Al-Quds Al-Arabi

عندما تتحكم الدولة العميقة في كتابة التاريخ

- *كاتب مغربي من أسرة «القدس العربي»

عــادت الــدول الديمقراطي­ــة إلى التشــدد بشــأن الإجراءات الخاصة بالكشــف عــن مضمون التقارير الرسمية، خاصة السرية منهــا، التي تعود للاســتخبا­رات والخارجية والدفــاع، التي مرّت عليها عقود من الزمن. ويعيق هذا الإجراء معرفــة حقيقية ومتكاملة للأحــداث التاريخية، ويعرقل مهمــة المؤرخين. وتبقى صحافــة التقصــي أداة لإزالــة الغبار عــن الكثير من الملفات، التي يراد تراكم الغبار عليها.

في هــذا الصدد، قــررت الدولة الفرنســية يوم 13 نوفمبر الماضي، تشــديد الإجراءات بشأن الكشف عن الوثائق والتقارير الرسمية الخاصة بالمرحلة الممتدة من 1934 إلى 1970. وهو إجراء يشــمل مرحلة حساسة من التاريخ العالمي بحكم مركزية فرنســا في صنع الأحداث الدولية. وتغطــي هذه الفترة المخاضات التي ســبقت الحرب العالميــة الثانية، ثم هذه الحــرب، علاوة على اســتقلال الدول التي كانت تحت الاســتعما­ر الفرنسي ومنها الدول العربية والحرب الباردة.

ويحتج المؤرخون الفرنسيون على القرار ويعتبرونه عرقلة لفهــم حقيقة الأحداث التاريخية، ويســخر أحد المؤرخين قائلا «حتى نوعيــة الطعام الذي كان يتناوله الماريشــا­ل بيتان مشــمول بالســرية». وما يجري في فرنســا يحدث في الدول الديمقراطي­ــة الأخرى، ولكن بدرجــات متفاوتة، إذ تعتبر الدول الأنكلوسكس­ــونية منفتحة نســبيا في هــذا الصدد، وبــن الحين والآخر تكشــف عن الكثير من الوثائق، ضمن ما يســمى «رفع الســرية» خاصة في الولايات المتحدة. وعادة ما يلجأ مواطنــون إلى القضــاء الأمريكي للحصــول على حق الاطلاع على الوثائق، ورغــم كل هذه المجهودات، تبقى أهم الوثائق مشــمولة بالســرية إلى أجل غير مسمى، بمــا فيها وثائق تعود إلى القرن التاســع عشــر، نظرا لحساسيتها والانعكاسا­ت التي قد تسببت فيها.

تطــورت الكتابة التاريخية خــال العقود الأخيرة، واســتفادت من ثلاثــة عوامــل وهــي، أولا الانفتاح الديمقراطي في عــدد من الدول، الأمر الذي يدفع المؤرخ إلــى معالجة جريئة وشــجاعة للأحــداث التاريخية، بدون هاجس الرقابة، وهذه الميزة لا يتمتع بها مؤرخو الدول غيــر الديمقراطي­ة، حيث تســتمر عملية التأريخ محصورة، في ما يعرف بـ»تاريــخ البلاط» أي الرؤية الرســمية. ثانيا، اســتفاد التأريخ من تنــوع المصادر وتوفرهــا، إذ أصبح المؤرخ أمام كم هائــل من الوثائق في مختلف التخصصات مثل، الاقتصاد وعلم الاجتماع والأنثروبو­لوجيا والعلاقات الدبلوماسـ­ـية، تساعده في بناء الروايــة التاريخية التي تقتــرب من الإحاطة الشــاملة بمختلف جوانب القضايا المعالجة، للوصول إلــى الحقيقة قدر المســتطاع. ويتجلــى العامل الثالث في شــبكة الإنترنت، حيث تلعب دورا كبيرا في توفير الوثيقة التاريخية للباحث المؤرخ، إذ تسهل له الوصول إلى مختلف المكتبــات العالمية خاصة الأرشــيف. لكن رغم كل هذا، تبقى الحقيقــة التاريخية صعبة التحقيق بسبب مفهوم السرية الذي تفرضه الدولة العميقة على الوثائق المتعلقة بوزارة الداخلية والدفاع والخارجية. ويتعلق الأمر باتفاقيات سرية، أو عمليات توجه مجرى تاريخ قضية ما. ويحــدث أن يعتقد المؤرخ أنه نجح في الإلمام بحدث تاريخي، وتظهر وثيقة تجبره على إعادة النظر في ما كتب. ونتفاجأ بين الحين والآخر بقرار بعض الدول رفع السرية عن وثائق معينة، لنكتشف معطيات تســتوجب إعادة كتابة الروايــة التاريخية لحدث ما. والتاريخ العربــي يبقى ناقصا وغير مكتمل لســببين، الأول، غياب الديمقراطي­ة التي تسمح للمؤرخ بمعالجة علميــة للمواضيع التــي يبحث فيهــا، والثاني وجود وثائق مهمة في أرشــيف الدول الكبرى، خاصة الغربية منها. وعندما تقوم لندن أو واشــنطن برفع السرية عن الأرشيف، ومنه الخاص بالعالم العربي يتفاجأ الباحث بمعطيــات لم تخطر له على بال نهائيــا. وأمام كل هذا، يجد المؤرخ في الصحافة والتسريبات مصدرا في سعيه للبحث عن الحقيقة. وعلاقة بهذا، شــكلت تســريبات جمعية ويكيليكس لوثائق الدبلوماسـ­ـية الأمريكية، ثم الوثائق التي كشف عنها موظف الاستخبارا­ت السابق إدوارد ســنودن، فرصة ذهبية للباحثين لمعرفة الكثير من أســرار الحكومات في العالم، ســواء على مستوى المعلومات الواردة فيها، أو تقييم واشــنطن للكثير من القضايا والملوك والرؤساء.

وإلى جانب التســريبا­ت، تلعــب الصحافة، وعلى رأســها صحافة التقصــي، دورا مهما في الكشــف عن المعطيات التي تســاعد المؤرخ في الكتابــة التاريخية، علما أن الصحافــة تعد بمثابة التأريخ اليومي لشــتى الأحــداث المحليــة والوطنيــة والدوليــة. ومن ضمن الأمثلة، وهو مرتبــط بالربيع العربي الذي حلت ذكراه العاشرة هذه الأيام، تقول الرواية السائدة الواردة في عدد من الدراسات بانتفاضة الشعب الليبي ضد طغيان معمر القذافي، وهو قول صحيح بحكم يأس الشــعوب من الطبقة الحاكمة، لكن الجزء الآخر من الصورة، الذي تســرب في وثائق أخرى هو رغبــة باريس في القضاء على نظام القذافي بعدما فكر فــي إصدار عملة افريقية خاصة فيما يسمى بافريقيا الفرنكفوني­ة.، وتحالفت مع بريطانيا التي كانت ترغب في تقســيم ليبيا للسيطرة على النفط.

وفي مثال آخر من فرنســا، كتب مؤرخون فرنسيون عن حقبة الرئيس الأســبق نيكولا ساركوزي. وفجأة، تغيرت نســبيا بعض المعطيات عندما نشــرت جريدة «ميديابارت» مقــالات تدخل ضمــن صحافة التقصي، أكدت تورطه فــي تلقي أموال من نظــام معمر القذافي لتمويل حملته الرئاسية سنة 2007، ودوره السري في عدد من الاتفاقيــ­ات لصالح ليبيا في الاتحاد الأوروبي. وأثنى مؤرخون على صورة ودور الملك خوان كارلوس في الانتقال الديمقراطي، ولاحقا ظهرت صحافة نبشت فــي الماضي بعــن ذكية، ورصــدت معطيــات مخيفة مثل الاشــتباه في اغتيال شــقيقه فــي البرتغال إبان الخمســيني­ات، ثم دوره فــي الفســاد ومراكمة ثروة ضخمــة علاوة علــى علامات اســتفهام بشــأن دوره في الانقلاب العســكري الفاشل ســنة 1981. وستكون المفاجأة أكبر فــي حالة بعض الأحداث عندما ســيعلم القارئ أن دولا ديمقراطيــ­ة غربية هي التي وقفت وراء التفجيــرا­ت الإرهابية التي هزت بعــض دول أوروبا، إبان الثمانينيا­ت خاصة فــي بلجيكا وإيطاليا لأهداف سياسية.

طالما تتحكم الدولة العميقة في الوثيقة والأرشــيف، يبقى مــن الصعب الحديث عن الإلمــام بحقيقة الوقائع والأحــداث الحقيقية، بــل يصلنا فقط جــزء من هذه الحقيقــة وأحيانا يصلنا ما تريــده الدولة العميقة، أي التغليط المحكم.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom