قربص التونسية: القرية المعلقة ومقصد الاستشفاء
قُرْبُص هي قرية جبلية تونسية تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط في خليج تونس وضمن مـا يسمى الـوطـن القبلي الـذي تضمه إداريا ولاية نابل التي تقع شمال شرقي البلاد. ويعتبر الوطن القبلي أو شبه جـزيـرة الــرأس الطيب أقـرب الأراضــي التونسية إلـى إيطاليا، فمن مدينة قليبية الواقعة على أطرافه يمكن مشاهدة الأراضي الإيطالية بالعين المجردة. كما أن مدينة الهوارية غير البعيدة عن قليبية يعبر منها أنبوب الغاز الجزائري إلى إيطاليا عبر الأراضي التونسية من خلال اتفاقية تعاون بين البلدان الثلاثة.
ويرى البعض أن تسمية قربص أطلقها الفينيقيون وهي تحريف لقبرص وذلـك نظرا للتشابه في المشاهد الطبيعية والتضاريس بـن قربص التونسية وجزيرة قبرص المتوسطية، وتتمثل هذه المـشـاهـد الطبيعية فــي الجبال والبحر الصافي النقي والسواحل الصخرية. فيما يرى البعض الآخر أن اسـم قربص جــذوره رومانية وهو تحريف لكلمة «كاربيس» التي أطلقت على الأعمدة التاريخية في المنطقة وهي آثار قرطاجية أزالها الاستعمار الفرنسي فـي إطـار النهب وطمس هوية البلد.
جبال بركانية
تشتهر قربص بجبالها الشامخة الــتــي تــؤكــد عــديــد الـــدراســـات
بأنها بركانية خـامـدة يكسوها غطاء نباتي كثيف من الأشجار والـنـبـاتـات والأعــشــاب الطبية المفيدة لصحة الإنسان والتي يتم استغلالها على الـوجـه الأكمل. وتــطــل هـــذه الجــبــال وغاباتها الخضراء على بحر شديد الزرقة في واحد من أجمل الخلجان في البحر الأبيض المتوسط وهو خليج تونس.
وتظهر من قمم قربص وحتى من سواحلها الصخرية الشبيهة بسواحل الجزر البركانية، وعلى الضفة الأخرى من خليج تونس، جبال سيدي بوسعيد وسيدي الظريف التي يرسل منها ناظور سـيـدي بوسعيد أضــــواءه ليلا لـهـدايـة سفن الخليج التائهة. وتـظـهـر أضــــواء الـسـفـن بشتى أنواعها إما راسية في قلب البحر ناصبة شباكها أو عابرة للخليج تنقل المسافرين أو البضائع من مينائي حلق الــــوادي ورادس باتجاه القارة العجوز أو غيرها.
ولعل أهـم ما يميز قربص هو الـعـدد الـهـام والـافـت مـن عيون المــيــاه المـعـدنـيـة الــتــي تنبع من جبالها والغنية بالأملاح المعدنية والكبريت وتستغل في علاج عدد كبير من الأمراض وينصح بها طبيا ويقصدها الزائرون. ويصب بعض هذه العيون في البحر في مشهد رائــع في شكل شــالات صغيرة فيما أقيمت الحمامات والمحطات الاستشفائية منذ العهد القرطاجي عــلــى الــبــعــض الآخـــــر فـبـاتـت بفعلها قربص وجهة سياحية واستشفائية داخلية.
ومن أهم عيون قربص الشهيرة، عين أقطر والشفاء وعين الصبية والعتروس وهي عين ماؤها ساخن جـدا يتصاعد منها بخار كثيف يغطي المـكـان وأقـيـم لها حوض لجـلـوس الــزائــريــن، وتـصـب في البحر مباشرة. وتمكن هذه العين زوار قربص وأبناءها من السباحة في البحر في فصل الشتاء باعتبار أن الجزء من البحر الذي تصب فيه العين الساخنة يصبح دافئا حتى في أكثر أيام السنة برودة وذلك بالنظر إلـى ارتفاع درجـة حـرارة مياه هذه العين الجبلية التي يرجح أنها تنبع من قلب بركان خامد مليء بالمعادن في باطن الأرض.
ويبقى أجمل ما في قربص هو المناظر الخلابة الي يشاهدها المرء من طرقاتها الجبلية العالية المطلة على البحر الأزرق اللامتناهي ســـواء قصدها الــزائــر مـن بلدة تاكلسة أو مـن الطريق القديمة المقطوعة في الوقت الحاضر من جهة سيدي الرايس والتي ما زالت تؤدي إلى عين أقطر والفندق المطل على البحر الــذي أقيم بجانبها. وقد كان هذا الفندق في الماضي محطة استشفائية تابعة للدولة من خلال ديوان المياه المعدنية وكانت تقصدها شخصيات للتداوي والاستشفاء.
إرث فينيقي
اكـتـشـف الفينيقيون بـاكـرا المــيــزات الاستشفائية لقربص من خلال مياهها الغنية بالمعادن والكبريت ومــن خــال نباتاتها الجبلية التي يراها البعض صيدلية طبيعية ومـصـدرا لعدد هــام من الأدويــــة، إضـافـة إلــى أعشابها البحرية وطينها الـذي تعالج به أمـــراض جلدية كـثـيـرة. كما أن سحر طبيعة قربص الخلابة يريح النفوس ويزيل الإرهاق في كنف الهدوء بعيدا عن ضوضاء المدن الكبرى، لذلك أقــام الفينيقيون الحمامات والمحطات الاستشفائية في قربص خاصة وأنها لم تكن بعيدة عـن المـكـان الــذي أسسوا فيه مدينة قــرطــاج، وعــن جبال الهوارية التي اقتطعوا وصقلوا منها الحـجـارة التي شيدوا بها قـرطـاج منذ الـقـرن العاشر قبل الميلاد. وورث القرطاجيون اهتمام أجـــدادهـــم الفينيقيين بقربص وطوروا حماماتها وتركوا آثارهم فيها وهي آثار تم نهب الكثير منها في فترة الاستعمار الفرنسي.
وانــتــقــل عــشــق الحــمــامــات والاسـتـشـفـاء بـالمـيـاه المعدنية
مـن القرطاجيين إلــى الــرومــان، ورثـــتـــهـــم فـــي الــهــيــمــنــة على الحـــوض المتوسطي، وقــد نشر الـرومـان عشقهم هـذا فـي كامل إمبراطوريتهم. وطبيعي أن يضع الرومان أيديهم على قربص بعد سـقـوط قـرطـاج ونـهـايـة عهدها الإمــبــراطــوري لمــا تـزخـر بــه من خـصـائـص عـاجـيـة لــعــدد هـام مـن الأمـــراض مـن ينابيع وطين وأعشاب جبلية وبحرية.
ولــم يــأت المــؤرخــون على ذكر قربص كثيرا خـال فترة الفتح الإســامــي وخـضـوع الـبـاد إلى الأمـويـن ثـم العباسيين ولا مع الأغالبة والفاطميين والصنهاجيين والموحدين رغم تحولها إلى مكان محبذ للمتصوفة من الراغبين في الاعتكاف في أحضان الطبيعة بعيدا عـن ضـوضـاء المـــدن. لكن عـاد الاهتمام بقربص سـواء في زمن الدولة الحفصية أو في عصر الاحتلال العثماني لتونس وذلك مـع هجرة الأندلسيين المسلمين من إسبانيا هربا من الاضطهاد ومحاكم التفتيش التي أقيمت لهم مـع سقوط مدنهم الــواحــدة تلو الأخرى بيد الإسبان.
وفـي عصر الـدولـة الحسينية بــدايــة مــن الــقــرن الـثـامـن عشر باتت قربص قبلة ملوك تونس أو البايات الذين شيد في عهدهم حمام الباي الــذي أصبح اليوم المحطة الاستشفائية الرئيسية في قربص. ولعل ما شجع ملوك تونس الحسينيين وعائلاتهم على الذهاب إلى قربص هو تواجدهم صيفا في بلدة حمام الأنـف غير البعيدة عن قربص وذلك لقضاء الإجازة الصيفية.
واهتم الفرنسيون بدورهم في زمن الاستعمار بقربص واشتهر
من بينهم إدموند كاربونتيي صهر العالم الفرنسي الشهير لويس باستور الذي قدم إلى تونس سنة 1888 للعمل في الصحافة من خلال تأسيس صحيفة يومية ناطقة بالفرنسية فأغرم بالمكان. وقد قام بتأسيس شركة استشفائية للمداواة بالمياه المعدنية، وعرفت قـربـص بإسمه لــدى السلطات الاستعمارية الفرنسية مع بداية الــقــرن الـعـشـريـن خــاصــة بعد أن قــام بجهود كثيفة للتعريف بها لــدى المقيم الـعـام الفرنسي ولــدى المستوطنين الفرنسيين. وكــانــت الـشـركـة تـضـم المحطة الاستشفائية، وفندقا كبيرا و150 فيلا وشقة مزودة بالمياه المعدنية وملعبا للتنس وقــاعــة سينما وكازينو خلق حركية كبرى بالقرية الجبلية الساحلية الهادئة إلا من خرير منابع المياه المعدنية المتدفقة.
ومــع اسـتـقـال الــبــاد عــادت ملكية هـذا المركب الاستشفائي إلـــى الـــدولـــة الـتـونـسـيـة تحت إشـــراف ديـــوان المــيــاه المعدنية وأصبحت إقامة كاربونتيي تابعة لـرئـاسـة الجـمـهـوريـة يقصدها الرئيس الحبيب بورقيبة للراحة والاستجمام ويلتقي فيها زواره مـــن الـشـخـصـيـات السياسية الوطنية والأجـنـبـيـة. فـــازدادت قربص أهمية خاصة وأن قصر مرسى الأمراء لم يكن بعيدا عنها والذي يضم بدوره إقامة رئاسية جبلية بحرية معزولة فيها مهبط للطائرات العمودية كان يقصدها الرئيس بورقيبة وحرمه وسيلة.
معالم وآثار
إضـافـة إلــى فيلا كاربونتيي المشار إليها والتي بنيت سنة 1900 واستخدمها الرئيس بورقيبة كإقامة ويرجح أنها ستتحول إلى متحف للمياه المعدنية، توجد في قربص معالم عديدة منها ما اندثر على غرار الأعمدة الفينيقية وقبة الهواء التي كانت مقصد الوافدين للاستشفاء شتاء وربيعا، ومنها ما بقي صامدا بالنظر إلى حداثة عهده من حيث تاريخ البناء على غرار حمام العراقة الذي شيد في مـغـارة جبلية تسيل فيها المياه المعدنية الساخنة.
ومن معالم قربص البراطل التي بنيت على الطراز القربصي القديم والمـتـمـيـزة بــالأقــواس البيضاء
والــســوداء، وأيضا ديــار الباي، وحمام الباي الــذي بـات المحطة الاستشفائية الرئيسية بهذه القرية المتوسطية الآســرة. ومن المعالم أيضا الكنيسة المسيحية الـتـي تـهـدمـت أغـلـب مكوناتها نتيجة الاهمال ولم يبق منها غير آثار لمدرج وقبو، وقد كان يؤمها الفرنسيون والإيطاليون على وجه الخصوص .
ومن معالم قربص زاوية الولي الصالح سيدي عـمـارة باعتبار أن جمال الطبيعة وسحرها في تلك الـربـوع تشجع على العزلة والـتـصـوف، فقد روي أن وليا صالحا كـان مرابطا في قربص كان يتنقل بحرا إلى قرية سيدي بوسعيد أو رأس قرطاج لملاقاة الولي سيدي أبي سعيد الباجي عند مكان يسمى «كرسي الصلاح» ثم يعود بحرا إلى قربص من دون التأكيد بـأن المقصود هو سيدي عـمـارة أو غـيـره. ويـقـام لسيدي عمارة مهرجان يسمى مهرجان خـرجـة سـيـدي عــمــارة يـتـم فيه الإنشاد الصوفي، وكانت النساء يــأخــذن أولادهــــن قـبـل الخـتـان لزيارة مقامه وينشدن أغان تراثية بالعامية التونسية من بينها «المرأة المليحة، تعمل سابع في الزرزيحة، وتنجب طفلا بحجم البطيخة، وختانه في سيدي عمارة، يا لها من زيــارة ونـيـارة، الحاضر ربي
وسيدي عمارة».
التحف والمنقوشات
مــا مــن شــك فــي أن النشاط الـــرئـــيـــســـي فــــي قـــربـــص هـو الاستشفاء بالمياه المعدنية الذي يتم إمــا بالتنسيق مـع الأطـبـاء المباشرين للمرضى أو بطريقة تلقائية من الباحثين عن الراحة والاســتــجــمــام. ومـــن الأمـــراض التي ينصح بعلاجها في محطات وحمامات قربص، أمراض القلب والشرايين وضغط الدم وأمراض المفاصل والروماتيزم والأمراض الجلدية وغيرها. لذلك فإن قربص لا تهدأ من كثرة إقبال الزوار عليها سواء المرضى الباحثين عن الشفاء أو هـــواة اسـتـكـشـاف الطبيعة والجــبــال أو صـائـدي الأسـمـاك والأخطبوط البحري الذي تطبخ به ألذ المأكولات على غرار الكسكسي والحــســاء ويــتــم إعــــداد إحــدى أنواع السلطات به وتسمى سلطة القرنيط.
ونتيجة لهذه الحركية وجدت أنشطة موازية في قربص تقدم الخــدمــات لـلـزائـريـن على غــرار المطاعم التي تقدم اللحم والسمك المشوي، والمقاهي المرتفعة والمطلة من بعيد على البحر الساحر بسفنه التي تمخر عباب خليج تونس. كما توجد أنشطة حرفية تقليدية تعرض منتوجاتها مـن التحف والمنقوشات وما تحيكه الأنامل على الزائرين من مختلف جهات الــبــاد وحـتـى مــن خـــارج أرض الوطن.
لـكـن رغـــم أهـمـيـة قـربـص في خريطة السياحة الاستشفائية التونسية، ورغـــم مـا تتمتع به مـن مـــوروث تاريخي وحضاري وثقافي إلا أنها ما زالــت لم تلق العناية الكافية من قبل الدولة خصوصا في السنوات الأخيرة حيث عانت من التهميش شأنها شـأن كل مناطق البلاد. فالبنية التحتية تتقادم وتتدهور ولا تتم
صيانتها خاصة وأن الأمر يتعلق بقرية جبلية تحصل فيها انهيارات للصخور وانجرافات للتربة وتكون فيها الطرقات وقنوات الصرف والأماكن العامة بحاجة إلى إعادة التهيئة وباستمرار.
كما لـم ترصد الـدولـة نفقات للتنمية خــاصــة بــقــربــص في السنوات الأخيرة لإنجاز مشاريع جديدة وكل ما تم رصده وبرمجته من مشاريع هو من العهد السابق وتعطل إنجـــازه بفعل الظروف الاستثنائية التي عاشتها البلاد في السنوات الأخيرة. وحتى الترويج السياحي لقربص من قبل كل من وزارة وديوان السياحة يكاد يكون منعدما مقارنة بوجهات أخرى، وذلــك رغـم ما يتوفر في قربص من إمكانيات سياحية هائلة، فهي إلى جانب كونها وجهة علاجية استشفائية، تتوفر أيضا على جـبـال وغــابــات هـامـة يمكن أن تمارس فيها أنشطة عديدة، ناهيك عـن البحر وسواحله الصخرية التي تشجع على رياضة الغوص والإبــحــار بـالمـراكـب والسباحة بشاطئ سيدي الرايس القريب.
وتبقى الطريق الجبلية الرئيسية المـؤديـة إلـى القرية، والمقطوعة، والتي تربط بين عين أقطر وباقي عيون ومنابع مياه قربص، أهم معضلات التنمية في هذا الجزء من أرض تونس الشبيه بجزيرة شبه معزولة. فالقادم إلى قربص مــن العاصمة يضطر إلــى قطع قرابة عشرين كيلومترا إضافية للوصول إلى طريق آخر يعبر فيه بلدة تاكلسة ليصل إلى وجهته. ولا يفهم إلــى الـيـوم سبب تلكؤ وزارة التجهيز فـي استصلاح الطريق الأصلية التي قطعت بسبب انهيار جزء من الجبل، وكأن هناك وجـهـة سياحية أخـــرى محلية أو خـارجـيـة تخشى تـطـور هذا القطب الاستشفائي الواعد محليا ومتوسطيا ودوليا.
ومما قيل عن قربص في مجال الشعر قصيدة للشاعر والمــؤرخ والمفكر التونسي محمد الباجي المسعودي الـذي عاش في مدينة تونس في القرن التاسع عشر في عصر الـدولـة الحسينية، ما بين سنتي 1811 و 1880 وقد ذهب إلى قربص طلبا للعلاج بسبب معاناته من مرض عضال،
«عليل غريب ولا مونس يحن لرؤياك يا تونس
يموت إذا ما يجن الدجى ويحيا إذا نصل الحندس
وما حال من نزحت داره وقربه للعنا قربس...
ومـــن حــولــه الـبـحـر لـكـن به عواصف صرصر لا تهمس
كأن بشاطئه حرة ثياب الحداد لها ملبس
فلا البر بر بـــزواره ولا البحر بحر ولا يونس
ولا نزهة غير عين التيوس وعين السلاحف لا قدسوا..
فقل للأحبِّة، لا مسَّهم هوانٌ إذا انتظَمَ المجلِس
وفـــاحَ العبيرُ ولاحَ الـسـرور وحيّاهُمُ الورد والنَّرْجس..
سألتُكَ يا ربِّ بالمصطفى نبيِّ الهدى الطيِّبِ المغْرِس
وبـــالآلِ والـصَّـحْـب والتابعين ومن في ثَرى بدرَ قد عرَّسوا
تـداركْ عُبَيْدكَ وانظرْ له بعين الرضا فبها يُحرس
وعجِّل شِفاه فأنت القدير إذا حارَ بُقْراط أو هِرْمس
وجمِّعْ بأحبابِه شمْلَه فقد طال في قُربُصَ الـمَحْبِس».