Al-Quds Al-Arabi

صائب... مفارقات غريبة ومسيرة طويلة

- *كاتب فلسطيني

ما زال أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير صائب عريقات، يرقد في مستشفى «هداسا» الإسرائيلي بوضع صحي حرج، لكنه مستقر، حسبما أفادت عائلته مؤخرًا.

وقد أصيب الدكتــور صائب عريقات بفيــروس كورونا، وبقي تحت المراقبــة الطبية المحلية في بيته الكائن في مدينة أريحا، إلــى أن تدهورت حالتــه الصحية بشــكل مقلق، ما اســتوجب نقله إلى مركز طبي فيه ما يلزم من طواقم مؤهلة، ومعدّات ملائمة لتأمين الرعاية الطبية المثلى، لمن خضع مثله قبل ثلاثة أعوام لعملية زرع رئتين في أحد مستشفيات أمريكا.

لــم تمــرّ هــذه الحادثــة مــن دون أن يتناولهــا بعض الفلســطين­يين بانتقاداته­م الشــديدة، أو بالتهكم أحياناً أو بالتشفي، أو بالتعبير عن رفضهم لاختيار عائلة عريقات نقل مريضهم إلى مستشفى إسرائيلي، فقد كان أولى بهم، حسب أولئك المعقبين، إبقاءه تحت إشــراف أطباء فلســطينيي­ن، أو نقله إلى إحدى الدول العربية، مثل الأرد

في بداية تســعينيات القرن المنصرم، أصيب والدي، وهو في منتصف خمســينه، بســرطان الكبد، كنا نحبــه كثيرًا، كأب وكمعلم لنا في المدرســة، وكصديق صدوق عندما كبرنا. خفنا أن نفقده وهو مازال في قمة تألقه وعطائه، فحاولنا أن نجترح المعجزات لننقذه، وتعلقنا بكل تميمة ودعاء، وسعينا وراء كل بارقــة أمل وفرصة للنجاة. بعد جهود واســتئناس برأي الخبــراء، الذين يعملون مع أخينــا الطبيب، فهمنا أن

أهم قسم لعلاج هذا النوع من السرطان موجود في مستشفى مدينة هانوفر الألمانية؛ تواصل أخونا منذر مع زميله الطبيب الجراح المتخصص هنــاك، واتفقا على نقــل والدنا ليجري العمليــة عندهم. لن أحدثكم عما عانينــاه قبل اتخاذ القرار، ولا كيــف تخطينا جميع العثرات؛ فقد قررنــا أن نبذل كل ما نســتطيع لتأمين الفرصة، مهما كانــت ضئيلة، من أجل انقاذ «بطلنا». كانت عمليته معقدة، لكنها تمت بنجاح؛ فاستؤصل الورم وعدنا لنحيا في ظله بضعة أعوام قليلة، قبل أن ينتصر عليه المرض مجدداً ويرحل عنا بسلام.

لقــد تعرفت إلــى صائب عريقــات في مطلــع ثمانينيات القرن المنصرم، وكان يعمل محاضراً للعلوم السياســية في جامعة النجاح في مدينة نابلس، ويكتب كلمة تحرير جريدة «القدس»، التي مــا زالت تملكها اليوم عائلة صاحبها الراحل الصحافي العريق محمود أبو الزلــف. كان الاحتلال يرصد جميع ما ينشــر باقلام فلســطينية، خاصة إذا كانت مقالات تخاطــب عقول النخــب الليبرالية في الجامعــات الغربية، وفي ســائر المحافل والمعاهد الدولية، لاســيما إذا كان يعتمد كتّابها على السردية الفلســطين­ية الناضجة، واللغة العلمية الحازمة، وتلك التي كانت توثق جرائم الاحتلال وممارساته اليومية بطريقة مهنية. طلب صائب أن يقابلني ذات مســاء، وأوضح أنه يريد مني استشــارة قانونية؛ واقترح أن نلتقي في مكاتب جريدة «القدس» في شارع علي بن أبي طالب قبل انتقالها إلــى مقرها الجديد بجانب مطــار القدس في منطقة قلنديا. دخلت غرفة أبي مروان، محمود أبو الزلف، حيث كان يستقبل فيها في الأمســيات الأصدقاء وبعض أعلام القدس، في جلســات كانت تتناثر فيها الطرائف والنــوادر الممتعة، وكان عبق التجارب يتطاير مــن جنباتها؛ وكنا، أنا وصائب حينها، أصغر الحضور سنًا.

لم انتظر طويلًا لافهم ســبب استدعائي، فقد كان موضوع حديث لمة ذلك المســاء هو، لائحة اتهام قدمتها نيابة الاحتلال الاســرائي­لي ضد صائب عريقات لدى المحكمة العسكرية في نابلــس بتهمة التحريــض والإخلال بالنظــام العام. كانت محكمــة نابلس العســكرية واحدة من عدة محاكم نشــرها الاحتــال في عــدة مدن فلســطينية محتلــة؛ وكانت تعمل من داخل مبنى قــديم أقامه البريطانيو­ن، واســتغله جيش الاحتــال مقر حكمهم علــى تلك المنطقة، وســجنا ومحكمة عسكرية. قرأ القاضي التهمة، فأنكرتُها باسم صائب، محاولا أن أشــرح أن المقال، الــذي يعتبرونه تحريضــاً، هو محض موقف سياســي لأكاديمي، يندرج ضمن حريــة التعبير عن الرأي، وعليه يجب إغلاق الملف بحق موكلي.

كانت سياســة ترهيب المثقفين في أواسط الثمانينيا­ت في أوجها، كجزء من مخطط شــامل للاحتلال، استهدف وجود الحركة الوطنية بشكل عام، وبناء بدائل محلية لها.

دخلنا المحكمــة ونحن على قناعــة أن نجاحنا في المعركة القانونية ســيكون شبه مســتحيل؛ فدور المحاكم العسكرية كان قــد أعد منذ البدايات، ليضفي على ممارســات الاحتلال شــرعية كاذبة، وليسوّغ، بوسائل «قانونية» شبه عسكرية، سياســات الاحتلال وقمعه ضد جميع الفلســطين­يين. وكما توقعنــا حصل؛ فقــد قبل القاضــي، بعد ســماع الادعاءات ومرافعات الطرفــن، طلب ممثل النيابة العســكرية، فأدان صائب بتهمة التحريض، وانتقلنا إلى مرحلة تحديد العقوبة، التي لم تشــغل بالنا في البداية، لأن معظم الإدانات المشابهة بقضايــا التحريض كانــت تنتهي بالحكم بعقوبة الســجن لبضعة شهور معدودة، مع وقف التنفيذ على المدان، وبفرض غرامــة مالية خفيفة عليه. إلا أن المدعي طلب بشــكل مفاجئ تعليق الجلسة لمدة نصف ساعة، كي يجري اتصالاً ضرورياً، حسب ما أدلى به لمحضر الجلسة. استؤنفت المداولات بعدها؛ فوقــف المدعي وألقى خطبــة قصيرة أكد فيها على سياســة العقوبــات المعروفة في مثل هذه القضايــا، لكنه اضاف أنهم قرروا في هذه القضية أن يحيدوا عن تلك السياسة ويطالبوا المحكمة بإلقاء عقوبة الســجن الفعلي لمدة ستة أشهر بسبب مكانة المتهم وعمله كمحاضر.

لم أصبر حتى نهاية مداخلتــه، فقاطعته بغضب واضح، وحاولت أن أطلــب من القاضي تأجيل الجلســة لموعد آخر، كي نعــد مرافعتنا الدفاعية، ونفند ما تحاول النيابة ادعاءه؛ فلم يعطنــي القاضي فرصــة للكلام، وكان يســكتني بعناد مقزز، وبطريقة مستفزة، وأنا، من جانبي، أصر على تسجيل طلبي في المحضــر. صارت أجواء القاعة مشــحونة فنظرت صوب صائب، الذي بدت على وجهه علامات الدهشة، وعدم اســتيعاب ما يجري حوله. وفجأة أعلن القاضي أنني متهم بتحقير المحكمة وقام فــي الثانية نفســها بإدانتي وبفرض غرامة مقدارها ألف وخمسمائة شــاقل على أن أدفعها فورًا. أجبته، بدون انتظار، أنني أرفــض قراره، ولن ادفع الغرامة بالمطلق. تدخل المدعي العســكري وطلب تأجيل الجلسة بعد أن شعر بأن الامور قد تخطت ما تصوره.

في أحد الفحوصــات الدورية التي أجريــت في منتصف عــام 2000 لرئيس دولــة إســرائيل عيزرا فايتســمان في مستشــفى رامبام الحيفاوي، تبين أنه بحاجة لتركيب جهاز حديــث ومعقد يقوم بتنظيــم عمل قلبه، عــن طريق إجراء عملية جراحية حساسة ومستعجلة. أُخبر فايتسمان أن من يســتطيع إجراء هذه العملية في المستشفى هو طبيب عربي متخصص في هذا المجال؛ لكنه منح، في الوقت نفسه، إمكانية اختيــار طبيب بديل من خــارج البلاد لو رغــب. «أحضروا الطبيب العربي»؛ قال فايتســمان لطاقم مستشــاريه، ففي هذه الأمور يجب أن يعود الإنسان إلى أصله الأول ويتصرف بإرادة نقية خالية من كل شــائبة، زيدت عليها خلال مسيرة حياته طويلة كانت أم قصيرة.

كان ذلك الطبيب هو أخي منذر، الذي اختار مع زملائه من المستشفى نفسه، مدينة هانوفر الألمانية ملجأ لنجاة والدنا. نجحت عملية فايتســمان؛ فكتبت الصحــف أن طبيباً عربيا أنقذ قلب رئيــس الدولة؛ وذلك في مفارقة قــد أغلقت دائرة عبثية وأبقت للتاريخ مشــهداً انسانياً خالياً من أي زوائد أو شوائب.

أعلن قبل عشرة أيام عن وفاة نائب رئيس جهاز المخابرات العامة السابق يتسحاك إيلان عن عمر ناهز الأربعة والستين عامًا، بعد إصابته بفيروس كورونا. هاجر يتســحاك ايلان إلى اســرائيل من جورجيا وتجند عام 1982 لجهاز «الشابك» وتقدم فــي صفوفه، حتى شــغل في منتصــف الثمانينيا­ت منصبًا رفيعًا ومســؤولًا في منطقة «يهودا والسامرة»؛ وهي الفترة ذاتها التي اتهم وأدين فيها صائب عريقات بالتحريض والإخلال بالنظــام العام. خضع إيلان قبل عام لعملية زراعة رئة، ونقل بعد إصابته بالفيروس إلى مستشفى بيلينسون، حيث فشــل الأطباء بإنقــاذ حياته. اعتــاد صائب أن يروي تفاصيــل ما جــرى معنا في محكمته كشــهادة علــى عبثية القضاء العسكري، وكان يعيد الحكاية مراراً وتكرارا من باب الدعابة والشهادة على تاريخ علاقتنا الشخصية؛ خاصة بعد أن ترك عالم الأكاديميا ومضى على دروب السياسة الشائكة والمضنية؛ وهي ليست حكايتنا اليوم.

لا أعــرف كم ممن تعرضوا لحالته اليوم يعرفون ســيرته على حقيقتهــا؛ لكنني أعرف أن من حقه أن يحيا، وأن إنقاذه واجب حتــى لو حصل بأيادي أطباء إســرائيلي­ين؛ وأعرف، أيضا، أن إقحام صائب السياســي من قبل معارضيه في هذه المرحلة هو تجن، فالحياة لمن لا يعرف هي سلســلة مفارقات يهندســها الحظ ويغذيهــا العطاء ويثبتها الوفــاء وتهدمها الشماتة ويحبطها الفشل.

الحياة لمن لا يعرف هي سلسلة مفارقات يهندسها الحظ ويغذيها العطاء ويثبتها الوفاء وتهدمها الشماتة ويحبطها الفشل

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom