Al-Quds Al-Arabi

الناقد المغربي عبد الرحمن التمارة: نقد الرواية يسعف في فهم العالم والإنسان

- الرباط ـ من محمد أعزيز:

يُعَدّ الأكاديمي عبد الرحمن التمارة، أســتاذ السرديات والنقد الأدبي الحديث، واحدا من الأصوات النقدية المغربية التي تشتغل بعدة منهجية رصينة، استطاع أن يراكم مجموعة من البحوث والدراسات، من بينها: «دراسة في تأويل النص الروائي» ،2012 «مرجعيات بناء النص الروائي» ،2013 «نقد النقد: بــن التصــور المنهجي والإنتــاج النصي» 2017. وقد تــوّج كتابه النقــدي: «الممكن المتخيّــل: المرجعية السياســية في الرواية» بجائزة المغرب، فرع الدراســات الأدبية والفنية واللغوية، دورة 2020. ويأتي هذا الحوار بغية كشف بعض انشغالات التمارة النقدية ولتسليط الضوء على اهتماماته الفكرية.

■*«الممكــن المتخيل: المرجعية السياســية في الرواية» إلى أي حد أسعفك هذا المفهوم في مقاربة المتون المنتقاة؟

□ الاشــتغال بالنقد، فــي تحقُّقاتــه المختلفة التي تتّصل بالتحليل أو بالتنظير أو بالتأريخ، يقترن بسياق معرفي يقومُ علــى القطع مع «العشــوائي­ة» المفاهيمية والمنهجيــ­ة والتأويلية. من هنا، فــإن الجهاز المفاهيمي المشــكّل لدراســة «الممكن المتخيل: المرجعية السياسية في الرواية» يستمد أساسهُ من مفهومين مركزيين؛ الأول أسُّه مفهوم «المرجعية» والثاني قوامهُ مفهوم «الممكن».

إن المفهوم الأول اقترن بعالم الرواية النّصي بوصفه عالماً مرتبطاً بالسياســة كما يتصوّرها المبدعُ الروائي، وليس كما هي عليه في الواقع التجريبي، بينما المفهوم الثاني ارتبط بعالم السياسة بصفتها عالماً مفتوحاً على كلِّ الممكنات، ســواء كانت إيجابية أم ســلبية. من هنا، فإنّ المرجعية النّصية تحيلُ على «صناعة» نصٍّ إبداعي روائــي، بناءً على رؤيــة وفكر وتصــور تمثل خاص، وليس نقــاً لواقع )مرجع( موجود ســلفاً فــي العالم الخارج نصّي.

مجال النقد الأدبي

وبمــا أنّ الكتاب فــي مجمله قد ارتبط بالاشــتغا­ل النقدي على «قضية» السياســة، فــكان لزاماً الاهتمام بالعوالــم الممكنة التــي تفتحها هذه القضيــة في الفن وفي الواقع الإنســاني. بهذا المعنى، صار تعبير «الممكن المتخيّل» مفيداً في هــذا الباب؛ لأنّه تعبير متمفصل إلى مفهوم يحيل على «فنّ» السياسة، باعتبارها فناً لتدبير مختلف العلاقات الإنســاني­ة في بنية علائقية، وداخل فضاء اجتماعــي معين، ووفق آليــات تنظيمية نوعية وخاصة بجغرافية معينة.

لهذا، فإن الإشــارة في بداية الكتاب إلى الاستفادة من باشلار في بلورة العنوان الرئيس، لا تعني أنّ الأمر يتعلق بمفهوم فلســفي خالص، بل بمفاهيم متداولة في حقلي الفكر النقدي )المتخيل الروائي( والسياسي )فن الممكــن(. فعلاً، إنها مفاهيم أســعفتني كثيراً في تجاوز إشكالية التباين بين المرجعيات النّصية التي شيّدها كلُّ روائي في روايته. إنَّها مفاهيم أسَّست لمبدأ الوحدة في المنطلق النقدي؛ وأقصد بذلك، أن كلّ حديث عن «الممكن المتخيل » يتّصل بفن السياسة المفتوح على «الممكن» وفن الرواية القائم على بناء دقيق «للمتخيّل».

بهذا المعنــى، فهذه المفاهيــم تبيّن أنّ مجــال النقد الأدبــي، الروائــي هنــا، قائم علــى مداخــل متنوعة ومتعدّدة لمحــاورة النصوص الأدبيــة الروائية نقدياً، وتأويل عوالمها النّصية. وبذلك، إذا كان النقد لا يســمح بممارســة معرفية يصحُّ أنْ يُقال فيها «أيّ شــيء» فإنّه كذلك مجال معرفــي محكوم بفرضيــات الناقد ورؤاه وتصوراتــه الدالة على التعدّد والتنــوّع في المنطلقات والــرؤى والتأويلات. إنّ هــذه الوظيفة، التي يضطلع بها النقد، تســهمُ فيها المفاهيم بشــكل كبيــر؛ فتجعل النقد محكوماً بالدّقة المنهجية والمعرفية، وبالقدرة على التعبير عن قضايا مثيرة، مثل قضية السياســة، بكثير من «الموضوعيــ­ة» المؤطرة بضوابط نقديــة عقلانية، والمجــّردة مــن العواطــف الزائــدة والإيديولو­جية المرفوضة أو المقبولة.

■ المتأمــل فــي كتابك قد يستشــف نزوعــاً واعياً نحو تقويض الاســتبدا­د فــي تجلياته النّصيّة، بتعرية الســلطة في مختلــف انزلاقاتها. كيــف تنظر إلى المســافة التي من المفروض أن يرسيها الناقد مع مقروئه؟

□ يطــرح هذا الســؤال قضية تهمُّ الفعــل النقدي، وهي: النقد وإشكالية المسافة. إنها قضية تزداد إشكالاً حــن يقترن النقد بالاشــتغا­ل على قضيــة معقدة مثل «السياســة» في الأعمال الإبداعية الروائية، ما قد يؤثر في احتفــاظ الناقد بحياده وموضوعيتــ­ه، وإنّ كانت سياسة خاضعة للتمثّل والبناء النّصي، وليس المحقَّقة في الواقع التجريبي الفعلي.

لهذا، فإنَّ أخذ «المســافة» في الممارسة النقدية يمكن أن يُســهم في تحقيــق فاعلية قرائية تظهــر معالمها في تجاوز الجاهز والمتداول والمكرَّس والمعطى )في النّص( صوبَ بناء الجديد والغائب والمختلف.

بهذا المعنى، فإنّ إشــكال المســافة النقدية نابعٌ من «طمــوح فكــري» غايته تحقيق قــراءة نقديــة فاعلة ومنتجة ومختلفة. بهــذا المعنى، قد يكون طموح تعرية السلطة، وكشف اختلالاتها المتنوعة في علاقة بالتدبير والتســيير والجدال والتدافع السياســي، لكنه طموح مشــروط بالالتــزا­م بضوابط الفعل النقــدي الخلاق، ومنها ضابط المسافة الذي أشــرت إليه في سؤالك. إنَّ ذلك ما يوجّه تصوري لفلســفة المســافة النقدية أثناء التعامل النقدي مع نصــوص روائية، قامت مرجعياتها النّصيّة على السياسة المفتوحة على كلّ الممكنات. لهذا، تعتبر المســافة في النقد «مغامرة قــراءة» بلغة رولان بارت؛ لأنها تصيِّرُ الفعل النقدي مجالاً معرفياً، لتشغيل الفكــر، وإعمال الفهم الدقيــق والتحليل المنتج، وليس الاكتفاء بإعادة أفكار النّــص، أو الآخر، بطريقة مخيِّبَة لأفق الإضافة المعرفية.

بهــذا المعنى، فــي تقديري، لا وجود لمســافة نقدية بدون مغامرة قرائية، ولا وجود لمتعة نقدية بدون جديد معرفي. كمــا أنّ الناقد إذا لم يتخذ مســافة معرفية من النص الخاضع للفعل النقدي، فإنه ســيحجب حقائق، ويُظهِرُ مغالطات. لهذا، إنّ شــرط المسافة في النقد كفيل بكشف «الحقيقة الإبداعية» الروائية في سياق الكتاب، حضوراً وغياباً، وإظهار تميّزها النوعي. بهذا المعنى، فإنّ المســافة في النقد تُسهمُ فــي كشــف «الأوضــاع الخاطئــة» في الكتابة، بحياد وموضوعية وبمنطلقات معرفية ومنهجية، وتســاعد على إظهار «الأوضاع الصحيحة» عبــر تقويم بناء وخلاّق ينير الفكر وينتج المعرفة.

■ كانــت المرجعيــة السياســية موجهاً رئيســاً في انتقاء النصوص المدروسة، ألم يطــرح هاجس الاختــاف الســياقي عائقاً أمــام التحليل المنجز، لاســيما فــي مقاربة الشق الفنّي لهذه الأعمال، في ظل اعتمادك على المترجم منها؟

□ بكل تأكيد لا؛ لأن الموجّه للدراســة لم يكن النّص في ذاته، بل الموضوع في كلّيته. مــن هنا، كان المنطلق واضحــاً: دراســة المرجعية السياســية التــي يبنيها الروائي في عمله، بناء علــى موقع ورؤية وواقع، وفق مقتضيات تأويلية ترى في السياســة عالمــاً مركباً من عناصر فاعلة، ووجود نوعي مؤسساتي خاص )هيئة، حزب، مؤسسة دستورية، موقع تدبير وتسيير(.

لهذا، أشرت إلى معطى أساسي، وارد في أحد فصول الكتاب، هو أنّ السياســة المتحدث عنها عالجها الكثير من الروائيين المغاربة والعرب والعالميين، ولكن الرؤية والموقف والبناء تختلف. صحيح أن الإشــكال الفنّي قد يطرح مع النص الروائي المترجم )حفلة التيس: يوسا( لكن إدراك مظاهر الاختلاف بين لغة الوصول )العربية( ولغة الانطلاق )الإســباني­ة( لا تمنع من وجود مقومات ســرديات فنّية حاضــرة في هــذا العمل. لذلــك، فإنّ الاختلاف الســياقي بين النصوص الروائية المدروسة ـ بين أن السياســة قدر كلِّ الناس، وفي كل الجغرافيات، وفــي كل الأزمنة. من هنا، أعتقــد أن العائق الذي يمكن أن يواجــه أيّ ناقد يشــتغل على قضية حساســة مثل السياسة هو «ســوء الإنصات» للنص الإبداعي. لهذا، فإنّ النــصّ الروائــي، وإن كان مترجمــا، فإنه متميز بتركيبه الســردي وعوالمه الدّالــة، وليس فقط بمكون فنّي واحد وأوحد؛ لكن الدراســة النقدية السطحية قد تطمس قيمته، وتســلبه أهميتــه، أو العكس تماما، فقد تكشف قيمته الجمالية التي أسُّها التعدّد، وتبرز أهميته المتنوعة فكريا وفنياً.

■ أرســيت مساراً كتابياً لافتاً، يبدو ارتكازه قائما على المقاربة الثقافية، كيف تفسرون ذلك؟

□ حســب ما فهمت الســؤال.. فهو مرتبط بطبيعة الدراســة النقدية للنصوص الســردية الحديثة التي أنجزها، بالموازاة مع دراسة النصوص النقدية الأدبية، والخلفيــة المعرفيــة والمنهجية التي تؤطر اشــتغالي النقدي. لهذا، فإنّ الدراســات النقديــة التي أنجزتها تنبني علــى تحليل النصوص من زاوية الســميائي­ات التطورية؛ بوصفهــا مجالاً معرفياً يعمــل على تأويل النص الروائي من زاوية حركيته ضمن مســار إبداعي عام، وفي علاقة بمجموع أعمال المبدع خاصة. من هنا، فهذه الخلفية المعرفيــة المنهجية جعلت نظرتي النقدية للنصوص الروائية مؤسســة على الاشــتغال عليها، بوصفها «ملتقــى علامات» متنوعــة، يقتضي تأويلها الانفتاح على العالم.

بهذا المعنــى، فإن المرتكــز النقدي في هــذا النمط مــن المقاربة يقوم على تجاوز التصــور الذي يتخذ من الرواية «عيّنةً» إبداعيــة يضعها تحت مجهر النقد، ثم

يبدأ وصف التفاصيل الأســاس لهذه العمل الإبداعي. بكلّ تأكيــد، هذا عمــل مهم، وقــد عملت الدراســات البنيوية على بلورته وإرســائه، ولكــن تأويل النص يقتضــي تفكيك علاماته وعوالمــه وبنياته المختلفة في ضوء علاقاته بالعالم. إننا حين نبحث عن صلة النص بالعالم، فهذا يعني أننا نربطه بسلطة وثقافة وحضارة ووجود، وأكثر من ذلك نربطه بإنســان في امتداداته المختلفــة، الوجوديــة والقيمية والنفســية والثقافية والأنثروبو­لوجية، إلــخ. بهذا المعنى، أعتقد، بشــكل يقترب من الجــزم، أن صلة الروايــة بالعالم الثقافي المحيط شــيءٌ مركزي، وأن الاشــتغال بنقد لعالمها في غياب هذا المحيط قد يعدُّ نوعاً من العبث النقدي. لهذا، أتصور أن نقد الرواية، كما أمارسه في منجزي النقدي، يســعف في فهم العالم والإنســان داخلــه، وفي فهم قضايا الإنسان المختلفة في جغرافيات متعدّدة، وأزمنة متباينــة، لذلك، قد تجــد كثيراً من الإشــارات النقدية الدالة على الارتبــاط المتين بين الرواية وقضايا الهوية والســلطة والثقافة والتاريخ والحضــارة والهامش، وكلّ القضايا المتّصلة بالوجود الإنســاني في اختلافه وتباينــه وتميزه، الذي لا يعني أفضلية هذا الإنســان على ذاك.

جائزة المغرب للكتاب

■ أخيرا.. كيف اســتقبلت ورود اسمك ضمن الفائزين بجائزة المغرب للكتاب؟ □ يمكن أن أفسر ذلك من زاويتين: الأولى تبيّن أن الجائزة، بجميع فروعها، قد أسست لحظة معرفية مهمة لكشــف منتوج فكري ونقدي لكثير من النقــاد والباحثــن والمبدعين والمثقفــن المغاربة، الذيــن يترقبونها لـ)قياس( منتوجهــم الفكري. لهذا، فوجود اســم باحث معين ضمن قائمة الفائزين لا يعني قوة إنجازه، وضعف إنجاز الآخرين، بالنظر للســياق التنافســي الذي رجَّح هــذا الكتاب، بــل يعني وجود قضايا نوعية فــي المنجز النقــدي أو الفكري بالمقارنة مع نصوص أخرى في ســياق المناســبة فقط. لذا، فإنّ الزاويــة الثانية، تكشــف أنَّ جائزة المغــرب للكتاب تدعّمُ الباحث للاســتمرا­ر في المزيد من البحث النقدي والاشــتغا­ل الثقافي، وتدفعه نحو )الاجتهاد( المعرفي النوعــي، لبلورة أفق فكــري مغاير. لهــذا، فإنّ ورود اســمي ضمن لائحة الفائزين بالجائــزة، عمَّق تفاعلي الإنســاني والقيمي مــع جملة من الباحثــن والأدباء والأصدقاء عبر التهنئة، فتراءت، بذلك، الجائزة حدثاً نوعياً يُفرحُ ويُبهجُ، ويُسْــهمُ في خلق تواصل إنساني على قاعدة معرفية.

 ??  ?? عبد الرحمن التمارة
عبد الرحمن التمارة

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom