Al-Quds Al-Arabi

تدوين الإلقاء وتشظي صورة اللص في تجربة العراقي علي الياسري

- ٭ كاتب عراقي

■ على الرغم من أنه شــاعرٌ جُملي بامتياز، إلا أنه يتصدى مــن خلال تلــك الجُمل عبــر تشــخيصات مســبقة للكثير من الظواهــر الثقافيــة والعقائديـ­ـة في المجتمع بغــرض فضحها دائما ومعالجتها أحيانا.

تفشل أو تخجل نصوص عديدة لشعراء مختلفين في هذه المنطقة، بســبب أنها تتكئ على الاختزال والتكثيف المبالغ به، الأمــر الــذي يحرضها على الترميــز غير المدروس، اســتدعاءً لمرمــوزات شــائعة، أو مرمــوزات مختلقة، وعادة ما تســقط هــذه النوعية من النصوص فــي فخ التجريــد، وفي الحقيقة هذه النصوص بســبب أنهــا تندغم داخل تركيبــة من الرموز عبــر الإيحاء تحيــل بعضها إلى بعض داخــل بنية النص، هو مــا يجعلها تفتقر للســياق الواضح الذي يجتــذب الجوانب، التي تتســاوق وتتعالق مــع جوانب الرمــوز الأخرى فتحقق فــي النهايــة مقصدا، قــد يكون هو نفســه ما يريده الشــاعر وقــد يكون قريبا منــه، ولكن الذي يحدث أنهــا تُدخل المتلقي فــي قراءات لانهائية، ليس لكونها تنطوي على طاقة شــعرية وفكرية مثــا منحتها مثل ذلــك الامتياز القرائــي، إنما غياب الفكرة أو المضمون المراد منه الظهور والانكشــا­ف بعد تقشير طبقات اللغة وتفكيــك مآلات رمزيتها، وأحيانــا تُظلم الفكرة تحت طبقات الاشتغال اللغوي الذي يجيء في غير محله.

«عائلة لا يراها أحد»

هذا النموذج الأول وهو شــائع. وعــادة ما يكون عالقًا في مدارات سوزان برنار واشتراطاته­ا. هناك نموذج آخر يشتغل في هذه المنطقة وينجح فيها بشــكل لافت، يحدث ذلك عندما يصبح التكثيف والاختزال عبارة عــن دقة في اختيار المفردة المناســبة التي تحمل في لحمها طاقة التعبير عن فكرة مسبقة تختمر في رأس الشــاعر، ولذا تكون هذه المقاطع/ النصوص مشــروعًا لانزياحات متعــددة داخل اللغة مــن جهة وداخل الفكرة من جهة ثانية، وبذلك يحقق النص انزياحين ناجحين فعالين متماهييين، لا تفصل بين فكرة النص ولغته، يتوحدان مثل ثنائية روح/ جسد في بنيان واحد، وعلى سبيل المثال لا الحصر نقرأ في نص «عائلة لا يراها أحد» هذا المقطع: الله أغنية الشيطان أغنية مشكلتنا أننا نسمع كل الأغاني

الشــاعر علي إبراهيم الياســري، اســتطاع فــي مجموعته الفائــزة بجائزة الرافديــن للكتــاب الأول 2019 «أدخل بيتي مثل لص» أن يكون شــاعرا من النوع الثاني الذي تتسق عنده اللغة والفكرة في رؤيــة واحدة، وذلك من خلال اعتماده على حمولات المفردة في سياقاتها الاجتماعية والثقافية الشائعة، ومن ثم اســتدراجه­ا الى منطقة وســطى تجتمــع فيها بلاغة الإشــارة المحمولــة على تلك المفــردة، لا على الإزاحــة اللغوية بشكل تام، فمثلا حين يتحدث عن الخير في نصه الذي يحمل عنوان «مناجاةُ لصٍ طيب» في المقطع الثاني: كلما أبصرت رجلا دلني على امرأة أقول لها: مساء الخير فترتجف من الخير. أو حين يفتتح الكتاب بـ: كثير من اللصوص بكوا أثناء الصلاة لكن واحدا فقط سيبكي أثناء السرقة. يشتغل الشاعر هنا منقبًا في المفاهيم المشاعة في المجتمع، يخترقها ويفك ســياقاتها الملتبسة، ثم يفضحها على الملأ عبر تدوينه لذلك الفهم، فيتحول ذلك الالتباس المقصود من مشهد الحياة، إلى مشهدية النص في أبعاد جمالية ملموسة عبر

ذلك العــرض، الذي تقدمــه المفردات وهي تطرح تلك الأوجه الملتبسة، كما حصل مع اشتغاله في مفهوم الخير الذي أصبح ينبئ عن خطر شــديد، وهذا الخطر مرتبط بما آلت إليه القيم الانســاني­ة التــي امتصت تعاليم الدين ومن ثــم حرَفتهــا، فتحولت إلى مفاهيم منخورة تشــير إلى الشــر مهما كانت في ظاهرها تتجه إلى النقيض ويمكن أن نقرأ ذلك أيضا فــي ختام نص «عش الزوجية» حيث يقدم لنا الشــاعر تعريفا للخير في نهاية النص:

إنها امرأة وهم والوهم الكبير لا ينسى امرأة يجابَه الخير بها. الخير: القاتل الأشهر في التاريخ. كذلك يرد في النص الذي يحمل عنوان «الكتابة في أقل من صفر» حين يكتب:

أقول مساء الخير وأضحك سرا من الظلام الكبير في الخير من دقة العبارة: مساء الخير.

ومثل هذا الحديث ينطبق على اللص الذي يتخفى بالإيمان واللص الــذي تتوهج لديه لحظة إفاقــة الضمير، وهي لحظة صــدق ميزت اللص وفــق المنظور التداولي المشــاع، ومنحته فرصة أن يكون إنســانًا جيدًا، كما أنه ليس بسوء ذلك اللص الذي يركع ويســجد، كما يشير النص أعلاه. إذن هناك لصان الى حــد الان، لص طيب أو يمكن أن يصبح طيبًا ولص ســيئ دائما.

لكننــا حينما نرجــع إلى عتبــة العنوان «أدخــل بيتي مثل لص» ينكشــف لنا وجود لص ثالث تشي به تلك العتبة، حيث يســتعير الشــاعر في هذا الإطار، ســياق اللص الشائع وهو يقتحم المنــازل، إلا أن الفارق بينه وبــن ذلك اللص أنه يدخل الى بيته هو، لا بيت شــخص آخر، وهذه إشــارة إلى الخوف والقلق وعدم لفت الانتباه. هذا اللص لا يريد أن يســرق بيته، إنما يستعير مهارة اللص في التخلص من عيون رقيبة تسائل وتدقق وربما هي محاولة لمجاوزة تداعيات سلطوية ذكورية، كأن تتمثــل بشــخصية الأب القابــض على العائلة بالقســوة والترهيــب، أو الأخ الأكبــر أو تجاوز كاريزمــا الأكبر الحادة علــى وجه العموم، حيث تتطرف ثقافــة المجتمع إلى مثل هذه التراتبية، فنشــهد مثلا مــن يطالب بـ «احتــرام الكبير» لكنــه لا «يعطف على الصغير» إنما يقتطع ما يناســبه لا غير، مســتغلا مكانته الممنوحة إليه عبر جاهزية ثقافية واجتماعية متواضع عليها. وربما هو انسلالٌ لا غير بين ممرات حياة يعيشها كل يوم حتى ضجر منها، ومثل هذا الشعور هو شعور يتضاعف لدى أغلب الفنانين وغير الفنانين، ممن تفتحت أذهانهم على تهجســات مغايرة، عن تلك الراســخة والمتوارثة والشــاخصة في حياة يومية، فيعيــش حالة اغتــرابٍ داكنة، تأخذ به إلــى الانطواء تدريجيا، فينســحب مــن المجتمــع والعائلة الــى أن تصل به الحــال إلى الدخول مثل لص إلى بيته. وما دام ســيدخل مثل لص، إذن وبطبيعة الحال ســيفترض أن هناك من يود القبض عليه، وهكذا هو صراع بين طرفين، اللص الذي هو في الأصل تشــكيل شخصياتي جاهز يستعيره الشــاعر كي يتجلى فيه اغتــراب الفنان/ الشــاعر. والآخر المتمثــل بالأكبر/ المجتمع/ العائلة إلخ. وســيجد القارئ صورا كثيرة تعضد قولنا أعلاه مثل حضور صورة الشــيخ وصورة الجنة وصورة الشيطان، صورة الإرهابي تصريحا أو تلميحا، صورة الدعاء، صور الله، ورود الأنبياء وتعدد صور المرأة، بين المرأة المتأثرة والمنكمشة بســلطة المجتمع «الأبوية» والمرأة المعشــوقة والمرأة الجســد والمرأة الأم، التي في النهاية هي صورة تأولت بفعل إيقاعات حيــاة هذا المجتمع وخياراتها المحدودة. بالطبع هذا جانب من الموضوعــا­ت التــي نالت حظًــا وافرا من النصوص وليســت كل الجوانــب، ولغزارة الأمثلة اكتفينا بهذا اليســير لترســيم خطــوط قرائيــة عريضــة، تنفتح علــى مضامــن النصوص وأسباب تشكلاتها. كما يمكن ملاحظة أن اللغة الشعرية لدى الياســري متأثرة بتداعيات الديني والثقافــي، ولذلك وردت تلك المفاهيم الشــهيرة التي تمثل مجموع سلطات مركزية في المجتمــع داخل نصوص عديــدة، بل إنها كانت الأســاس في انطلاقة الكثير من النصوص. فــي حين هناك نصوص تنحو باتجاه المناخات الصوفية بشــكل غير مقصــود، ويظهر ذلك واضحًا من خلال الاســتخدا­مات اللغوية. إذن هناك توظيف لتلــك المفاهيم الدينية واســتحضار­ها والانتفــا­ع منها لغويًا، إذ عملــت النصوص في بعض ما عملــت كفقيهٍ نوعي مضاد، يقشــر المتداول، ويكشــف أوجهه وأحيانا يقــدم انطباعًا لما يفترض أن تكون عليه الحقائق.

أمــا من الناحيــة البنائيــة للنصــوص، فإن هنــاك بنيتين تســتحوذان علــى نصــوص هــذه المجموعــة، وهمــا بنيتان متداخلتــا­ن أحيانا ومســتقلتا­ن في أحايين أخَــر. فمثلا نقرأ نصوصــا هــي عبارة عــن مقاطع قصيــرة، وأغلــب نصوص المجموعة هي من نوعية المقاطع القصيرة، مرة ترِد تلك المقاطع مستقلةً، ومرة تتموضع ضمن تسلسل فني مدروس. يحدث التداخل بــن تلك البنيتين عندما يمنحنــا النص قراءتين بدل الواحدة، وذلك عندما تقرأ كل مقطع بمفرده ثم حين تصل إلى الختام، تجد هناك مقطعا هو بمثابة نص مستقل ولكنه أيضا هو نص خاضع للسياق ويعمل على إزاحة كل تلك النصوص القصيرة مجددا، فيمنحنا قراءة ثانية تبدأ من الأســفل. ولذا هي نوعية مــن النصوص تمنحــك قراءة من الأعلــى/ أفقية، مســتقلةً بذاتها وقراءة من الأســفل تحدد المقاصد من خلال تشــذيبها لســعة التأويــل وبذلك تحقــق المراد مــن النص / رؤيــة الكاتب، ويتجلــى ذلك في نص «وحيــدان» ونص «في الخمسين» وغيرها من النصوص.

إلقاء يسبق لحظة التدوين

ولعل هنــاك ظاهرة مؤثرة في تلــك البنائية التي اتخذتها نصوص الشــاعر بدون وعيٍ منه ربمــا، ظاهرة تتخفى داخل ظواهــر الموضوعــا­ت، ولغتهــا المنتقــاة بحذر، وهــي متاحة للكشــف بشــرطين: الأول لمن يدقــق والثاني: لمــن أصغى من قبل الى قــراءة الشــاعر الصوتية لنصوصه، حيــث يبدو أن الياســري حين يشــيد جُملــه ويقطعهــا وينثرها، عبــارةً هنا وعبارةً هنــاك، هو لا يكتب فقط إنما يُلقي على الورقة، ما يود كتابته مثلما لو أنه يلقي نصه من على المنصة. بمعنى أن هناك إيقاعًا داخل الشــاعر، إيقاع الإلقاء، هو من يتحكم بصياغات تلــك الجُمل وطريقــة توزيعها على الورقة، تســاعده في ذلك تلــك الوقفات الاســتدرا­كية إلى الفراغات بــن المقطع والأخر وبين المقطع نفسه إلى الالتحام القريب بين مقطعين والتفريق بينهما إلى وجود فواصل من عدمها. ولهذا السبب بالتحديد نســتطيع الجزم بأن كل نصوص هذه المجموعة هي نصوص تصلح للإلقاء مع احتفاظها بخزينها الشعري المتفاوت، وهو شيء يندر حدوثه بسبب أن نصوص النثر ليست كلها محببة للمنصــة، أو القراءة الصوتية كما يعلم الجميع. إذن الشــاعر علي يتعامل مــع الورقة/ منطقة التدويــن، كما لو أنها منصة ولذلــك يجد القارئ إيقاعًــا جُمليا ناصعًا يــرن بعد كل جملة تُقرأ، فهو إلقاءٌ يســبق لحظة التدوين، وهــو الإلقاء ذاته بعد التدويــن، وبلا شــك أغلب الكتاب يمتلكون مثــل هذا الصوت الداخلي الذي تتموسق من خلاله جملهم، سواء في الشعر أو الســرد، لكنه يبدو واضحا في تجربة علي أكثر، وذلك يرجع بالدرجة الأولى إلى طريقة كتابته الجملية.

هذا النــوع من القراءات بــن العالم داخل النــص والعالم خارجــه، يجعلنــا نعيــد النظــر كثيــرًا فــي «مــوت المؤلــف» وخصوصًــا عندمــا نلمــس مثــل هــذا التأثيــر الخارجي في تشــكيل بنية النص، الــذي يمكن عده اعتبــارا جديدا يضاف لجملة اعتبارات سابقة مناوئة، أو تطالب بشيء من الوسطية والتخفف من تلك القطيعة التي جاءت بها تلك النظرية.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom