Al-Quds Al-Arabi

العلمانية الفرنسية: سجال الدين والدولة أم عبادة عجل ذهبي؟

- ٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

■ في كتابــه «العلمانية إزاء الإســام» ولعله ضمن الأعمال المعاصرة الأبرز في هذا الميــدان، يذكّرنا المؤرخ وعالــم الاجتمــاع الفرنســي أوليفييــه روا بالفارق، الجوهري في الواقع، بين العلمانية الفرنسية Laicité؛ والعلمانية فــي مفهومها الأوســع، والكوني ربما، الذي يحمله مصطلــح Secularism. الثانية، حســب روا، هي حال تحرّر المجتمع من معنى المقدّس، من دون نكرانه بالضرورة؛ والأولى هي لجوء الدولة إلى «طرد» الحياة الدينية إلى حدود عرّفتها الدولة بقانون. والفارق يمكن أن يتبدى صريحاً أو حتى صارخاً في إطار سلســلة من المواقف، تلخصها مســائل من النوع التالي: فصل الدين عن الدولــة )نعم أم لا( وموقع الديــن من المجتمع )قوي أم ضعيف( واحتمال أن تكــون دولة علمانية بالمصطلح الثاني وليــس الأوّل لأنها تقرّ ديناً رســمياً )بريطانيا، الدانمرك( أو أن تفصل الدين عن الدولة وتعترف في الآن ذاته بــدور الدين في المضمار العــام )الولايات المتحدة، حيث أقرّت المحكمة العليا استخدام مفردة «الله» في أداء القسم داخل المدارس( أو أن تعلن العلمانية ولا تشير إلى الإســام في دســتورها لكنها لا تفصل الدين عن الدولة )تركيا(...

والحــال أنّ العلمانية الفرنســية وجــدت تعبيراتها الأولى في قانــون 1905 حول فصل الديــن عن الدولة، ويومــذاك كان «العدو» هــو الكنيســة الكاثوليكي­ة، أمّا اليوم فإنّ الإســام حلّ محلّ الكاثوليكي­ــة؛ الأمر الذي يثير الســؤال الحاسم: أهذا واقع اســتمرار، أم انقطاع؟ يتساءل روا: «في نهاية المطاف، هل يدور نقاش الإسلام حــول مكانة الدين فــي المجتمــع الفرنســي، أم ـ على نقيض الاســتمرا­رية البادية ـ يُنظر إلى الإســام اليوم كدين مختلف، حامــل تهديد محدد؟ وفــي هذه الحالة، أيعود الأمر إلى ســمة محــددة في الفقه المســلم، أم في أنّ الإســام دين المهاجريــ­ن بما يُلقي على فرنســا ظلّ صراعات الشرق الأوسط؟». وليس خافياً أنّ إشكاليات كهذه، وسواها بالطبع، جثمت بقوّة في خلفيات طرازَين من الســجالات حول الإسلام في فرنســا؛ الأوّل يخصّ العلمانية، في نســختها الفرنســية حصرياً، وارتباطها بالقِيَم الجمهوريــ­ة والهوية الوطنيــة؛ والثاني يخصّ الإرهاب الإســاموي، الذي استســهل الكثيرون ربطه مباشرة بالدين الإسلامي عموماً، وليس بعقائد متشددة أو تيــارات جهاديــة. الحصيلة، في عقــود الجمهورية الخامســة أو فرنســا المعاصرة بالأحرى، كانت سلسلة متعاقبة من السجالات، السطحية غالباً والعميقة نادراً، حول «قضايا» مثل الحجــاب أو اللحم الحلال أو إضافة لحم الخنزير إلى الوجبات المدرســية، في الطراز الأوّل؛ وما إذا كانت الديانة الإسلامية، بوصفها ثقافة وشريعة أيضاً، حاضنــة محرّضة في ذاتها علــى الإرهاب، ضمن الطراز الثاني.

ويندر أن يشهد بلد مثل بريطانيا أو ألمانيا أو الدانمرك انشقاقات كبرى في صفوف الأحزاب السياسية والرأي العام والصحافة اليومية وأروقة الجامعات، شــبيهة بما شــهدته فرنسا في ســنوات 1989 و1994 و2003 و2004 و2010 و2016 و2017 حــول الحجــاب مثــاً؛ فاقتضت اللجوء إلى «مجلس الدولة» الذي أفتى بأنّ غطاء الرأس ليس في ذاته متناقضاً مع مبادئ العلمانية؛ أو تشــكيل «هيئة ستاســي» وما أعقبها من إصدار قانون يحرّم في المدارس ارتــداء العلامات أو الثياب التي توحي بالصفة الدينية؛ أو الدخول فــي جدل عقيم، مضحك أيضاً، حول الفارق بــن البرقع والنقــاب؛ وصولاً إلــى الجامعات ونقــاش منــع الطالبات من ارتــداء الحجــاب فيها، أو شــواطئ البحر والحقّ في ارتداء لباس السباحة الذي اشــتُهر باســم «البوركيني»... في نطاق الطراز الثاني، تســابق اليمــن الجمهوري مــع اليمين المتطــرف، ولم يتأخــر الليبراليو­ن طويلاً عن اللحاق بالركب، في تأثيم الإســام كدين وثقافة تحت لافتة تجــريم الإرهاب الذي يُرتكب باســم الدين الإسلامي؛ وبات مصطلح «الإرهاب الإســامي» منفلتاً من كلّ ضابط مفهومــي أو عقلاني أو منطقي أو تاريخي. ولعلّ هذه الهســتيري­ا بلغت الذروة في تفكير رئيس اشــتراكي مثل فرنســوا هولاند بســنّ قانون يجــرّد ذوي الجنســية المزدوجة من الجنســية الفرنسية على خلفية الاتهام بأعمال إرهابية.

وكما هــو معروف، اندلعت الجولــة الأحدث من هذه الهســتيري­ا على خلفية الجريمة الإرهابية البشعة التي ارتكبها مراهق شيشاني بحقّ المدرّس الفرنسي صمويل باتي الذي شــاء تدريس مبدأ حرّيــة التعبير عن طريق عرض رســوم كاريكاتوري­ة نشــرتها «شــارلي إيبدو» واعتبر القاتل، ومشــايخه المحرّضون، أنها تســيء إلى النبي محمد وتســتوجب ذبــح المــدرّس. وحتى يثبت العكــس )لأنّ الحبل على الجرار كما يُقــال( انفرد وزير الداخلية الفرنســي جيرار دارمنان بالسبق في التهافت والضحالة، فاتهم المخازن الكبرى في فرنسا بأنها تغذّي النزعات الانفصالية والجهوية حين تعرض على رفوفها أغذية أو ألبســة تدلّ على دين أو محتــد! رئيس وزراء فرنسي أسبق مثل مانويل فالس، كان اشتراكياً ثمّ انقلب إلى يميني متســابق مع أقصى اليمــن، نفض الغبار عن شــخصه )هو الذي عاد إلى أصوله الإســباني­ة، وفشل في الفوز برئاسة بلدية برشــلونة( فلم يكتفِ بالمطالبة باقتلاع «الإسلامية» من جذورها، فحسب؛ بل فتح النار على ساسة وكتّاب فرنسيين طالبوا بالفصل بين الإسلام وإرهاب أفراد مسلمين.

وبهذا فــإنّ الإدانة الصريحة، بلا تــردد أو تحفظ أو تســويغ أو تلاعب، لجريمة اغتيال المدرّس الفرنســي لا يصحّ أن تحجب الحقّ في فتح ملفات الاختلاف، أو حتى التناقض أحياناً، بــن علمانية وعلمانيــة؛ على صعيد المجتمعات التــي تحتضن جاليات مســلمة لا خلاف في أنها تعاني الكثير من المصاعب في بلوغ الدرجة المطلوبة مــن الاندماج الاجتماعــ­ي والثقافــي والقانوني. كما لا يجوز للإدانة ذاتها أن تطمس حقوق المساءلة المشروعة لازدواج الخطاب الفرنســي، والأوروبــ­ي بصفة عامة، حول قضايا العلمانية وفصل الدين عن الدولة والمواطنة والقِيَم الجمهورية؛ وكيف أنّ قسطاً غير قليل من مسائل الحجاب والنقاب واللحم الحلال و«الإرهاب الإسلامي» تبدأ بواعثها من السياســة والساسة، في سياقات إلهاء الرأي العــام عن الهموم الاجتماعيـ­ـة الكبرى، كالبطالة

وانخفــاض القدرة الشــرائية ومشــكلات التقاعــد، من جهة أولى؛ وعلى ســبيل اســتغلال هذه الهموم، أيضــاً، بهدف تضخيم إحســاس المواطن بأنّ الجزء الأكبر من المتاعــب مصدره وجود «الأجانب» وانقلاب ذلك الوجود إلــى عبء على الاقتصاد، من جهة أخرى.

هذه الخلاصــة لا تلغي، مع ذلك، حقيقــة أنّ المواطن إياه، ذلك النموذج المتوسط الممثّل للشرائح الأعرض في المجتمعات الغربية، أخذ يتأثر أكثر فأكثر بأجواء الخواف من الإسلام والمسلمين، بحيث صار التوجس من مؤشرات المســتقبل الاقتصادي مقترناً بتوجّس من فقدان الهوية الثقافية )في التعبير الملطّف( والهوية الدينية المسيحية )في المحتوى الواقعي الصريح، الذي يطابق الواقع(. كما أنها خلاصة لا تمسّ تلــك الحقيقة الأخرى الرديفة، التي تشير بوضوح إلى أنّ مســائل العلمانية وحرّية المعتقد وفصل الدين عن الدولة... بريئة من حزمة البواعث التي تحرّك سلوك الساسة واتجاهات السياسة.

وقد يتفق معظم الذين يتذكرون النقاشات الفرنسية الســاخنة حول حظر الحجاب، في المؤسسات التعليمية بصفة خاصة، أنها انطوت في الجانب الصحّي منها على ضرورة صيانــة مبدأ العلمانية؛ وأســفرت، في الجانب العليل، عن مســخ العلمانية إلى ما هــو أكثر جاهلية من عبادة عجــل ذهبي. الأمر الذي يعيد هذه الســطور إلى الأســئلة الأبســط: عن أي إســام تتحدث فرنسا، في نهاية الأمر؟ ألا تتراوح آراء المســلمين أنفسهم بين إسلام مســتنير يرفض الحجاب، وإســام أصولي يذبح باسم المقدّس؟ وفي المقابل، ألا تتفاوت آراء الفرنسيين أنفسهم في معنى النسخة الفرنسية من مفهوم العلمانية، بحيث تتعايش تحت راياتها مبادئ الحرية والمساواة والأخوّة، مــع عنصرية مارين لوبين وليبراليــ­ة إيمانويل ماكرون و... بلاهة دارمنان؟

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom