Al-Quds Al-Arabi

أبحاثنا النقدية والأمانة العلمية

-

■ لا عجــب أن نجد لدى الباحث الدارس في الجامعات الغربية اهتماماً باستقصاء كل ما كُتب في الموضوع، أو المجال الذي يروم دراســته في بحــث ينال به شــهادة عليــا. وإذا كان هــذا الباحث متخصصاً بالأدب العربي ونقده، فستجده لا يتوانى من الوقوف على آخر ما يســتجد من أبحاث حول هــذا الأدب باللغة العربية أو بلغة أخرى.

يدلــل على ذلك مــا في المنتج النقدي العالمــي من كتب كانت في الأصل أطاريح ورســائل معدة لنيل درجة علمية عليا، وقد يُترجم بعض منهــا إلى العربية بعــد وقت قصير من ظهورهــا في لغاتها الأم؛ بيد أننا لا نجد مثل هذا الاستقصاء لدى باحثنا، وهو يسعى إلى نيل شــهادة عليــا من إحــدى جامعاتنا العربيــة العريقة منها والفتيــة، إذ غالباً مــا يكون غير مكترث ولا حريــص على الإلمام أو الاطلاع على ما كُتب عالمياً، وحتى عربياً أحياناً في الموضوع الذي يتخصص فيه. وإذا حصل أن اســتقصى الباحث العربي المصادر الحديثــة أبحاثاً وكتبــاً عربية وغربيــة، وبذل جهــوداً حثيثة في الترجمــة والإفادة ممــا فيها؛ فإن ذلك لا يأتي بغايــة إغناء واقعنا الأكاديمــ­ي وفتح طريق للباحثــن من بعده؛ وإنما قبــل ذلك يأتي بقصــد الإفادة الفردية مــن الأفكار الجديدة، وربمــا الإغارة عليها وتحويرهــا لتبــدو كأنها مــن عنديات هــذا الباحث، فــا هو ذاكر صاحــب تلك الأفــكار في بحثه، ولا هــو مدرج اســم المصدر، وقد يذكر اســمه لكنه لا يدلــل على المصدر بنزعة حيــازة الأفكار وعدم تمكين الآخرين من بلوغها. والامثلــة على مثل هذا التوجه البحثي كثيرة وليســت جديدة، وقد بــدت واضحة منــذ ثمانينيات القرن الماضي، حين كان التيار البنيوي قوياً، وكانت دراســة السرديات تجذب الباحثين في الأدب العربــي نحوها، فكانت الإغارة ترجمةً وتحويراً تحصل بشكل متدارٍ كنوع من البحث عن الجدة، وحيازة السبق التحديثي في الخروج على معتادية مشهدنا النقدي، الذي ما زال أغلب المشــتغلي­ن فيه لا يتقنون لغــة أخرى. ولو بقي باحثنا العربي متقوقعا في برجه على ما لديه من مصادر ومراجع عربية، لكان خيرا له، مــن تدليس أمر الإفادة من أطاريح ورســائل غربية مستجدة في مجالها والإغارة عليها، أما تغافلا عن ذكر أصحابها أو تغييبا لمظانها عن القــراء، وعلى الرغم من ذلك؛ فإن الزمن يظل كفيلاً بأن يظهر التدليس والإغارة.

وكان لدرســنا الأكاديمــ­ي العربي أن يتطور، كمــا تطور الدرس الأكاديمي الغربي، لو اهتم الباحثون عندنا بمواكبة ما يستجد في العالم من دراسات بقصد الإفادة والانتفاع والتأثر. ولا خلاف أن جامعات العالم قبيل عصر النهضة كانت قد أفادت مما كان يجري في بغداد، أو مراكز الثقافة الأخرى في القرون الوسطى من حركة علمية كبيرة، فاستطاعت تلك الجامعات من ثم أن تحمل لواء هذه الحركــة عنا، وتبني عليها لتكون اليــوم متقدمة بكثير علينا. ولكن أنّى يحصل هذا وباحثنا المتخصص بالأدب العربي لا تعنيه الجدة ولا المواكبة، وهو واثق مما ينجزه بقدراته مقيداً نفســه بحثيا بما أوصله الســابقون إليه من منتــوج نقدي. وإذا واظــب محاولاً أن يتعدى هذا المنتوج العربي إلى آخر عالمي، فوقعت يداه على مصدر جديد لم يترجم بعد إلى العربية، فإن ذاتيته ســتدفعه على الأرجح إلى ضــرورة التكتــم عليه كي يحــوز الحســنيين: أولا الجدة التي يدخلها إلى بحثه بادياً للآخرين مفكراً مبتكراً ومنظراً أصيلاً.

وثانياً الســبق الذي به يناكف من يعارضــه، أو ينافس فيه من يكافئــه أو ينافح به أمام من يناقشــه، مظهــرا تميزه الفردي وغير متوقــع أن المصــدر ســيُقرأ من قبــل أحدهــم بلغته الأصــل أو أنه ســيترجم ويُنشــر يوما ما باللغة العربيــة. وإذا كانت ســياقاتنا الأكاديميـ­ـة تفــرض على الباحــث أن يســتقصي النتــاج العربي، مطلعــا على ما له علاقة بموضوعه المبحوث كي تحق له دراســته؛ فــإن هذه الســياقات لا توجب ضرورة اســتقصاء مــا كتب غربيا أيضــا. وهو مــا ينبغي أن يفــرض على الباحث فرضــاً، فمرحلتنا لــم تعد كما كانت قبــل عقد أو عقديــن، ثم إننا أصــا بحاجة الى أن نطــور قدراتنا كــي نكون في مصــاف من تقدمــوا علينا ونفيد من العولمة وما يســرته من متاحات بها دمجت المسافات وقلصت الحــدود وقاربت الأبعــاد لا بالمعنى الاســترات­يجي، وإنما بالمعنى الكوســموب­وليتي. وهــذا الحال يجعل كثيرا مــن الأبحاث والكتب والدراســا­ت متوفــرة في مواقــع الجامعات العالمية كلهــا العلمية البحتة منها والإنسانية. ومن ثم لا عائق أمام الباحث وهو يسعى إلى استقصاء كل ما له صلة بموضوعه ويخدم تخصصه مساعدا إيــاه على بلــوغ مراميه المعرفية. ولا يصح لباحــث أن يدعي ضيق الحال البحثي، وهو ينجز دراســة أكاديمية ينال بها شــهادة عليا مثل الماجســتي­ر أو الدكتــورا­ه، معتذرا بصعوبــة تلبية مقتضيات

وحيثيات الموضــوع عالميا، غير مدرك أو لا يريد أن يدري ما يجري فــي مجال تخصصه مــن متغيــرات وتطورات وأيــن وصلت آخر الأبحاث والدراســا­ت. ولأن هــذا الادعاء والاعتــذا­ر طاغيان على واقعنــا الحالي يغدو طبيعيا جدا رجحان كفة المنتوج الكمي، الذي فيه تعاد الأبحاث اجترارا وتكرارا على كفة ما هو منتج نوعي.

والسبب ما قد يرافق المنتج النوعي من مآخذ ومؤشرات تجعل هــذا النوعي مشــكوكاً فيه، وربما توضع عليه علامات اســتفهام، ســواء في أحقية نيل هــذه النوعية، أو في الدقــة والصحة في ما رجع إليه الباحث من مصــادر ومراجع؟ وهل كانت له فيها حيازة منحته التميز؟ أو هل تغافل أو غيب مصدرا كان قد ترجمه بنفسه، أو ترجمه له أحدهم، فأفاد منه بشكل كبير في إنجاز بحثه؟

لا ريب أن الأبحاث والدراسات التي أجيزت أكاديميا بتقديرات عالية كثيرة، ومنها ما تم التأشــير عليهــا بأنها أبحاث نوعية، لكن هــذه النوعية لا تتحقــق إلا إذا توفرت مجموعــة مقتضيات علمية ومســائل موضوعيــة، مثل قــدرة الباحــث على الإلمــام بموضوع دراسته بحثا وتقصيا وتحليلا ورصدا، عارفا كيف ينتقي المصادر والمراجع ويوظفها توظيفا يكســب بحثه جدة ورصانة، ناهيك من المنهجية العلمية التي اتبعها، فبينت له مســارات جديدة وكشــفت لــه عن منعطفات غير منتهجة ســابقا، معتمدا في ذلك على حســه المعرفي وغنى خلفياته وثراء قراءاته، وما اســتوعبه من مســائل أكاديمية تخدم مجالــه البحثي. وقد يجتمع كل ما تقدم مع بعضه بعضا مؤكدا هذه )النوعية( وهو ما نراه نادر الحصول بالعموم.

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو كيف تكون لبعض أبحاثنا ودراســاتن­ا الأكاديميـ­ـة هــذه )النوعية( وهــي لم تواكــب بعد ما يســتجد فــي مجالها عالميــا، إن كانت فعلا قد واكبت مســتجداته على الصعيــد العربي؟ وكيف لباحثنا العربي أن يواكب المســتجد وبغيته ليســت تدعيم المعرفة وإغناءها، بل كســب السبق وإظهار التميز على الآخرين؟

وهــل يصــح أن تتقزم النوعيــة عندنا في حدود ســعي باحثنا العربــي نحو تلبيــة الجوانب الكميــة، التي لا تتعدى فــي مجملها لجــان الإشــراف والمناقشــ­ة والنشــر، كي تقــر لــه بالأولوية ولا تؤاخذه علــى أي مثلبة أو نقص، وعندها يكــون )التقدير امتيازا( غاية هي بمثابة تحصيل يتباهى به على رؤوس الأشهاد.

إن ادراك أهميــة المواكبــة والتمتع بالنوعية هو مــا يوصلنا إلى مقصدنا الأساس، أعني تطوير واقعنا الجامعي العربي، بعيداً عن مظاهــر الكم والعدد التي صارت تطغى على النوعي والعلمي الذي هــو بالتأكيد منزه في تحصيله عن التدليــس والإغارة. وهذا الأمر هــو ما يتطلب قــولا فصلا ووقفــات نقد نقدية ترصد الملابســا­ت والمآخــذ، وتدلل علــى مواطن القصور إزاء ما يُعــد أصيلا ومبتكرا وهــو ليس كذلــك، متســائلين: أهي فــي تقديراتنا لتلــك الأبحاث بوصفنا قراء ودارســن؟ أم هــي في الأبحاث نفســها؟ وما مدى التزلــف والفذلكة التي يتبعهــا أصحابها مقدمــن أبحاثهم، التي ســتصير كتبا وهي ملأى بعبارات )دراستي الأسبق/ موضوعي لــم يُســبق/ كتابي هــو الأول..( التي تجعل المتن لامعــاً بالنوعية، بينما هذا اللمعــان هو في الظاهر فقط وســرعان ما يخفت لتكون العتمة حالكة في العمق؟

بالطبع لا يتاح لنا أن نجيب عن هذين السؤالين ما لم نحدد الذي نرمي إليه من ناحية المجال والموضوع والغاية المراد تحصيلها.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom