Al-Quds Al-Arabi

التفجيرات النووية الفرنسية في الجزائر: نريد كلاما أقل وأفعالا أكثر

- ٭ كاتب صحافي جزائري

■ صادف الســبت الماضي، 13 شــباط )فبراير( الذكرى 61 لتفجير فرنســا الاســتعما­رية أول قنبلة ذرية لها. اختارت فرنسا الصحراء الجزائرية لتنفيذ التفجير الذي أدخلها نادي الدول النووية وفتح شهيتها للمزيد، ففجّرت بين ذلك التاريخ ونهاية ســنة ‪16 1966،‬ قنبلــة ذرية أخرى بين رقّان وعــن إكر بأعماق الصحراء الجزائرية.

تكشف وثائق بحوزة نشــطاء مناهضين للتجارب النووية، أن تفجير شباط )فبراير( 1960، المعروف باســم «اليربوع الأزرق» تجــاوزت قوته ثلاثة أضعاف قنبلة هيروشيما. وبلغت إشعاعاته تشاد شــرقا فلوَّثت مياه العاصمة نجامينا. كما بلغت الإشــعاعا­ت سواحل إســبانيا وصقلية شــمالا، ودول وسط إفريقيا جنوبــا. وتفيد كذلك أن ما لا يقل عن 40 ألف جزائري، بين رُحّل وســكان ثابتون، كانوا يعيشون في مســاحة قطرها 200 كلم تحيط بموقع التفجير. لم يُعوَّض من أولئك السكان سوى واحد.

كل التفجيرات («التجارب» في لغتهم السياســية المهذّبة( منذ الاستقلال إلى غاية 1966 تمت بعلم الســلطات الجزائرية وموافقتها، لأنهــا وردت ضمن بنود اتفاقية إيفيان التي استقلت بموجبها الجزائر.

هناك أيضا موقع اســتعماري آخر في منطقة وادي الناموس بولاية بشّار في أقصــى جنوب غرب الجزائر، حافظ على نشــاطه الكيميائي )المحظور( إلى غاية 1978. لكن السلطات الجزائرية والفرنســي­ة أخفتا أمره عن الرأي العام إلى غاية سنة 1997 عندما كشفت وجوده مجلة «نوفيل أوبسيرفاتو­ر» الفرنسية. بينما قال رشــيد بن يلس، الجنرال المتقاعد من الجيش الجزائري، إن هذه المنشــأة توقفت عن النشاط سنة 1986. موضوع التفجيرات يسمّم العلاقات الجزائرية الفرنسية، ويلقي بسحابة داكنة على ما يسمى «ملف الذاكرة» بين البلدين. في فرنسا يحضر إعلاميا باســتمرار، لكن بتجرد كبير وحياد ســلبي ملحوظ. في الجزائر يغيب، ثم يحضر مناســباتي­ا بكثير من العاطفة، لكــن دون أن يقطع خطوة واحدة نحو الأمام. يتكلم الجزائريون كثيرا في موضوع التفجيرات هذا، ويفعلون القليل أو لا يفعلون شــيئا. رغم خطورته والغموض الذي يلفه، يمكن أن يكون هذا الموضوع الأقل اســتعصاءً على الحل بين كل ملفات «الذاكرة». سهولته تكمن في كونه يقوم على وقائع ليس من حولها اختلاف حاد أو معقّد. يكفي امتلاك شجاعة الاعتراف بها ثم البدء بحصرها وطَرق أساليب معالجتها.

من المؤكد أن فرنســا، مثل أيّ قوة استعمارية سابقة، لن تستجدي الجزائريين لفتح هذا الملف بســبب ما يتبعه من إحراج وأسئلة قد تنتهي إلى مساءلة جنائية وأخلاقية وسياســية. الكرة، إذًا، في ملعب الجزائريين. يحتاجون لتحريكها إلى شــجاعة الاعتراف بأن اتفاقية إيفيان لــم تكن «ملائكية» وأنها قيّدت ســلطات الاستقلال وأبقت على «تجارب» الأسلحة المحظورة. )يمكن التماس الأعذار للوفد المفاوض في إيفيان بالنظر إلى الضغوط الكبرى والآمال الكثيرة المحيطة بمهمته آنذاك، وبالنظر إلى اســتعجاله انتزاع الاستقلال ولو بالإبقاء على الشيطان في التفاصيــل. من ذلك أن موافقته على التفجيرات النوويــة لم تُرفق بأي التزامات تُحمّل فرنسا التبعات الصحية والبيئية وغيرها(. يتضمن هذا الموضوع أكثر من عنوان. أبرز ما يحتاج إلى معالجة عاجلة، النفايات المشعّة التي دفنتها فرنسا في الصحراء الجزائرية. وكذلك العتاد المســتعمَل لدراســة نتائج «التجربة» الذرية مــن حوامات وعربات وأدوات أخرى كلّها مشــعّة تخلصت منها فرنســا بطمرها فــي الصحراء رمال. يضاف إلى هذا تكتم فرنســا على أرشــيف تلك «التجارب» والخرائط )مؤرخون وسياســيون يقولون إنها تعمدت التخلص من بعضها( ما سيعرقل بدء أعمال التخلص من بقايا تلك «التجارب».

التعنت الفرنســي في هذا الموضــوع، الذي أتفهمه لو كنت مســؤولا حكوميا فرنســيا، يقابله تخــاذل جزائري أو كســل. والنتيجة واحدة: بقــاء مظلومية تاريخية كبرى بلا حل يدفــع ضحاياها إلى اليوم ثمنا باهظا من صحتهم البدنية والمعنوية. هناك طريقتان لمعالجة هذا الموضوع والانتهاء منه بشكل منصف يعيد الحقوق لأصحابها: سلاح الإقناع، وسلاح المواجهة.

يجب مواجهة فرنســا اليوم بما ارتكبته فرنسا الاستعماري­ة، والضغط عليها من أجل التوصل إلى تسوية. يتطلب هذا الطريق القدرة على الإقناع والاستعداد لمعركة دبلوماسية طويلة النفس ومضنية ومكلفة. هي معركة تحتاج إلى شجاعة سياسية اســتثنائي­ة، لكنها تحتمل النجاح وتســتحق عناء خوضها بالنظر إلى عدالة المطلب وحلاوة ثمرة النصر عندما يتحقق.

ويتطلب الأمر، في المقابل، حدًا أدنى من الاستعداد لدى الفرنسيين. لقد برزت بعض ملامح هذا الاســتعدا­د في اتفاق بقيَ طي الكتمان، بين الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة ونظيره الفرنسي فرانسوا أولاند في 2012، على أن تقوم فرنسا بتنظيف منشأة وادي الناموس )بشّار( من التلوث الكيميائي.

هناك طريق ثانٍ يمليه فشــل الأول. إصرار فرنسا على التهرب من مسؤوليتها يتــرك الجزائريين أمام خيــار التدويل من خــال التوجه إلى المحاكــم الدولية والمجتمع المدني العالمي. لن يروق المســعى الجزائري لفرنسا وقد ينزل بالعلاقات معها إلى درك أســفل، لكنه سيلقى حتما الكثير من الدعم الدبلوماسي والأهلي في الأوساط الناشطة والهيئات المناهضة للاستعمار ولانتشار الأسلحة المحظورة.

مرة أخرى يحتاج الأمــر إلى عمل عميق وممنهج ومنظم ترعاه ســلطة جادة ويشترك فيه المؤرخون والعلماء والخبراء القانونيون والدبلوماس­يون وشركات العلاقات العامة. صعوبة هذا العمل ألّا مســاحة فيه للأخطاء ولا مكان للارتجال. وميزته أن فرص نجاحه قوية.

في كل الأحوال وأيًّا كان الطريق، يحتاج الأمر إلى قرار ســيادي وإصرار على المضي فيه. يحتاج، أكثر من أي شيء آخر، إلى جرأة وشجاعة أتساءل هل متوفرة حاليا في الجزائر. ويحتاج إلى اســتعداد لتحمل تبعاته ومنها غضب المســتعمِر السابق وحلفائه.

لكن مرة أخرى، المعركة تســتحق عناء خوضهــا. الجزائريون جميعا، وعلى رأسهم ضحايا تلك التفجيرات المشؤومة، يستحقون قليلا من العدالة والتعويض المادي والمعنوي، ومن خلاله شيئا من الكرامة المهدورة. غير أن الإنصاف والعدالة لا يتحققان بالارتجال وحديث المناسبات الذي يُطرح به الموضوع في الجزائر لحد الآن.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom