Al-Quds Al-Arabi

خدعة الحرب كامتداد للسياسة

- ٭ كاتب من مصر

■ الحرب ليست امتدادا للسياســة، بل هي الحقيقة المتكررة الأشد مأساوية في تواريخ الشعوب والنقيض الخالــص لأمل الإنســان فــي الحرية والأمــن والتقدم والرخــاء. اليــوم تعاني بــاد العرب مــن حروب بين الجيوش النظاميــة وعبر الحدود الفاصلــة بين الدول الوطنية كالحــرب على اليمن، ومن حروب أهلية تفرض خرائط الدماء والدمار كالثورة السورية التي استحالت حربا أهلية، ومن حروب تشــنها عصابات الإرهاب قتلا وحرقا وتهجيرا وتخريبا في مساحات تمتد من الخليج شــرقا إلى الجزائر غربا ومن العراق شــمالا إلى اليمن جنوبا. اليــوم تعاني بلاد العرب أكثــر من كافة مناطق العالم الأخرى من الحروب وويلاتها التي صنعت منا أمة من القتلى والمصابين واللاجئين والمهجرين.

علــى الرغم من ذلك، لم يزل البعــض في بلاد العرب يستخف بالحروب ويزين للشــعوب التورط فيها. على الرغم من ذلك، لم يتوقف أيضا الاستخفاف من قبل كتاب ومثقفين وأصحاب رأي فيما خص مأساوية الحروب ولم يتوقف ترويجهم الخطير لها كامتداد للسياســة بأدوات أخرى. والسياســة، معرفة كنشــاط إنســاني طوعي وســلمي يســتهدف تحقيق الصالح العام للمجتمعات وحماية حق الناس في الحيــاة والحرية والأمن ويقدم دائمــا ما هو ممكن على ما ينبغــي أن يكون ويبحث عن الحلول الوســط، هي من مثل هذه المقارنة الخائبة براء. وبالقطع لم يحترق من يستخفون بالحروب ويروجون لها بويلاتها، ولم تقترب خرائط الدماء والدمار منهم أو من مســاحاتهم الخاصة، ولم يختبروا قســوة التهجير والارتحــا­ل وطلب اللجــوء. هم يزعمــون أن الحروب ستأتي قريبا بأبطالها المنتصرين وبالمنهزمي­ن المدحورين وبنهاياتهـ­ـا الســعيدة تلــك ســيعم الســام والتقدم والرخــاء، بينمــا الحقيقة الوحيدة هــي أن الحروب لا نهايات سعيدة لها وأن الســام لا يعم ولا تقدم ورخاء يتبلوران ما لم تبتعد الشــعوب عن التورط في الحروب وفي حلقاتها المفرغة.

ولنا في الحرب المأســاوي­ة على اليمــن الدليل البين.

منذ ربيــع 2015 والحرب الجائرة علــى اليمن تتواصل والصــراع بالوكالــة بين الســعودية وإيــران يتمادى ليختطف الدولة شــبه المنهارة والمجتمــع المأزوم بفعل نزاعات داخلية عديــدة. الحصيلة اليوم هي أكثر من 14 مليون يمني - نصفهم من الأطفــال - يتهددهم الجوع، وأكثــر مــن 19 مليــون لا يحصلون على ميــاه صالحة للاســتخدا­م الآدمي أو على الحدود الدنيــا من الرعاية الصحية، وما يقرب من 3.5 مليون هجروا أو فقدوا أماكن إقامتهم، وآلاف القتلى والجرحى، ومئات المستشــفي­ات والمدارس والبنى الأساسية الأخرى المدمرة. ليست هذه أرقامي، بل هــي بيانات وكالات ومكاتــب مختلفة تتبع منظمة الأمم المتحدة وتنظر في الشأن اليمني الذي صار على نحو مفجع مسكوتا عنه في بلاد العرب.

فتحالــف الســعودية وحكومــات خليجيــة أخرى المتورط في عمليات عسكرية مستمرة لا تعنيه الأوضاع الإنســاني­ة الكارثية للشعب اليمني على الرغم من زعمه الدفاع عن «حكومة اليمن الشــرعية» وانحيازه لمصالح النــاس، ولا يتناولها فــي خطابه الإعلامــي وإن فقط من باب نفي المســؤولي­ة ورفع العتــب. أما طرف الحرب الآخر المدعوم إيرانيا، أي جماعة الحوثيين وبقايا نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح، فلا يربطه بكوارث الجوع والمرض والتهجير والدمار سوى الادعاء الزائف بعدم تســببه بها وبانتماء الضحايــا لصفوف مؤيديه. وجامعــة الدول العربية في خانــات الصمت المريب عن مأساة اليمن لم تغادرها منذ اشتعلت الحرب، ولم تنتج ســوى عبارات التأييد «للحكومة الشــرعية» المدعومة ســعوديا وخليجيــا، ولم يصــدر عن إداراتهــا المكلفة بمتابعة الأوضاع الإنسانية للشعوب العربية بيانا علنيا واحدا، ولم تطالب أبدا لا بوقف العمليات العسكرية ولا بهدنة إنســانية ولا بتكثيف أعمال الإغاثة. لا شيء على الإطلاق.

ليســت الحرب على اليمن، إذا، سوى مأساة متكاملة الحلقات تمسك بالشــعب الطيب وتدمر مجتمعه وتنزع عنــه الحق فــي الحياة. وليــس في ذلك سياســة على الإطلاق، بل ســلوك ظالم من قبل قوى داخلية وإقليمية وتجاهل ظالم من قبل المجتمع الدولي للمأساة اليمنية.

من يســاعد الشــعب اليمني اليوم؟ وكالات ومكاتب الإغاثة الأمميــة، بعض الــوكالات الحكومية الأمريكية )المعونة الأمريكية( والأوروبيـ­ـة )خاصة هيئات الدعم الدولــي البريطانيـ­ـة والألمانية( والمنظمــا­ت الأجنبية غير الحكومية العاملة في مناطق العمليات العســكرية والحــروب والنزاعــا­ت المســلحة كأطباء بــا حدود وأوكســفام. تجمع كافة هذه الجهات على تجاوز مأساة اليمــن لإمكانياته­ا المحدودة، وعلى هامشــية اليمن في دنيــا صناع القــرار الغربيــن إذا ما قورنت بمســارح الحروب الأخرى في بلاد العرب من سوريا والعراق إلى ليبيا، وعلى قــرب تحول الجوع إلى مجاعة والمرض إلى أوبئــة والتهجير إلى أزمة لجوء مريعة. تســاعده أيضا كل حكومة إقليمية تمتنع عن التورط في الحرب الجائرة والمســتمر­ة منذ 2015 كالحكومة المصريــة التي رفضت الانجرار إلى الأعمال العســكرية في اليمن، وتســاعده الحكومات الغربية حين تمتنع عن تصدير الســاح إلى الأطراف الداخلية والإقليمية المتورطة في الحرب.

الأمر، إذن، هو أن ثلاثية تصارع القوى الداخلية على الســلطة وتورط القوى الإقليمية في حــروب بالوكالة على أرض اليمن ومحدودية الاهتمام الدولي بالأوضاع الإنســاني­ة الكارثية صارت تهدد بقاء الشــعب اليمني بعد أن قضت على دولته وفرضــت الدماء والعنف على المجتمــع. وإذا كانت حروب الســعودية وإيــران غير مرشحة للتوقف في المستقبل المنظور وإذا كان التجاهل الدولــي لليمن غيــر متوقع تبدله كاملا علــى الرغم من البــوادر الإيجابيــ­ة لوقف توريد الســاح، فإن القوى الداخلية المصطفــة إما في «الحكومة الشــرعية» أو في خانــة الحوثيين هــي الوحيدة القــادرة على وضع حد لمأساة اليمن حال عدلت فعلها. تتسم خريطة هذه القوى الداخلية بالتعقد والتنوع الشــديدين. فمن بينها قوى قبلية ومجتمعية وسياسية، وبعضها يعتاش على بقايا مؤسســات الدولة وبعضها الآخر يحمل ضغائن عميقة تجــاه فكــرة الدولــة الوطنية وبعضها الثالث يختزل دوره في التحالف مع الرعــاة الإقليميين، وثمة قوى تبحث عن تنفيذ رؤى انفصالية تعيد تعريف حدود في اليمن وغير بعيد عنها جماعات إرهابية العنف مشروعها الوحيد.

غير أن الراســخ من جهة هــو أن الطائفية لم تتمكن بعد من خريطة القوى الداخليــة على الرغم من طائفية الحرب بالوكالة بين السعودية وإيران، ومن جهة أخرى كون أغلبية الشــعب اليمني باتت تقف بعيدا عن القوى الداخلية الكبرى كالحوثيين وبقايا نظام صالح وجماعة الإخوان المسلمين وحزبها الإصلاح وتنظر إليها كمنتمية لواقع فاسد يصارع للبقاء دون اعتبار للمأساة الراهنة، دون عظيم تقديــر للصالح العــام، دون صياغة لرؤية لإنهاء المأساة.

والراســخ أيضا أن كارثيــة الحــرب والغياب غير المرشــح للتغير لمنتصر واضح ومنهــزم مدحور يدللان علــى تهافت النظــر إلى الحــرب دون إدانــه وكارثية تمريرها كاســتمرار للسياســة بأدوات أخرى. مثل هذه الرؤية الإنسانية يحمل لواءها اليوم في اليمن منظمات المجتمــع المدني التي تواجــدت في البلاد قبــل محاولة الانتقال الديمقراطـ­ـي في 2011 ولم يغيبها تعثر الانتقال واشــتعال الصراعات بين القوى الداخلية، وهي اليوم تكتســب أهمية متصاعدة في ظروف الحرب والأوضاع الإنســاني­ة الكارثية بفعل أدوارها الإغاثية بالتعاون مع المنظمــات الأجنبية غير الحكوميــة ولأن أصوات بعض قياداتها ترتفــع برؤية ليمن ترفض الحــروب بالوكالة مثلما ترفــض النزعات الانفصالية وتتجــاوز الطائفية وتثق في إمكانية اســتعادة السلم الأهلي وإنقاذ الدولة الوطنية في ســياق انتقال ديمقراطي منظم تديره نخبة تكنوقراطية )عناصرهــا تقيم اليوم في الجوار الإقليمي أو تتوزع عالميا( وكفاءات محلية لا يعدمها اليمن.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom