Al-Quds Al-Arabi

لبنان بين جنازتين لـ«الفارياق»

- ٭ كاتب لبناني

■ أن يقف رجال الدين من أهل الملّتين جنب بعضهما البعــض، ويختلط الآذان مع قرع الأجــراس، فهذا ما بات أكثر من تقليدي ومســتهلك، ســواء في لبنان أو في بلدان المشرق الأخرى. أما أن تتمازج تلاوة القرآن بقراءة مجلس عزاء مع ترنيمة مســيحية تبكي دموع السيدة العذراء، فهذا ما جعل المشهد التقليدي لرجال الدين المجتمعين يســتولد بعداً غيــر تقليديّ في وداع العقل المغدور لقمان سليم.

ثم جاءت الخضة التي أثارهــا اعتذار قارئ العزاء بعد مشــاركته في التشــييع، بدعوى أنه لم يكن على بينة من أن «الإنســان» - كما وصفــه - لم يكن «من خطنا السياسي». وزاد الهرج والمرج مع بيان أبرشية بيــروت التي تتبرأ فيه من ان تكون قد أرســلت كاهناً للمشاركة في تشييع ســليم، كما لو أن الترنّم في هذا المقام جحود بأصول الدين.

أظهر هذا «التمرين» المفجع هشاشــة تجربة سعت منذ نشــأة الكيان اللبناني، بل قبل ذلــك بعقود، الى ابتكار منطقة رمزية مشــتركة إســامية - مسيحية كنوع من «دين مدني وســيط» بين المســيحيي­ن، على اختلاف كنائسهم، والمسلمين، على اختلاف مذاهبهم. هذا في الدولة اللبنانية التي تنص المادة التاسعة من دستورها أنها تؤدي»فروض الإجلال لله تعالى» الأمر الذي يفترض وجود الحيز الرمزي المشترك، أو الدين المدني الوسيط... والا دخلنا في متاهة» تأدية فروض الإجلال وفقاً لأي عقيدة.»

تمامــاً مثلما أنها الدولــة التي كثر فيهــا الاحتفاء «بالمشترك المريمي» بين المســيحية والإسلام، خاصة بعد اضمحلال الأقلية اليهودية فيهــا، بل اهتدى هذا المشــترك قبل بضع سنوات الى عيد «نصلاميّ» (نحت لغوي من نصراني وإسلامي ابتكره المفكر، الذي اغتيل هو أيضا، كمال يوسف الحاج( هو «عيد البشارة.»

ربما كانت هذه الخضة حول الشعائر لحظة تشييع

ســليم، وهو أبرز معارض لـ«حزب الله» في الضاحية الجنوبيــة، بمثابــة لحظــة بلــوغ لـ«النصلاميّــة» لخواتيمها.

ويعيدنا الأمر أكثر ما يعيدنــا الى بدايات التجربة «النصلامية» يوم وصل جثمان النضهوي أحمد فارس الشدياق الى بيروت في 5 تشرين الأول/أكتوبر 1887 آتياً من الأســتانة. فالشــدياق كان مارونيــا ثم بدّل الــى البروتســت­انتية قبل أن يعتنق الإســام، ورغم أن الســلطان عبــد الحميد كان يعتــزم دفنه في تربة الســلطان محمود بالأســتان­ة كرمز من رموز الدولة العليّة، الا أنه جرى احترام وصيته التي تقضي بنقله إلى جبل لبنــان. وبالنتيجة، حصل نــوع من التوتر بين المسلمين وبين المســيحيي­ن على جثمانه، ثم تأمنت التسوية، بحيث يشيّع الشــدياق في الجامع العمري ببيروت بحضور كهنــة، وينقل بعدهــا الى مدفن آل الشــدياق في الحدت. ونقل بعد ذلك الى جوار مدافن المتصرفين في منطقة الحازمية.

في تاريخه عن بيروت، يدرج ســمير قصير )الذي اغتيل هو أيضاً( هــذا التخفف من الفــرز الديني في حالة تشييع الشــدياق كمؤشــر على نمو «الفردنة»

individuat­ion في عصــر النهضة، أي أن هناك فردا فــرض خصوصيته على الجماعة، وســاهمت فرديته في دفع الملتين الى موقف تســووي بينهما. يصح ذلك، الى حد معــن، إلا أنــه لا ينفصل عن كــون ابن عمة أحمد فارس الشــدياق هو بطريــرك الموارنة في ذلك الوقت، بولس مسعد، وكان البطريرك التقى ابن خاله خلال عروجه على الأســتانة ونيله الوسام المجيدي، وسينقل عن قريبه أنه لم يزل على دين أجداده. وهذه رواية ضعيفة لولا أن الشــدياق أوصى بأن ينقل بعد مماته إلى لبنان.

وإذا كان من الممكن ادراج اسم الشدياق على يسار حركة الاســتنار­ة العربية في القرن التاسع عشر، فإن ابن عمته، بولس مســعد، كان على يســار كل من مرّ على الكرســي الأنطاكي من بطارك. فقد أبى مسعد ان يلبســه الجبة شــيخ من مقاطعجية آل الخازن، وكان الحاضــن للانتفاضــ­ة الفلاحية في لحظة اشــتعالها بقيادة طانيوس شــاهين، لكن اللافت مــا يذكرنا به الأديب الكبير مارون عبود الــذي ترك واحدا من اهم الكتب عن الشــدياق تحت عنوان «صقر لبنان» وهو ان مسعد، عمّق في الاتجاه الشعبي، الخط الناقم على المقاطعجية الخازنيين، الذي ابتدأه البطريرك يوسف حبيــش، ولو ان الأخير من عائلــة مقاطعجية أخرى. وحبيش الذي كان مســعد كاتب سرّه، كان أيضاً وراء حبس الشــقيق الأكبر لفارس، أي اســعد الشدياق، بسبب اعتناقه البروتستان­تية، في ظروف قاسية في دير قنوبين، والتعجيل بإماتته شــاباً الأمر الذي فجّر كل طاقة التمــرد عند فارس. يقول عبــود: «لولا تلك الثورة الفكرية التــي أضرمها حلول البروتســت­انت فــي الجبل بــن جماعة يــكادون يعتبــرون المقاصد الرســولي أجنبياً عنهم، ودخيلا على طائفتهم، لما فرّ» صقر لبنان» ولما كان» حجر الزاوية في صرح النهضة الأدبية المعاصرة». فالموارنة ســبق لبطريرك منهم في القرن السابع عشر )يوسف العاقوري( ان القى الحرم الكنســي ليس فقط علــى من يخالط البروتســا­نت، بل على مــن يعترف او يتنــاول القربــان عند الآباء اليسوعيين، رغم الاشتراك معهم في الكثلكة.

تتفرّد مقاربة مارون عبود لحالة الشــدياق على كل ما تلاها بالقــدرة على تفكر كل المســألة المارونية من خلالــه، وهو حين يعتبر ان الشــدياق «فكرة تمخض بها لبنان طول خمسة قرون» يقصد تحديدا المنعطفات التي مر بها تاريخ الموارنة.

لكن عبــود يريد في نفــس الوقــت أن يبني فكرة مشتركة إسلامية مسيحية عن لبنان تستوحي نموذج الشــدياق، ومن خلال تســطير أهمية المنعطف ليس

فقط اللغــوي والأدبي الذي يجسده اســم الشدياق، بل هذا النمــوذج الــذي يمكن أن يســتلهم لبنــاء الوطن العتيــد، أي نموذج «الفارياق» الفرد المنحوت اســمه من «فــارس» و«شــدياق» المتعدد والمتمــرد والمراوغ والســاخر أبداً، في تحفة الشدياق الأساسية «الساق على الساق».

بيــد ان «النصلاميــ­ة» (التمازجيــ­ة الاســامية المسيحية( التي كان بمتسع السستام الطائفي اللبناني قبولها لم تكن لتترك مكاناً لشخصية تحوي من تنوع الطبقات والأبعاد داخلها مــا يحويه «الفارياق». هذا الفارياق الذي كنا ندفن شيئا منه أيضاَ يوم دفن لقمان سليم، المهجوس بســؤال اللغة العربية هو أيضاً، ولو من زاوية بعيدة عن زاوية الشدياق.

وما بين جنازة أحمد فــارس وما بين جنازة لقمان، تقفز من كتاب مارون عبود قصاصة من صحيفة من عام 1938. يومها، وفيما كانت تجــري أعمال حفر لتعديل طريق عاليه، عثر على نعش من رصاص صدفة، فإذ به يضم جثمان الشــدياق. ورد في الصحيفة: «الجثمان على حاله )...( فلحيته باقية، وحاجباه باقيان ايضا، ولم يطرأ على شعره وعلى وجهه أي تعديل أو تغيير». هذا بعد نصف قرن على وفاته!

يومها وقبل ان ينقل الجثمان الى الضريح الحالي، وقبل ان يصيــر الضريح الحالي فنــاء لأحد المحلات التجارية، شــاع عند الناس أن الشدياق «قديس لأن جســده لم يبلَ». هذا مع ان الفارياق لم توح ســيرته يوماً بما يمت صلة بالقداســة، بخلاف شــقيقه أسعد المظلوم فــي قنوبين. لم يكن الفارياق قديســاً. كان... استحالة. ضرورة مستحيلة

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom