Al-Quds Al-Arabi

عصر التسويات المؤجّلة

- *كاتب لبناني

نزاعــاتٌ وأزمــات وكــوارث تتفجــر في كل الأزمنــة والأمكنة. العالم بقاراتــه الخمس متخم بها. مســبّباتها متعددة، لعل أهمها وأخطرها جائحة كورونا، فقد شلّت الاقتصاد، وعطّلت المرافق والمؤسســا­ت، وضخّمت البطالــة، وأرهقت الصحة العامــة، أفــراداً وجماعــات وأطباء وممرضــن وصيادلة ومشافي.

الحكومات تبدو عاجزة عــن مواجهة النزاعات والأزمات والكوارث المتناسلة، وفي الأقل تتعثر في معالجتها. الأزمات الداخليــة تهون أمام أزمــات متعاظمة بين دولٍ متنافســة، تتطلّب معالجات وتسويات لا تجد الحكومات المنهكة الوقتَ والإمكانيا­ت اللازمة لمواجهتها.

أكثر النزاعات والأزمات حساســيةً وخطــورة، تلك التي تتفجّر وتتمــدد في بلدان غرب آســيا الممتدة من شــواطئ البحر الأبيض المتوســط غربــاً، إلى شــواطئ بحر قزوين شــرقاً. في هذه المنطقة نزاعات عاتية تلاحق الفلســطين­يين المناضلين للتحرر من الاستعمار الصهيوني؛ وتهدّد اللبنانيين المنشــغلي­ن دائماً بتداعيــات تعدديتهــم الطوائفية المرهقة؛ وتستهدف الســوريين المســتنزف­ين بوحشــية التنظيمات الإرهابية، والمحاصرين بالقوات الأمريكية المحتلة في التنف شــرقي البلاد والجزيرة في شمالها الشــرقي، كما من بعض كردٍ ســوريين زينّت لهم أمريكا أنها تدعم ســعيهم في وجه ســوريا وتركيا لإقامة حكم ذاتي، بينما همّها السيطرة على مكامــن النفط في المنطقــة وإضعاف الحكومــة المركزية في دمشــق، وصولاً إلى تفكيك وحدة البلاد؛ وتستفز العراقيين المنقســمي­ن على أنفســهم، بفعل نزاعات وأزمات ناجمة عن الاحتلال الأمريكي، وكان أخطرها إقدام ترامب واستخبارات­ه على اغتيال قائد قوى المقاومة في بلدان غرب آســيا قاســم سليماني، وقائد الحشد الشعبي المقاوم أبو مهدي المهندس؛ وتحاصر الإيرانيــ­ن بالعقوبات الاقتصادية منــذ 42 عاماً، ناهيك مــن تداعيــات خروج أمريــكا من الإتفــاق النووي ومباشرتها و »إســرائيل» عمليات استخباراتي­ة معقدة كانت ذروتها اغتيال العالم النووي محســن فخري زاده. كلُ هذه البلدان والشــعوب الشــديدة المعاناة تريــد الخلاص من النزاعات والأزمــات والمآزق التي تســبّبت بمعظمها أمريكا وحلفاؤها.. كيــف؟ بعضُ قادتها حاولوا تحديد الخســائر بإجراء تسويات معها، لا خوفاً منها، بل لأن لها صلة مباشرة ووجــود ونفوذ وزبانية في البلــدان المبتلية بتلك النزاعات والأزمات، ولا ســبيل إلى تســويتها إلاّ بالتفاوض معها، أو بمقاومتها إذا ما توافرت القدرات والأسلحة والفرص.

المفارقــةُ أن أمريكا باتــت راغبة، بل عازمة على تســوية النزاعــات والأزمات والصعوبات التــي افتعلتها في المنطقة بعد الحــرب العالمية الثانية، لســببين: الأول، لأنها ما عادت تدرّ عليها أرباحاً ومنافع، بل أصبحت تشــكّل عبئاً سياسياً وماديــاً. الثانــي، لأن مقاومات شــعبية فاعلــة وضغوطاً سياسية واقتصادية مؤذية، باتت تواجهها وتزيد من أعبائها وحرجها. أجل أمريكا تريد تســوية هذه النزاعات والأزمات، لكنهــا غير قادرة حاليّاً على اعتماد مســار يــؤدي إلى ذلك، لانشغال إدارة جو بايدن الجديدة بما تعتبره التحدي الأول والأخطر في الحاضر والمســتقب­ل المنظور: تداعيات جائحة كورونا، التي فتكت بالبشر وشــلّت الاقتصاد من جهة، ومن جهة أخرى بروز مطالــب متعددة ومعقــدة رفعها حلفاؤها الإقليميون، مشترطين مراعاتها خلال المحادثات والمفاوضات المفترضة للتوصل إلى تسويات بشــأنها. في هذا المجال ثمة حالات ماثلة:

*«إســرائيل» تشــترط لقبول تســوية مع الفلسطينيي­ن أن تعترف إدارة بايدن بكل المكاســب )غير المشــروعة( التي أغدقهــا عليها ترامب، أهمهــا اعترافه بالقــدس عاصمةً لها، وضمها معظم مناطق الضفة الغربية بموجب «صفقة القرن»، وكذلك الجولان الســوري المحتل، وعــدم العودة إلى الاتفاق النووي.. وإذا كان لا بدّ مــن العودة إليه، فذلك يكون مقروناً بإبقــاء العقوبات الاقتصاديـ­ـة على إيــران، وتقييد قدرتها على تخصيــب اليورانيــ­وم، والحدّ من تصنيــع الصواريخ الباليســت­ية بعيدة المدى. غير أن إدارة بايــدن ما زالت غير راغبة، وربما غير قادرة على استجابة هذه الشروط حاليّاً ما حملها على التريث وشراء الوقت.

*لبنان يودّ لو أن أمريكا تتدخل لإقناع «إسرائيل» بالجلاء عن منطقة شــبعا المحتلة، كما بالجلاء عن مســاحة واســعة تحتلها من المياه الإقليمية اللبنانية، حيث النفط والغاز، لكن إدارة بايدن غير راغبة، وربما غير قادرة حاليّاً على استجابة هذه المطالب وتفضل تالياً شراء الوقت.

*ســوريا تريد إجلاء القوات الأمريكية المتواجدة فيها من دون إذنها، كما تريد إجلاء «إســرائيل» عن الجولان المحتل.

أمريكا اكتفت بالإعلان عن وقف اســتخدام قواتها في حماية أعمال شــركاتٍ تقوم بســرقة نفط ســوريا في مناطق شرق الفرات، لكنها امتنعت عن اتخــاذ موقف معارض من احتلال «إسرائيل» الجولان.

*العراق اتخــذ برلمانــه قــراراً بإخراج جميــع القوات الأجنبية، وفي مقدّمها القــوات الأمريكية، لكن أمريكا تراوغ، لأن همّها الأســاس هو الحدّ من نفوذ إيــران في العراق ومنع قيام تحالف بين البلديــن في وجهها وضد «إســرائيل»، لذا تفضل أمريكا التريث بشراء الوقت.

يتحصّــل من ذلك كله أن إدارة بايــدن، بضغط من الدولة العميقة، لا تريد اســتجابة معظم مطالب البلدان آنفة الذكر، بدعوى انعكاسها سلباً على مصالح أمريكا وأمنها القومي، كما على أمن الكيان الصهيوني. حتى المطالب القليلة القادرة على استجابتها لا ترى أمريكا أن في وسعها الآن تخصيص ما يلزم من وقت وموارد لتســويتها، لأن أفضلية إدارة بايدن المطلقة معالجــة الأزمة الصحية والاقتصادي­ــة الخانقة التي تعانيها بســبب استشــراء جائحة كورونا وتصفية موروث ترامب السياســي. الأهم ثم المهم.. هذه هي القاعــدة التي تعتمدها إدارة بايدن في معالجة الأزمــات والتحديات التي تواجهها، لذا فإن التســويات المراد إجراؤها في غرب آسيا مؤجلة إلى ما بعد مواجهة أزمات الداخل الأمريكي وتجاوزها. ماذا تراها تفعل دول الإقليــم المحتلة أراضيها والمحرومة من اســتثمار مواردها الطبيعية بسبب احتلالٍ إسرائيلي أو أمريكي؟

ثمة خيــاران: القعود بانتظار تســوية تمنّ بهــا أمريكا، أو الاعتمــاد على الذات وتعبئة النفوس والموارد ومباشــرة مقاومة مدنية وميدانية في سبيل التحرير والسيادة وكرامة العيــش والتنمية. الخلاصــة : انتظار أفاعيــل أمريكا، ومن ورائها «إسرائيل»، موتٌ بطيء.. المقاومة هي الطريق والحل.

الأهم ثم المهم... هذه هي القاعدة التي تعتمدها أمريكا بايدن في معالجة الأزمات والتحديات التي تواجهها

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom