Al-Quds Al-Arabi

«خيانات اللغة والصمت» للشاعر السوري فرج بيرقدار: خمس عشرة بلطة ماجنة لترويض طيور الكلام

- ٭ كاتب وباحث سوري

■ «في زمن مــا/ كان يحدث هذا الحيف الذي تخونني اللغة فيها أما الصمت/ فربما كان ولا يزال.. أكثر حيفاً وخيانة» لابد من كسر الصمت حتى لا نشعر بالخيانة لأنفسنا، ولأجيالنا القادمة. فالصمت ليس أبلغ من الكلام. ويجب أن نحكي قصتنا مع الســجّان وأفعالــه اللامعقولة تجاه المعتقلين السياســيي­ن وغيرهم. فالسجن في سوريا، زمن البعث، مأســاة وموت باللحم والروح. أعطيناهم أعناقنا واللحم ليخنقوه، مــن أجل أن نحافظ على الحلم، وهم لا يســمحون حتى بالاختيار المرير بين لحمك وحلمك، فهم يريدونك مســلوخاً من رأس قدمك، حتى أخمص ماضيك. ومشــكلتك الوجودية الكبرى كإنسان هي، عجزك عن أن تكون مهزوماً. والمؤلم، اتهام اللغــة بالخيانة، وأصالتها بالتعبير، وأنها مخذولة وعاجزة عن أي مقاربة مقنعة بما تنوء به أيضاً، حتى اللغة يا إلهي.

تحكي وثيقة التغريبة للشــاعر فرج بيرقدار، بشــكل شــاعري وممتع، عن رحلته داخل السجن التي استمرت لأربعة عشــر عامــاً، بفعل انتمائــه إلى حــزب «العمل الشــيوعي» المعارض، الذي تخلى عن شــعار «إســقاط النظــام» في 1980، واســتبدله بـ«دحــر الديكتاتور­ية» كي لا يكون الإســقاط تغطية لأفعال «الإخوان المسلمين» الظلاميــة التــي تقاتل النظام بالســاح لإســقاطه في ثمانينيات القرن الماضي.

وكان ورق الســجائر هو الدفتر الذي كتب فيه الشاعر أحاسيسه ومشــاعره وملاحظاته، وبمساعدة أصدقائه داخل الســجناء الذين حفظوا أشــعاره، حيث كان القلم والورقــة ممنوعــن في الســجون الســورية. وكان له الرقم «13» وهو الرقم المشــؤوم، حيث يوصف السجناء بالأرقام، أو بالألقاب الازدرائية.

)1(

أشعر بالارتباك تجاه كتابة هذه المقالة. فالوثيقة مليئة بالشعر. وهل يمكن إعادة صياغة الشعر بالنثر، بحيث لا يفقد الشــعر جماليته؟ وما تقرؤونه قد ينطوي على قدر غير قليل من اللاعقلاني­ــة والعبث والتناقض والغموض واليأس والدم والقداســة والموت والجنون واللا معنى. هناك خارج المهجع أمواج متكســرة من الصراخ والوهم والشــتائم والاســتغا­ثات، في محيط من التوجس الذي تمزقه الســياط، وهي تشــهق وتزفر بمنتهى الشــهوة واللؤم والاستفزاز. ترافق اعتقالي مع زمامير السيارات، وضحكات «الشــبيحة» الأمنية، وإطلاق الرصاص، لماذا يبتهجون كل ذلك بسبب اعتقالي؟ كأنهم حرروا الجولان المغتصب؟ وتم ســوقي إلى فرع فلســطين، التابع للأمن العسكري، الذي لم تقتصر مهمته على الفلسطينيي­ن فقط، إنما شــمل كل البشر الذين يتنفســون المعارضة ـ نساءً ورجالاً من كل الأصناف. وبدأت أدعو لأمي كي تساعدني، فأنا يا أمــي أيها الحب والحزن واليــأس، فأنا في دوامة التعذيب والقتل غير المشروع.

واكتشــف أن الشــعر هو طائر الحرية الجميل، وهو الطائر الأقصى علــى الحرية، وليس قابلاً للأســر، وقد حررني داخلياً من جــدران وأنفاق وجنازير وأقفال. ولو كان سياســياً فقط يمكن أن ينهزم، لكن الشاعر في داخله أنقذه، وأعطى لحياته في الســجن معنــى مختلفا وقيمة نضالية لا توصف. فالســجن زمنٌ عاطل، ودنس.. وغير أخلاقي، وهو المكان الذي تحجز فيه الحرية، وأي سجين يتلهف إلى فلســفة واحــدة، هي الحرية ولــو بحدودها الدنيا، في أوان الفرح، وفي آخر الحزن.

وأنت «ليس لك إلا أن تقبــض بيديك على جمر الحلم، وتطــأ بقدميك على جمر الواقع، وفــي صدرك جمر كثير، يحرس قلبك في الليل، ويوقظه في الصباح. لكي لا تنسى أن الله ليس شيئاً آخر غير الغياب في أقصى تجلياته.»

‪) 2 (‬

إنهم يدقون لحمك وعظامك في تلك الأجران الجهنمية. يستحيل أن يكون أصل الإنســان قرداً أو حتى شيطانا. ذلك الذي يتفصد شــهوة للافتراس، وينتعش منتشــياً بالبشاعة، وزنخ الروح، وانعدام الرحمة، ما الذي يبتغيه من هذا المــزاد الدموي الطاغي؟ فالســلم لأجل الصعود، لكن أن تكون عليه ورأســك مقلوب للأســفل ويجلدونك بالأفاعي، إنه الجنون الهندسي المرعب. والكرسي النازي وليــس الألماني حتى لا يتم الإســاءة للشــعب الألماني، حيث يجلس الكرســي على المرء وليــس العكس من أجل كســر العمود الفقري. والدولاب وتوسيع حدود الكون، والصعــق بالكهرباء، حيــث تحدث تموجــات كخروج الروح مترافقة مع العواء المقلوب. وسنضيف أيضاً، ربط الخصيتين بالمطاط لوقف الذريــة، وحقنة الهواء للموت الســريع، بدون آثار للتعذيب. والكلبشــا­ت الإســباني­ة اللامعة، لكنها في منتهــى اللؤم، ألم يجدوا طريقة أخرى لرد الجميل لأجدادنا الذين احتلوا بلادكم؟

‪) 3(‬

والنقــل إلى تدمر «مأســاة المــوت» كعقوبــة لآرائنا باســتبداد النظام، حيث كنا قامــات مهدمة، وتتكئ على الكبرياء. وفي «التشــريفة» كل الأشــياء مقلوبة، وحتى الآلهة عاجزة ومجللة بالعار.

وحده الموت يقف عابســاً، والكرابيج تشخط الهواء على الأجســاد العاريــة، التي تصدر الأنــن المخطوف وتتخلله شهقات دامية متقطعة.

وكانت لتدمر أســوار عالية، وحواجز، وحقول ألغام، ونقاط تفتيش، وحتى لو ســقطت ســوريا بكاملها فإن هذا السجن لن يسقط، خاصة أنه يضم عناصر التعذيب والموت. فالعســكري الذي يأمر سجيناً أن ينظف جزمته بلســانه، ثم يصفعه بالجزمة على وجهه، كأنه قادر على إغلاق جبهة بمفرده. وعســكريان يمســكان بسجين من يديــه ورجليه ويؤرجحانه ثم يطوحــان به في الهواء، حتى تســتريح الجثة على أقل من مهلها. وبمطرقة كبيرة يهوي العســكري على العمود الفقري لســجين، بحيث أصبحــت صرخة الســجين تتماوج مع مســحة ضبابية تتموج بارتعاشات صغيرة متناهية. وآخر يهوي بجسده على عنق ســجين، وآخر يجبر سجين على أن يمضغ فأرة ويأكلها كطعام. يا إلهي، إنهــا لوحة بانورامية مذهلة، لا «غيرنيكا» ولا الآلهة، ولا الأساطير تتضمن ذلك.

وأن ترفع رأســك يعنــي أنك ترفع نعشــك، وكنا نميز العساكر من أشــكال أحذيتهم. ونطلق عليهم أسماء تبعاً لتصرفاتهــ­م الهمجيــة. وأضربنا عن الطعــام لمدة أحد عشــر يوماً، ونجحنا بعد أن تم تأمــن الكتب وقواميس اللغات، وبابور الــكاز والجريدة. لكــن إضرابنا الثاني من أجل الزيارة فشل، وعشــنا بعده في مستنقع: عجز، وإحبــاط، وكآبة، وزهد، وغثيــان. وكان التضامن بيننا إلى حد الموت، والتشاحن بيننا إلى حد السباب والضرب والهســتير­يا، حيث كان الســجن أشــبه بمجتمع مليء

بالحنين والشــكوى والنميمة، وكذلــك بمجتمع روماني مخضــب بزئير الوحوش الكاســرة، والــدم وصرخات الأسرى. ومن «الشراقة» وهي فتحة في السقف، كنا نرى سروتين، تتهادل عليهما حمامتان عاشقتان، واحدة أكثر ســواداً من آلامنا، والأخرى أكثر بياضاً من أحلامنا. وكنا نرى القمر بضع مرات، ونحمله ما نشــاء من الرســائل والوصايا.

)4(

الســجن ذكورة افتراســيه قصــوى، والحرية أنوثة رحمانية قصوى/باختصار تصبح تــاء التأنيث الحرف الأجمل في دنيانا /بــدون المرأة ورائحتها لا يكون الرجل إنســاناً /تصبح المــرأة معــادلاً رمزياً وإنســانياً وفنياً للحرية، بل تصبح المرأة هي الحرية. لكن للبنت الصغيرة التي لم تتجاوز الســنة الخامسة، التي لم يتــم اعتقالها مــع أمها، وضعهــا الخاص، حيث بــدأ يشــعر بالمرارة لوجــود البنت وحيدة، في الهواء، ومع النزق الشــاعري طالب باعتقالها إلى جانــب أمها، لأن عدم اعتقال البنت جريمة، وظل يشعر بأنه أب إلى حد البكاء.

)5(

لقد شــعر فرج بيرقدار بالحرية في السجن، وكان أكثر استعداداً للتضحية والثورة. وتعلم الحرية، وحقق نشــاطاً ثقافياً بفضل الســجن، ومعرفة بالواقــع والحيــاة، خاصة في ســجن «صيدنايا» حيث أصبح لديه العديد من الأصدقاء. وكيف ضرب عســكرياً رداً عليه، حيث ســاد الصمت في المــكان، ولم يتجرأ أحد على معاقبته. وكيــف ضحكوا عندما طالب العســكري بـ«مهدي عامل» للنزول إلى المنفردة. وكيف قدم مرافعته في المحكمــة، «دفاعاً عن الحرية» حيــث إن قانون القوة الذي يســتخدمه النظام بدلاً من قوة القانون، سينهزم، وتنهزم معه السجون، وأنه لا شرعية لمحاكمكم والقوانين الاستثنائي­ة وقانون الطوارئ، إلخ.

«خمسة عشــر عاماً مع الأعمال الشاقة والحرمان من الحقوق المدنية والسياسية». يا أبناء الدم، خمس عشرة بلطة ماجنة لترويض طيور الكلام، أي جريمة ارتكبنا؟

بأحذيتهــم يحاولــون محــو ماضيك، وبأســنانك وأظافرك تحاول أن تتشبث بالزمن والذاكرة والأحلام.

)6(

تــدور أحلام الســجناء حول فلســفة الحريــة. لكن هذه الفلســفة منقوصة، طالما الاســتحبا­س هو الهدف لقتل الزمن. وطالما أدب الســجون ينصب على التعذيب وأشكاله المتعددة. ورغم أن الاعتقال غير شرعي، ويفتقر إلــى القانــون، إلا أن الإضرابات التــي حصلت داخل السجون هي من أجل تحسين شروط الاستحباس غير الشرعي.

ولا يوجد إضراب واحد من أجل الحرية، من أجل إلغاء التوقيف التعسفي، ضد قانون الطوارئ.

وهذه نقيصة كبرى في حياة الســجناء الســوريين، الذين يقضون عشرات السنين بموجب قانون الطوارئ، المخالف لأنظمة الدســتور، حيث لا تصبح فلسفة الحرية ذات معنى بدون هذا الإضراب الذي يجسّــد بشكل عملي رفضاً له كما نرفضه على الصحف وفي بياناتنا الحزبية المتعددة.

 ??  ??
 ??  ?? فرج بيرقدار
فرج بيرقدار
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom