحة قام النظام بقصــف متعمد لكل المراكــز الطبية الخارجة عن ســيطرته، وتم تدمير المــدراس، وكل البنى التحتية فقضى بذلــك عدد كبير من الكــوادر الطبية، ودفــع الآلاف من الخبرات العلميــة العالية إلى اللجوء لدول مجاورة أو لدول أوروبية بشكل خاص.

إذ يشــير نقيب الأطباء في ســوريا إلى لجــوء أكثر من 7000 طبيب إلى أوربا وامريكا. فحسب صحيفة «ميتيل دوتشيه» فقد وصــل عدد الأطباء الذين لجأوا إلــى ألمانيا بعد الثورة إلى 4486 طبيبا.

وتضــم فرنســا آلاف الأطبــاء الســوريين الذيــن رحبت بهم فرنســا وشــكرتهم على جهودهم في مواجهــة جائحة كورونا إذ يقفــون في الصفــوف الأمامية في المرافق الطبية الفرنســية. وتؤكــد مفوضية شــؤون اللاجئين أن 50 في المئــة من اللاجئين تلقوا تعليمــا جامعيا، ونســبة كبيرة تعليما ثانويا. ومتوســط أعمار الكفاءات 34 سنة.

وهذا النزيف الهائل للخبرات العلمية الســورية هو سياســة ممنهجة لإفراغ البلد من طاقاته، وخسارة فادحة لكوادر الدولة التي ســتحتاج إلى مبلغ لا يقل عن 40 مليــار دولار لإعادة تأهيل الكــوادر المفقودة، يضاف هــذا المبلغ إلى مبلــغ 400 مليار دولار لإعادة البناء.

المنتــدى الاقتصادي العالمــي في دافوس قرر إخراج ســوريا من مؤشــر جودة التعليم. وحسب تقرير لليونيسكو فإن سوريا تعتبــر مــن الدول المهمشــة علميــا. خاصة وأن جيــا كاملا من الأطفال الســوريين بــات عدد كبيــر منهم دون تعليــم وخاصة فــي مخيمات اللجوء. وحســب التقرير فإن ســوريا فــي المرتبة 142/140 فــي مؤشــر توفر الخدمات التدريبيــ­ة المخصصة ذات الجودة العالية )تتبوأ سويسرا المركز الأول عالميا(

ويؤكد أن النظام التعليمي في ســوريا لم يسع بجدية لخفض نسبة الأمية، ونشر التعليم وتوفيره لقطاعات واسعة.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom