Al-Quds Al-Arabi

ترشيد السياسة الجزائرية في «مناطق الظل»

- عزالدين مصطفى جلولي ٭ كاتب جزائري

«مناطق الظل» في قبالة مناطق الشمس، تعبير سياسي لطيف يســتبطن اعترافــا ضمنيا بخلل في مشــاريع التنمية الســابقة، واقتصارهــ­ا علــى مناطق الحضــر، حتى ضاقت المــدن بأهلها، وتشوه عمرانها واتســعت فوضويا، ولا حل بات مستطاعا. ما صدر مــن وثائق حكومية وما أعقبها من تصريحات مســؤولين رســميين يثيــر الفكر لكشــف الحقيقة، ويغــري بالنقــد لتقويم المسيرة.

ما ظهر للعلن يفيد أن ترقية المناطق المحرومة أولوية للحكومة الحاليــة؛ وتلكم خطوة أولى في الاتجــاه الصحيح، لأن العمران الحقيقــي الذي تحتاجه الإنســاني­ة اليوم، يجمــع بين الحاضرة والباديــة، أي مدينــة كأنها ريــف وريف كأنه مدينة، في نســق متلازم لا وكس فيه ولا شطط.

تخطيط علمي

إن مجــرد التفكير في هذه الأمانــي عمل ذهني ممتع، ومدعاة لســعادة القلــوب، لذلــك يتطلــب الأمــر تخطيطــا علميــا طويل المــدى، يرافقه عمل تراكمي دؤوب جماعيا، يتجاوز العشــوائي­ة والفوضى والانقلاب؛ لأن البشــرية عاشــت فوق البســيطة منذ آلاف الســنين ولحد الســاعة لم تتمكــن من اجتــراح نمط عيش هنيء يــدوم. )ظهر الفســاد في البــر والبحر بما كســبت أيدي الناس(.

لا تــزال لغة الإدارة تتســم بالديماغوج­ية رغم مــا تتعرض له مــن نقد وفضح، فمصطلــح «تنمية» مناطق الظــل، فيه مغالطة،

إذ كيف تنمي وأنت تســتثمر؟ تســتثمر ما لا تملــك )المال العام( لفائــدة من لا يملك )الســلطة( في مــن يملك )الشــعب(. بعبارة أوضح، إن تمديد الغاز والكهرباء والماء للشرب إلى مناطق نائية يــدر على الخزينــة العمومية أضعاف ما أنفقــت؛ لأن التمديدات الثلاثــة بيع في الحقيقة على مدى العمــر للماء والطاقة، ثم مآل العوائد أن تصرف بطريقة غير رشيدة كما اعتدنا.

تماما كما تفعل الســلطة عندما تســلم الســكنات للناس بعد قبضها المقدم من الثمن وتقول إنها منحتها للمستحقين، فيتبادر إلى ذهن الســامعين أن ذلك عطاء بلا مقابــل، وفي خضم حفلة من الزغاريد وســيل من التشكرات لســيادته ومعاليه وفخامته تميع الحقائق، وكل ما فعلته الســلطة أنها باعت وحدات سكنية بإيجار منته بالتمليك. وحــدات أثبتت الجوائح أنها غير صحية للسكن بتاتا.

عصر الطاقات الأحفورية

إن سياســة الاهتمام بمناطق البادية نذيــر أن عصر الطاقات الأحفورية قد آذن بالانتهاء، وذلك ما نسمعه من حين لآخر على ألســنة رجال الدولة النزهاء، ممن لا يفتأ يذكــر بخيبة الاعتماد على الاقتصاد الريعي، ويحض المسؤولين الفعليين على الانتقال العاجــل إلى الاقتصاد النوعي؛ لأن الأمر لا يســتدعي مخططات ســنوية وتأمين أغلفة مالية فقط، بقدر ما يطلب إصلاحا بنيويا في كل النواحي الاقتصادية والسياسية والتربوية وغيرها.

ليســت كل الطاقــات البديلــة مفيــدة، ولو كانت مــن الأهمية والتجدد بمــكان. الألمان واليابان أنهوا علاقهــم بالنووي لمضار تعرضتا إليها فاقت المكاســب، وهم من هم في السبق والحيطة

والحذر.

إن التباهي عندنا بمحطات نووية للاستعمال السلمي يضيع الوقــت والجهد لتطوير طاقات أخــرى أكثر أمنا ونقا، والجزائر قارة في هذا المضمار، ولكنها غير عامرة.

لم تتخل الســلطة عــن تجيير ما تنجزه من أعمــال وكلت بها، بــا مزيــة لها على أحــد، لصالح دعــم تتمنى في قرارة نفســها أن تحظــى به من شــعبها، أثناء كل مســرحية تدشــن تبث في الإعــام، وتلك مفارقــة مهبطة لقيمة أعمالهم فــي نفوس الناس مهما كان أعمالهم مفيدة؛ إنها خلة غير محمودة تأتت من شعور عميــق ينتاب المســؤولي­ن من تأنيــب الضمير، بنقص الشــرعية والمشــروع­ية في المناصب التي يحتلونها وفي نزاهة المشــاريع التي يقومون بها.

نعــود لمناطــق الظل، ومــا تقطنه من رعيــة آمنــت بالله إيمان العجائــز وعاشــت فــي الريــف بالقرب منــه، نزلــت عليها هذه السياســة تنزيــا مــن دون أن تستشــار فيهــا، وهــي العليمة بحاجاتهــا على أرضهــا. إن قاطني الأرياف متشــبعون بتعاليم الإســام حتى النخــاع ولو كانوا أميين. يســترعيهم الأمان على الديــن والنفــس والعقــل والمال والنســل والعــرض، وتلكم هي منصة الترقية في مناطق الظل بحق، لا إحصاء الســاكنة ومدها بالطاقة والطريق فحسب.

السياسة التنموية

عندمــا أتأمل كيــف أضاف النبــي )صلى الله عليه وســلم( الباديــة إلــى نفســه ونســب نفســه إليها فــي حديثه عــن ذلك الصحابــي البــدوي: «زاهر باديتنــا ونحن حاضــروه» وأتملى كيف كان المصطفى يتبادل معه الهدايا، تعبيرا عن قيمة التكامل حسا وإحساسا بين البدو الحضر، أدرك أهمية العامل الإيماني في أية سياسة تنموية حكومية، وآسف أن كان ذلك عندنا بعيد المنال!

الأمــن والتعليم والصحة ومرافقة الســلطة للرعية أنى حطت رحالهــا، وإيصال ما اســتحقت من مال كلــه لا بعضه، كما كان يقــول عمر الفــاروق )رضــي الله عنــه( وهو أميــر دولة عظمى آنذاك: « لَئِنْ عِشــتُ لَيأتيَنَّ الرَّاعيَ بِسَــرْوِ حِمْيَــرَ نصيبُه مِنها لم يَعرَقْ فيها جَبينُه» يقصد حق كل نسمة في بيت المال مذ تستهل حية، والخليفة منصب يعــدل رئيس الدولة بالمصطلح الحديث، مع فوارق صارخة بين ذا وذاك في الهدى والندى والمدى...

لم يخل نشــاط اقتصادي حكومي من فســاد مالي، في كافة مراحل الدولة الجزائرية المســتقلة؛ كأنه ثقب أســود مســلط لم يبرح ســماء البلاد، أفنــى المخزون الاحتياطــ­ي للعملة الصعبة، واســتنفد الثروات الباطنية في كل الأرجــاء، وتنمر على العباد، وأصبحــت له مخالــب وأنياب، يطل بهــا كلما اشــتم في الأفق الرحيب رائحة تسيل اللعاب.

وما وجد السياسيون لهذا البلاء من دواء، غير الصمت لغاية الانتهاء من ترقية مناطق الظل بالماء والغاز والكهرباء.

هذا كله إذا صدقنا بسذاجة السلطة في أوبتها المتسرعة إزاء المناطــق المحرومة من التنمية بطبيعة الحال، أما إذا نظرنا إلى ما وراء الأكمة فلا يخلو الأمر من أســرار يتداولها الربان الســفينة فيمــا بينهم، تلفيها مســجلة في الصندوق الأســود للسياســة الجزائرية، لا ريب أنها ستتكشف في يوم من الأيام.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom