Al-Quds Al-Arabi

لماذا يبني الحاكم العربي مجدا لزعماء العالم بظُلمه؟

- *كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية

ضجــت وكالات الأنبــاء ومواقــع التواصــل الاجتماعــ­ي بخبــر إطلاق سراح الناشطة المدنية السعودية لُجين الهذلول. ورحب الرئيس الأمريكــي بايدن بالحدث بصورة مباشــرة وقال «كانت مدافعة قوية عن حقوق المرأة، وإطلاق ســراحها من الســجن هو الأمر الصائب الذي ينبغي القيام به». مستشــار الأمن القومي الأمريكي جيك ســوليفان غرد قائلا «مســرور للإفراج عن لُجين الهذلول. هذا شيء جيد». الرئيس الفرنســي، والأمــن العام للأمم المتحــدة، وزعماء وقادة كثر ذهبوا للترحيب كذلك بالخطوة.

فــي حين قالت شــقيقتها للرئيــس الأمريكــي في مؤتمر صحافي افتراضي «أود أن أقول شــكرا لك ســيدي الرئيس، لأنــك ســاعدت اختي علــى إطلاق ســراحها». فهــل لُجين مواطنة أمريكية أو فرنسية تم ســجنها في السعودية، وسُرّ العالم بإطلاق ســراحها؟ ولماذا تتجه شقيقتها لتقديم الشكر والعرفان إلــى رئيس الولايات المتحدة وليــس إلى القيادة السعودية؟ وهل قرار الإفراج كان سياسيا أم قضائيا؟

يقينا يمكن القول إن الإفراج عن الناشطة السعودية كان سياسيا وليس قضائيا. صحيح أن القضاء السعودي قال إن نصف محكوميتها البالغة 68 شهرا ستكون مع وقف التنفيذ، وهذا يعني أن الإفراج عنها يفترض أن يكون هذه الأيام، لكن الظروف الدولية التي سبقت إطلاق سراحها، خاصة وصول الرئيس الأمريكي بايدن إلى البيت الأبيض، تشــي بأن قرار الإفراج عنها كان سياســيا، كما أن هنالك سياســات صدرت من البيت الأبيض مسّت مباشرة السياسات السعودية، منها إيقاف الدعم العسكري للحرب في اليمن، بما في ذلك تصدير الأســلحة والمعدات، وكذلك رفع الحوثيين من قائمة الإرهاب الأمريكية. كما نتذكر جيدا أن الرئيس الأمريكي لم يتورع عن توجيه النقد إلى القيادة السعودية في ملف حقوق الإنسان بشكل خاص، أثناء حملته الانتخابية. وعندما تولى سلطاته صدرت تصريحات من إدارته في الاتجاه نفسه، فقبل أسبوع واحد من قــرار الإفراج قالت المتحدثة باســم البيت الأبيض «إن الولايات المتحدة تراقب مدى تحسين السعودية لسجلها في حقــوق الإنســان، بما في ذلــك الإفراج عن الناشــطين المدافعين عن حقوق المرأة والســجناء السياسيين الآخرين .» كما قال مستشــار الأمن القومي الأمريكي الجديد، إن الادارة الجديدة ستجعل حقوق الإنســان قضية مركزية في موقفها مــن الرياض. ولــو أضفنا ماقالته رئيســة الاســتخبا­رات الوطنيــة في جلســة أمــام الكونغرس، من أنها ستكشــف تقرير الاســتخبا­رات الخــاص بقتل الصحافي الســعودي جمال خاشــقجي، فإن كل ذلك يشــير إلى حجم الضغوطات السياســية التي تعرضت لها المملكة، وبالتالي انعكس على قرار الإفراج عنها ليكون قرارا سياسيا وليس قضائيا.

إن الممارسات السياسية التي تصدر عن الحاكم في غالبية دولنا العربية، تشــكل عوامل طاردة للوطنية، لا جاذبه لها. فالوطنية الفاعلة تحتاج إلى عملية تدريب تتأسس على كسر حواجز الخوف، وإشــاعة حرية الرأي والنقد البناء الفاعل. لكن النظم العربية صفّحت نفســها بمجموعة من الأساطير، حتى وصلت إلى درجة القداســة التي من المحرمات المس بها، وأن الباطل لا يأتي من بين أيديها أو خلفها. كما أنها احتكرت العمل السياســي وأبعدته عن أن يكون مشــروعا للتغيير، وفعلا اجتماعيا يتشــارك فيــه الجميع، حاكمــا ومحكوما، ســلطة ومعارضة. واســتعاضت عنه باعتقــاد معطوب هو مخاطبة الجمهور مباشرة، وتحشيدهم وتجييشهم بوسائل دغدغة العواطف والتملق، من أجل كســب ود مؤقت لقضاء أعمــال مرحلية لا منهجية، إضافة إلــى أنها حاربت الأحزاب والنقابات والجمعيات المدنية، ووســائل الإعلام المســتقلة، فأفقدتها دورها كوسائط تمتص الرجات الكبرى في المجتمع. وبذلك وصل الوضع داخل مجتمعاتنا إلى حالة صراع مباشر بين ســلطة الحاكم والمجتمع، فقادنا إلى كــوارث اجتماعية واضمحلال للقيم الوطنية. وهنا جلب الحاكم العربي الخزي إلى نفسه، لأنه هو من مارس سياسة حرمان شعبه من أبسط الحقوق والضروريات الأساســية لحياة كريمة. وجلب العار لنفســه لأنه مارس التمييز بين أبناء شعبه. كما جلب الخزي والعار إلى نفســه أيضا بإجبار شعبه على الصمت، وإشاعة الخوف منه، ظنا أنه يكسب بها احتراما وانحناء له.

فــأي موقف بائس ذلــك الذي وضع الحاكــم العربي فيه نفسه، وهو يسمع أبناء شعبه يقدمون الشكر والثناء لزعيم دولة أخرى، لأن الضغط الذي مارسه هذا الأخير عليه أجبره على إطلاق سراح مواطن، سُجن لأنه طالب بحق بسيط من حقوق الإنســان؟ وأين يرى منزلته بــن الزعماء الآخرين، وهم يطالبونه علنا بأن يُحسّــن من ســجل حقوق الإنسان في دولته فيرضخ لهم؟ كيف سيكســب احترام شــعبه وهو الظاهر أمامهم بهيئة المضغوط عليه، والمســلوب الإرادة أمام زعماء العالم؟ وكيف ســيتخلص من الاســتثما­ر السياسي والابتزاز من قبل القوى الدولية، في ســجل حقوق الإنسان لديه؟ فقضية لُجين على سبيل المثال لم تنته بعد من أجندات الدول الأخرى، فالانتقادا­ت الأمريكية والغربية للســلطات الســعودية في مجال حقوق الإنسان ســتبقى سيفا مسلطا عليها، لان لُجين واحدة من عشرات، وربما المئات من أخرين. الانفراج الذي حصل في ملف هذه الســيدة ســيقود آخرين لديهــم ثأر مع الحاكم إلى الضغط فــي ملف الصحافي جمال خاشــقجي أيضا، وربما يُعــاد فتحه من جديــد، كما وعدت بذلك رئيسة الاستخبارا­ت الوطنية الأمريكية مؤخرا. هنالك أصوات كثيرة فــي الإدارة الأمريكيــ­ة الحالية والكونغرس يرون أن ملف حقوق الإنسان أكبر من قضية لُجين، بل يشمل أيضا حرب اليمــن، وإذا كان صانع القرار الســعودي يُعلن أن قرار الإفراج عن هذه المواطنة لم يكن اســتجابة لضغوط

أمريكية فمن يُصدّق ذلك من شعبه؟

قد يُمني الحاكم العربي نفســه بأن الاستجابة للضغوط الأمريكية في هذه القضية وقضايــا أخرى لابد أن يقابلها رد فعل حســن منهم. لكن ذلك ليس شــيئا ثابتا في السياسات الدولية، لأنه غالبا ما تكون اســتجابة الضعيف مدعاة تنمّر أكبر مــن القوى الخارجية، ومطالبات أخــرى بتنازلات أهم وأخطر، بدلالة ما قام به الرئيس الراحل معمر القذافي، حينما انصاع لــكل الضغوط، وفي الأخير كان رد الفعل بشــعا كما عرفه العالم أجمع. ونسمع اليوم كثيرا من المقربين من بايدن وإدارته الجديدة، أن هنالك إعادة تقييم لعلاقات واشــنطن مع الكثير من حلفائها، وســيدخل ملف حقوق الإنسان كأحد المجالات التي يتم النظر فيها لغرض التقييم. والخشــية كل الخشية من أن يتحول من يقبعون في السجون العربية إلى أدوات مساومة مبكرة محتملة بين إدارة بايدن وحكامنا، فلا بايدن وإدارته والغرب صادق في قضية حقوق الإنسان، ولا الحاكــم العربي قادر على إعادة النظر بسياســاته المعطوبة مع أبناء شعبه. فحقوق الإنسان اتخذت منحى آخر في هذه الســنين. كانت في الماضي داخل كيان إطــاره وطني، اليوم حقوق الإنسان باتت عابرة للكيانات الوطنية، إنهم يقولون لك اليوم إن حقوق الانسان أعلى من حقوق المواطنة. بمعنى أنا أملك الحق في أن أتدخل كي أدافع عن شــعبك بتعلّة أنني أدافــع عن حقوق الانســان لانها منتهكة في ديــارك. وبذلك يكون الحاكم العربي هو من يقدم فرص الاســتثما­ر الكبرى للقوى الدوليــة في بلادنا بجهله بأصــول الحكم، كما يبني مجدا لزعماء العالم، الذين يبحثــون عن تحقيق مصالحهم على حساب حتى دمائنا، بظلمه.

نعم ســيبقى المحرمون والمهمشون والمعتقلون والمعذبون في أرضنــا العربيــة، يقولون، شــكرا وألف شــكر لبايدن وماكرون وغيرهما من زعماء العالم، كلما فتح هؤلاء ملفاتهم علنا بوجه الحاكم العربي، وأمروه بأن يتنازل فيتنازل. فمن يستطيع أن يقول لمظلوم أن لا تصرخ؟ ومن يستطيع أن يقول لُمعذّب لا ترفع يدك تحية لمن أنقذك؟

الوطنية الفاعلة تحتاج إلى عملية تدريب تتأسس على كسر حواجز الخوف، وإشاعة حرية الرأي والنقد البناء الفاعل

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom