Al-Quds Al-Arabi

«غرفة المسافرين»: بين الغموض واكتشاف الدهشة

- ٭ كاتب مصري

■ لافتراضه أن الشــوق إلــى لقاء المختلف والمدهش الــذي انطوى عليه حلمه، يتطابق مع أحلام ملايين البشــر، يبرر عزت القمحاوي تأليفه لكتابه «غرفة المسافرين» الذي صدرت منه أكثر من طبعة عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة. في كتابه يتساءل القمحاوي عن معنى أن يعيش الإنسان، طوال حياته، في مكان واحد، مشــيرا إلى أن مَن لا يُغيّر مكانه لن يعرف مهما طالت حياته إلا القليل الذي قد يدهشــه، ولن تكون حياته مصدر دهشــة لأحد، إلا إذا قام بانقلاب جنوني. هنا يؤكد الكاتــب أنه لابد لكل نبي من هجرة، مثلما يرى أن البعيد منبع الحكمة وموطن الغرابة، ومَن يعجز عن الســفر في المكان يرتحل في الزمان، كما في الحكايات الشعبية، وإلى المستقبل، كما في روايات الخيال العلمي.

القمحاوي، الذي يســافر في كتابه هذا في الكتب كما في الأماكن، رائيًا أن الســفر، رغم أنه قد يكــون فكرة مدمرة، نظرة إلى الجميل، كان حلم الســفر يــراوده صغيرًا، حتى قبــل أن يتخلّق في داخله حلم الكتابة، يتســاءل هنا كذلك مــاذا يمكن أن يتبقى من «ألف ليلة وليلة» إذا حذفنا الســفر من متنها؟ معتبرا، باطمئنــان، كتاب ألف ليلة وليلة كتابا في الســفر، مشــيرا إلى أن شهرزاد أنقذت بســفرها في الحكايات رجلين من شهوة الدم، ذاكرا أن السرد قد انحاز في كتاب الليالي إلى الارتحال الدائم، وتيمنا بالليالي يظل الســفر، هو روح السرد في كل زمان، يمده بالدهشــة، ويمهد للانطلاقات الكبرى في الحكاية، ولهذا يحب الروائيون الســفر، باستثناءات نادرة من بينها نجيب محفوظ. «غرفة المســافري­ن» الذي يرى مؤلفه أن الإقامة تختلف عن العيْش تمامًا، نعرف منه أن كاتبه، وهو طفل في قرية مصرية، كان يحلم بمكان بعيد، لم يحلم بمدينة، بل بريف آخر بعيد جدًّا، متســائلا هل كانت المدينة تتجاوز أحلامه؟ أم كان العالم بالنســبة له مجرد ريف متعدد الأشــكال؟ القمحاوي الــذي نقرأ هنا تأملاته حول القــراءة والكتابة، يدافع هنــا عن افتراضه أن «الســفر ولع يوحد البشــرية» يفترض أيضا أن كل الأماكن تصلح موضوعًا لحلم الســفر، حتى بلاد العالم الثالث التي يتحملهــا أهلها كعقوبة على ذنب لم يقترفــوه، وكل الأماكن، حســب رؤيته، لديها القــدرة على خلق مجانين يعشقونها، والعاشــق، يرى القمحاوي، لا يعرف بالضرورة أسباب عشقه، فضوضاء القاهــرة التي تنتهك أكثر لحظاته حميمية هــي حلم لآخرين ملّوا هدوء ونظام مدنهم.

بحث عن الدهشة

ومن افتراضاته هنا أيضًا أن الولع بالســفر بدأ مبكــرًا جدًّا، منذ أن عرف الإنســان ألم الوجود، والمســافر يحاول أن يتزود بما يقدر عليه من الحياة، أو بمعنى آخر، حســب قول المؤلف، أن السفر ســعي للعيش الكثيف طالما أن وقتنا على الأرض محدود. وربما يكون الســفر محاولة لتوســيع المكان طالما ليس بمقدرونا تمديد الزمان. هنا يرى القمحاوي توهمات الســائح/ المسافر توفر له الســعادة بدون أن تضر أحدا، ما دامت حبيسة في قلبه، أو فشت بين عدد محدود من معارفه، أما المشكلة فتنبع من توهمات السياح المشهورين من الأدباء والرحالة الذين أسســوا لســوء تفاهم بين البشر يتعذر حله، خاصة وبعض الروائيين والشــعراء الكبار سافروا ومارســوا في ما كتبوه الانتقاء والتضخيم. القمحاوي الذي يرى، بغض الطرف عن الارتباطات السياســية للكاتب، أن قدرة الكاتب محدودة في الإحاطة المتوازنة بالمكان الذي يســافر إليه، وهناك الرغبة في التباهي التي تقود إلى المبالغة في وصف مُتَعِه وحجم الأخطار التــي واجهها، يرى كذلــك أن كثيرا من الكتاب يســافرون بذهنية المحــارب، يريدون العودة بغرائــب ترصّع نصوصهم، مثلمــا يعود الفارس بجراح ترصع جسده كدليل مادي على الجسارة.

هنا يكتب القمحاوي قائلاإن آرثر رامبو سافر حتى استنفد الدهشة سريعًا ومــات، ذاكرًا أن الفرق بينه وبين الرحالة الأوروبيين أنه بحث عن الدهشــة ليعيشــها لا ليصفها، ولم تصدر عنه إساءة لأي مختلف، ولم يبالغ في تقدير المدهــش، لأن روحه كانت تتطلب أكثر من قــدرة أي واقع على الإدهاش. في الســفر يحتاج المسافر، يقول الكاتب، إلى ســاقين قويتين تحملانه، وذراعين قويتين تجران حقيبته، ومعدة تستجيب لنزواته، غير أنه يحتاج إلى عينين أكثر من أي شيء، فالعين هي أول وأقوى مداخل الدهشة، ما جعل الكاتب يفكر في من فقدوا بصرهم وفي حظهم من السعادة في السفر. غرفة المسافرين يرى أن الكمال قد يكون الاســم الآخر للغموض، وأن الغموض ســبب من أسباب عشقنا للسفر، وهو أيضا، ومصادفةً، أهم ركائز الأدب العظيم. هنا أيضًا وبعد أن يورد الكاتب نصيحة توماس مان التي تقول إنه علينا ألا ننظر إلى الأشياء إلى الحد الذي يجعلها محزنة، يوصينا هو بأن نحســد الشــغوفين بالتقاط الصور أثناء رحلاتهم، فهم محظوظون تتلقى عين الكاميرا، نيابة عنهم، نظرة الجمال المرتدة المدمرة.

الهروب مستحيل

باعتباره روايتي «الموت في فينيســيا» و«الأمير الصغير» روايتي رحلة، يتساءل القمحاوي هل ثمة علاقة بين واحدة من أعظم أعمال الرواية الألمانية،

وبين روايــة تبدو معجزة في الأدب العالمي كله؟ مشــيرا إلى أننا هنا أمام كاتبين أحدهما يُناصب الجمال العداء ويتأمله بعمق يجعله محزنًا، والآخر

يتوحد معه فلا يعود يخشــاه. القمحــاوي في غرفته للمســافري­ن يبث تأملاتــه الطويلة، يؤنســن الحقائــب، جاعلامنها حقائــب حزينة وأخرى ســعيدة، ويرى أن الفرار من الموت هو أحد أهداف السفر، قائلاإن لملاك الموت في اللاوعي الإنساني صورة شــرطي يلاحقنا، سيطرق الباب في أي لحظة، لذا نفكر كما فكر وزير سليمان: نسافر حتى لا يجدنا عندما يأتي! الكاتب الذي يؤكد أن السفر يخفف من ارتباطات الإنسان بماضيه وبتقاليده، وأن الهروب من الموت مســتحيل، يرى أن الرحلة عرْض لطيف نقوم فيه بأدوار الموتى، ثم نخرج منه ســالمين سعداء، مثلما يغادر الممثل المســرح عائدًا إلى بيته بعد أن رأيناه يســقط مقتولا. القمحاوي يرى أن السفر اكتشــاف لأنفسنا أكثر مما هو اكتشــاف للمكان المختلف، حيث نصبح أكثر قدرة على التقدير الصحيح لمشــاعرنا بعد الانتقال إلى عالم آخر. في «غرفة المســافري­ن» الكتاب الممتع، الذي يسافر في السفر عبر متن سردي سلس ورائق ومنساب، يرى الكاتب أن معرفة الذات لا تعني اكتشــاف المسافر لروحه فقط، بل مقابلة جسده منفردا والإنصات لأوجاعه والتعرف على التغير الذي اعتراه، كما يرى أن المســافر، على النقيض من الراهب، ينصت إلى حواسه في عزلته وسط جموع الغرباء، فيكتشف الأشياء التي تســعدها، كما ينصت لأنين أعضائه الذي أهمله خلال ركضــه في أيامه العادية، كما نجــد هنا تأكيد أن الســفر يخلصنا من العمق المؤسف الذي لا تســتحقه الحياة، وأننا نلتقي بأجسادنا في السفر ونتعرف عليها بعد غيبــة، وأننا لا نكون معصومين من الحــزن، لكننا نكتمل. وفيه لا يُبقينا عزت القمحاوي رهن الإقامة الجبرية في مكان أضيق من سم الخياط، بل يمنح لكل منا جناحين يطير بهما ويسافر إلى حيث أراد، وفق اتساع مجرة خياله، مبينًــا أن إمكانيات التواصل الحديثة، ســاعدت المســافر القلِق في التغلب على الوحشــة، لكنها قضت على عادات القــراءة في أوقات الانتظار، والأسوأ أنها أضرت بعشاق السفر المخلصين المؤمنين بفضائل الخفة ويحبون الانخراط فيها منذ مغادرة عتبات بيوتهم. هنا يرافق الكاتب مســافريه ما إن يخرجوا من أبواب بيوتهم مقتفيًــا آثارهم حتى وصولهم المطارات، فذهابهم إلى الطائرات، واصفًا شــعورهم وهم معلقون بين السماء والأرض، متحدثًا عن صنيع شــركات الطيران وما تقدمه على متن طائراتها، عارجا إلى وسائل الســامة والأمان وجمال المضيفات، قائلا إنه مهما سافرنا فلن نعبر السماء الواحدة مرتين، بدون أن ينسى سفر البحار والمحيطات على متن السفن.

فوائد السفر

الكاتب الذي يتساءل لماذا لا تُعقد محادثات السلام على متون الطائرات؟ يكتب هنا عن الدُّش السماوي الذي دفع فيه صديقه ثروة طائلة فقط ليجرب الاستحمام في الســماء، وعن فرحة الراكبين لحظة تلامس عجلات الطائرة بــالأرض، وعودتهم مــرة أخرى غرباء عــن بعضهم بعضًــا، بعدما توثقت صداقتهم في ســاعات الخوف، واصفًا روح المسافر الضعيفة المرتابة المترددة الخائفة، المســتثار­ة بروح طفل فــي أرجوحة. في «غرفة المســافري­ن» الذي

يقســمه القمحاوي إلى أربعة أقســام: في المعنى ـ عبر الحقيبة ـ مكتوب على جدار القلب ـ زفرة السائح الأخير، يسلط الضوء هنا على بعض المدن، مقارنًا بين المدن الســعيدة والأخرى الحزينة، مخالفًا كثيرين فــي انبهارهم بمدينة فينيســيا، كما يقارن بين سفر الليل والنهار، محذرًا من سفر الليل، حيث أسوأ المخاطر تنتظر مسافري الليل وأخفها تنتظر حقائبهم.

ومن فوائد الســفر، أو عذاباته، التي يضعها أمامنا هنا أن المسافر يكتشف أن حياة الآخرين ممكنة من دونه، كما ينصح المسافرين أن يتكلفوا اللطف في المدن الحزينة، وأن يتجنبوا أي شيء يحمل اسمه وعودًا لا يمكن الوفاء بها في تلك البلاد، أما ما يبدد خفة الســفر ويطفئ بهجته فهي المدن التي تعاني نقصًا في الهواء، وتلك التي تتباهى بنفســها. القمحاوي الذي كان يحرص دائمًا في ســفرياته على خفة حقيبته، يقول إن أحد تعريفــات الحرية عنده هو امتلاك فرشاة ومعجون أسنان، ذاكرًا أن الراحة أثناء السفر ليست هي دافعه الوحيد إلى تحرّي الخفة، مشــيرًا إلــى أن الذين يتأنقون للآخرين يغفلون شــيئين: الملابس المنزلية التي لا يراها الغرباء، وحقيبة الســفر التي لا تظهر للآخرين، إلا في لحظات العبور السريعة.

وفي الســياق نفسه يكتب قائلاإن الحقيقة غير الســارة أننا مهما سافرنا وحملنا أو رأينا حقائب ســفر، فأكثر ما نتذكره هو الحقائب الحزينة، ذلك لأن الفرح ساذج وسطحي وهش، ســرعان ما يتخلى عنا لأبسط الأسباب، بينما الحزن لئيم وعميق، وهو الأكثر على هذه الأرض للأسف. ولأن الأدب لا يخلو من القصــص الحزينة، لذا يعتقد الكاتب أن قصص الحب والســفر الســعيد وحقائبــه لا تعنــي إلا أصحابها. القمحــاوي الذي يكتب نثــرًا هنا، لا تخلو عباراته من الشعرية، إيقاعًا وتصويرًا، استعارة ومجازًا، فهو يصف الحقائب والمدن بالحزينة، ويقول عن الملابس إنها تتقاعد، معترفًا أنه لا يحب إلا الكُتاب الشياطين.

أدب الشاطئ

في «غرفة المســافري­ن» لا يظهر عزت القمحاوي كواحد من الساردين الكبار الذين يجيدون الإمســاك بقارئهم حتى النقطة الأخيرة فقط، بل يظهر كمثقف واســع الاطلاع والمعرفة، وبطريقة غير مباشــرة، يجعلنا نســافر في عوالم السفر، مؤكدا أن الحياة بلا ســفر هي حياة ينقصها الكثير، أو هي، تقريبًا، لا حياة. هنا ايضًا، ومن خلاله، نعرف أن الإنكليزية جين أوســن كانت أول من كتب أدبًا يتعرض للحياة على الشــاطئ، مدشنة في مؤلفاتها الكتابة عن تلك اللحظات الاستثنائي­ة في حياة الإنســان، لحظات العطلة في الزمان والمكان العابريْن، بكل ما تحمله هشاشــة الظرف من ســعادة وحزن، مشيرًا إلى أن الشــاطئ كان قد غــاب عن الأدب المصــري حتى كتب إحســان عبد القدوس قصصه عن الصيف. هنا كذلك يعتقد القمحاوي أن هناك يومًا لقيامة السياحة، اليوم الذي ستنتقل بعده البشــرية إلى حياة أخرى عديمة الدهشة، يومذاك ســيُلقي الســائح الأخير، الذي يقف على ربوة تطل على آخر قرية في العالم، بالكاميرا إلى عمق الوادي وينصرف. هنا أيضًا يقول الكاتب إننا نحلم بالمدن التي لم نعرفها، لكن هبت علينا منها نســائم حــب، وحين نثرثر مع أصدقائنا نتكلم عن المدن التي نرغب في زيارتها، لا التي زرناها، ناصحًا قارئه ألا يخرج من بيته، إذا لم يكــن متأكدًا من مهارته في العودة إلــى الطفولة، وإلا فإنه لا يهدد سعادته الشــخصية في الرحلة فقط، بل مستقبل صناعة السياحة التي توفر مئة مليون وظيفة في العالم وحوالي ثلاثة ترليون دولار.

القمحاوي الذي يقول إن السفر يبدو وكأنه الرد التلقائي على الموت وعلى الانكســار في الحب، يتساءل هل السفر لاســتعادة الماضي؟ أم لإعادة حجب المســتقبل؟ معلنًا أن من أهداف الســفر الالتقاء بدهشــة المختلف، غير أننا لا يمكــن أن نتخلى فجأة عما ألفناه طوال حياتنا. هنا يرى القمحاوي أن الحياة مجرد حلم، والموت هو استيقاظ الحالم، والســفر والعودة هما مجاز الحياة والموت، قائلاإن كل ســفر هو حلم، وبعض الأحلام جميل، وبعضها كوابيس، أما فضيلة الســفر الكبرى فهي أنه يصالحنا على أماكن عيْشنا الأصلية. كما أن «غرفة المسافرين» ليس كتابًا عن أضلاع مثلث السفر الثلاثة: المسافر ـ حقيبة السفر ـ مكان الســفر، وإنما هو، إلى جانب ذلك، ينقل لقارئه، الذي عَلُق معه طوال صفحات كتابه، فلسفته وخبرته ومعرفته وما توصّل إليه من معلومات ومتعة ومشاهدات وتأملات من خلال ســفره وترحاله. نهاية أستأذنه في أن أتصرف في مقولة أليساندرو باريكو التي يقولها على لسان راويه «إذا رقصتَ لا تموت، تشــعر بأنك إله» وأصيغها هكذا «إذا ســافرت لا تســتمتع فقط، بل تشعر بامتلاكك للعالم».

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom