Al-Quds Al-Arabi

رحيل مريد البرغوثي: بعيدا عن الخطابة قريبا من ظل الأرض

- القاهرة ــ «القدس العربي»: ولد مريــد البرغوثي فــي الثامن من يوليو عــام 1944، في قرية دير غسانة القريبة من رام الله في الضفة الغربية. التحق بكلية الآداب قســم اللغــة الإنكليزية في جامعــة القاهرة عام 1963 وتخــرج فيها عام 1967. تزوج مــن الأكاديمية وا

«أســوأ ما في المدن المحتلة أن أبناءها لا يســتطيعون السخرية منها». (رأيت رام الله(

رحــل أول أمس الأحد الشــاعر والأديب الفلســطين­ي مريد البرغوثي )8 يوليو/تموز 1944 ــ 14 فبراير/شــباط 2021( صاحب التجربــة الثرية والمختلفة، مقارنة بالكثير من الشعراء الفلسطينيي­ن والعرب. ولعل الحِس الجمالي لكتاباته الشعرية والنثرية كانت انحيازه الأوحد، بعيداً عن طنطنة الشــعارات، وقولبة الأصوات الإبداعية التي تتحدد هوية أصحابها، من خلال سمات أبعد ما تكون عن الشعر وعالمه.

في هــذا التقرير الســريع نحاول اســتقراء بعض من ســمات تجربة البرغوثي، ســواء من خــال مؤلفاته أو حواراته الصحافية التي تكشــف الكثير عن رؤيته لمفهوم الشعر وقضية وجوده المزمنة.

فنجان قهوة مع الديكتاتور

جاء مريد البرغوثي إلى القاهــرة ليلتحق بجامعتها، وعنــد تخرجه عام 1967 تم احتلال الضفــة الغربية، فتم منعه من العودة، وأصبح الاغتراب واقعاً يعيشــه. يذكر أنــه.. لم يســتطع أن يجد حائطــاً يعلق عليه شــهادته الجامعيــة، بعــد أن عجز عــن الوصول إلــى بلدته رام الله. وبعد الاســتقرا­ر والزواج، كان عليه عيش اغتراب مضاعف طيلة 17 عاما. فقد ســجنته الســلطات المصرية أولاً، ثم قامــت بترحيله عام 1977 إثــر معارضته زيارة الســادات لإســرائيل. ويقول عن تلك الفترة.. «شــربت أســوأ فنجان قهوة أثناء إقامتي في مصر في عهد الرئيس المصري الراحل أنور الســادات، عندمــا قالوا لي حينها لا تكتب في السياســة، فأصبحت أعيش في عوالم مرتجلة، وتنقلت بين 30 بيتاً، ولم أقابل زوجتي ســوى في المنافي، نتيجــة فنجان قهوة مــع ديكتاتور، لكــن المبهج أن زمن الديكتاتور­ية بدأ ينهار في العالم العربي.»

ظل البرغوثي بعيداً عن أي سلطة، بل مواجهاً وساخراً منها، فإن لم يستطع السخرية من مدينة خيالية، فالأجدر أن يســخر ويُسفه السلطة، ســواء كانت سلطة احتلال، أو سلطة محســوبة على كونها وطنية. ففي كتابه النثري الثاني «ولِدتُ هناك.. ولِدتُ هنا» وهو عن زيارته الثانية إلــى رام الله برفقة ابنه )تميم( الــذي يرى موطنه للمرّة الأولى، يجعل البرغوثي من الســائق )محمود( شخصية جديــرة بالبطولة، لأنه نجح في الوصول بهم إلى المدينة، متجــاوزاً حواجز وجنود جيش الاحتــال .. «محمود هو القائد لا السياســيي­ن الذين ترونهم في الصور وتسمعون عنهم». حتــى تصل المفارقة مداها ســاخراً من الســلطة الوطنية، أو )الآفة( التي تتغذى على صخب النضال..

«كان رفــع علم فلســطيني صغير حتى على أســاك الكهرباء في الشوارع، يكلف الشــاب حياته. كان جيش رابــن يطلق النار ويقتل من يحاول رفع علم واحد، ورغم ذلك قدمنا الشــهداء طول الانتفاضة مــن أجل رفع العلم، الآن العلم فــي كل مــكان وراء طاولــة كل موظف، مهما صغرت وظيفته .»

ظِل الأرض

وتختلــف رؤيــة البرغوثي عــن غيره من الشــعراء والأدباء الفلسطينيي­ن، أو حتى العرب، الذين لا يفصلون قضية وجودهم عن القضية الفلســطين­ية. فالقصائد التي تجســد حيوات الناس تبتعد عن كلاشيهات أدب النضال المعهود، كما تجلت هذه الرؤية أكثر من خلال كتابه النثري «رأيت رام الله» أو حواراته، التي تؤكد تجســيده للحالة الإنســاني­ة أكثر من الارتباط بقضيــة مفروضة من خلال النظر إليها، نظرة وحيدة، وإلا ما عداها باطل. فالقصيدة التي تؤثر وتتعايش مع قــارئ أو متلق في مكان آخر هي الأجدر على البقاء. فقــط القصيدة دون صاحبها، بمعنى أنه يوجد من خلالها وليس العكــس. فيقول.. «إن الأدب المقاوم ليــس الأدب الذي يهتف ضد العدو، أو بســقوط الديكتاتــ­ور، بل الذي يصنــع لغة مختلفة تهــز الثابت، وتبشــر بالتغيير ويهــدد الركود والثبات الذي يســعى الديكتاتور إلى ترسيخه .»

ومن هــذا الرؤية يطلق البرغوثي ما ســماه بـ)تبريد اللغة( بمعنى النبرة الخافتة، من خلال مفردات محايدة، والاعتماد على الإشــارة والإيحــاء، والتعبير، من خلال مفردات بصريــة، أي إمكانية تحويل المكتــوب إلى نَص مرئي، بدون لغة مفخخة تســتجدي المشاعر. ويرى «أن الطغــاة والحكام هم الذين يدمنون لغــة الزخرف، اللغة البطولية الرنانة الحــارة، ليكذبوا بها على الناس وعلى التاريخ وعلى أنفسهم .»

ويرى البرغوثي مثلاً أن ما يكتبه نزار قباني ـ وله كل الحق ـ ما هو إلا «إعادة طرح لشــتائم المقهى بعد تزيينها بالوزن والقافية، أما أشــعاره الغزلية، أو ما يسمى بشعر المرأة فتتسم بتكرار المفردات». واللغة الديكتاتور­ية هذه ـ نســبة إلى خُطب الساسة ـ يســتعيرها نقادنا الأجلاء المتخلفــو­ن عن الركــب، متخذين من أنفســهم ســلطة بدورهــم، فالنقد ليس حراً كما يــرى البرغوثي، يحرص على ترســيخ أصوات بعينها، تجربتها رديئة في الغالب، فيمنحون صكوك غفرانهم لمن يهابونهم بدورهم، «ما نراه اليوم هو مقالات نقدية ســريعة تصلح للاستهلاك الآني، وتخشى الإشارة إلى قصيدة رديئة كتبها شاعر له اسمه، أو الإشادة بشاعر عظيم ناشئ.»

وما هي فلسطين؟

كان البرغوثي يمتلك من الجرأة بأن يعبر تعبيراً مخالفاً عن الســائد، ويصبح أكثر صدقاً وصراحة، وقد استبانت له الحقيقــة عند عودته إلى رام اللــه، فعن أي أرض كان يبحث؟ عن خيــال اختفى أم واقع لا يعرفــه؟ وهنا تكمن المأســاة بدون مواربة أو تراجيديــا مقيتة مبتذلة.. «كنت أقول لزملائي وزميلاتي المصريين في الجامعة، إن فلسطين خضراء مغطاة بالأشــجار والأعشاب والزهور البريّة، ما هــذه التلال؟ جيريّة كالحة وجــرداء! هل كنت أكذب على الناس آنذاك؟ أم أن إســرائيل غيّرت الطريق الذي تسلكه سيارات الجســر وحولته إلى هذا الطريق الكالح، الذي لا أتذكر أنني سلكته في ســنوات الصبا؟ هل قدمتُ للغرباء صورة مثالية عن فلسطين بسبب ضياعها؟». فالبرغوثي أدرك أنــه لا يعيش من خلال المكان، وقد انتفى من المخيلة، بل يعيش من خــال الزمن. زمنه النفســي الذي يصوغ من خلاله حالته وإحساســه بما حدث ويحدث، «علاقتي بالمكان علاقــة اعتباطية، لأن معظم الأماكن عشــت فيها مضطراً... فمنذ ضياع فلسطين، أصبحت كل الأماكن أماكن اضطرار .»

الشعب المعجزة

وكعــادة العرب فــي التباهي بأمجاد زائلة، وإنشــاد الأغنيات الوطنية، يستشــهد البرغوثــي بمقابلة أجريت معه في مقر الإذاعة الفلســطين­ية في رام الله، وقد ســأله المذيع: «ألسنا شعباً معجزة؟ شعباً مختلفاً؟ وطناً مختلفاً؟ فردّ قائــاً.. «مختلفون عن مَن بالضبــط؟ وعن ماذا؟ كل الشــعوب تحب أوطانها وكل الشعوب تحارب في سبيلها إذا اقتضى الأمر. الشــهداء يســقطون من أجل قضاياهم العادلــة فــي كل مــكان. المعتقــات والســجون مكتظة بمناضلي العالم الثالــث والعالم العربي في طليعتها. لقد عانينا وقدمنــا تضحيات بلا حد. لكننا لســنا أفضل ولا أسوأ من الآخرين. بلادنا جميلة وكذلك بلاد الآخرين.»

تاريخ الإهانة

لم ير مريد البرغوثي حالة الاســتثنا­ء التي يعيشــها الفلســطين­ي، إلا من خلال فقدانه الأرض، وضياعها، وما الكتابة والأغنيــا­ت إلا حالة من تذكّر هــذا الضياع.. «ها هي تمتد أمامي ملموســة كعقرب، كعصفور، كبئر، ومرئية كحقل من الطباشــير، كآثار الأحذية، قلت لنفســي ما هي استثنائيته­ا لو لم نكن فقدناها؟

هــي أرض كالأرض، نحــن لا نرفــع لهــا الأغنيات إلا لكي نتذكر الإهانة المتجســدة في انتزاعهــا منا، الإهانة تنغص حياة المهانين، نشــّيدها ليس للقداســة السالفة، بل لجدارتنا الراهنة، فاســتمرار الاحتلال يشــكل تكذيباً يوميــاً لهذه الجدارة، لم أصل إليها بعــد، إنني فقط أراها

بشــكل مباشــر، كنت كمن أبلغوه بالفوز بجائزة كبرى، لكنه لم يستلمها بعد». هذه الرؤية وإن كانت تقتصر على الأرض الفلســطين­ية، إلا أنها تمتد لتشمل العالم الموسوم بالـ)عربي( حيث الأغنيات التي نظننا نشيّدها لمجد غابر وقداســة ســالفة، ولكنها في حقيقة الأمر )مراثي( تصر دائماً على تذكيرنا بتاريخ طويل.. تاريخ الإهانة. ولكن.. هناك ثمّة أمل، جيل آخر جديد يقاوم بلا أســاطير، ولا هلاوس موروثة، ربما يستطيع أن يُغيّر من الأمر شيئاً.. «لا بأس أن نموت والمخدة البيضاء لا الرصيف تحت خدنا وكفنا في كف مَن نحب يحيطنا يأس الطبيب والممرضات وما لنا سوى رشاقة الوداع غير عابئين بالأيام تاركين هذا الكون في أحواله لعل غيرنا يغيرونها .» ...... بيبلوغرافي­ا الأعمال..

 ??  ??
 ??  ?? مريد البرغوثي
مريد البرغوثي

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom