Al-Quds Al-Arabi

الوفاق النووي طريق لتحقيق التوازن في الشرق الأوسط

- *كاتب مصري

تواجــه منطقة الشــرق الأوســط ثلاثة تهديدات رئيســية تغذي التوتر والصراعــا­ت داخلهــا. التهديد الأول عســكري، ويتمثل في احتكار إســرائيل للقــوة النووية، ومحاولتهــ­ا إقامة نظــام إقليمــي أحــادي القطبية تحت هيمنتها. التهديد الثاني سياســي، ويتمثل في شيوع أنظمة استبدادية تستمد شــرعيتها من الولاء لقوى أجنبية، وهو ما يقود إلى سياســات محلية وإقليمية لا علاقة لها بتحقيق المصالح الوطنية والاســتقر­ار الإقليمي. أما التهديد الثالث فإنه يتمثل في انتشار الكراهية القومية والدينية والمذهبية، وترسيخ ثقافة الكراهية من جانب أنظمة الحكم القائمة.

إن الجدل العالمي بشأن المســألة الإيرانية، الذي يترافق الآن مــع ســعي الإدارة الأمريكيــ­ة الجديدة للعــودة إلى الاتفــاق النــووي الموقع في عــام 2015، يفــرض ضرورة تقييم التهديــدا­ت القائمة، وعلى رأســها التهديد النووي الإسرائيلي، فاحتكار إســرائيل للسلاح النووي لن يساعد أبدا على إقامة نظام إقليمي مســتقر، لأنه على النقيض من ذلك يمثل أهم أسباب التوتر العسكري. وإذا كانت الولايات المتحدة والقوى الرئيســية في العالم جادة في إقامة شرق أوسط مســتقر، تنعم فيه شــعوب المنطقة جميعا بالأمان والســام، فإنها من الضروري أن تســعى لوضع أســس وفاق سياســي إقليمي، يتضمن معالجة التهديدات الثلاثة الرئيسية التي تواجهها المنطقة.

التهديد الأخطر الذي يرتبــط بالاتفاق النووي الإيراني هو إصرار إســرائيل علــى احتكار الســاح النووي، ومن الممكــن إزالة هذا التهديد، بإقامة توازن إقليمي جديد، يقوم على أحد خيارين، الأول هو إخلاء الشرق الأوسط تماما من الأسلحة النووية وأســلحة الدمار الشامل. والخيار الثاني

هو السماح بإقامة توازن نووي ثنائي في الشرق الأوسط، على غرار التوازن في جنوب آســيا، أو متعدد الأقطاب على غرار التوازن العالمي، بدون ذلك ســيظل الشــرق الأوسط ساحة للصراعات والنزاعات المســلحة. وتقترب إيران من التســليم بأن الخيار النووي هو مسألة حياة أو موت، وأنه الملاذ الأخير، في حال اســتمرار التهديدات التي تحاصرها، وسياســة الضغوط القصوى التي تحرم البلاد من التجارة والمعاملات المالية مع العالم. حكومة روحاني ستجد نفسها بعد أيام تحت ضغــط القانون، الذي أصــدره البرلمان في أواخر العام الماضي بإمهال الولايــات المتحدة حتى 21 من الشــهر الحالي للعودة إلى الاتفاق النووي، فإن لم يتحقق ذلك، ســتصبح الحكومــة ملزمة بالمضي قدمــا في برنامج تخصيب اليورانيوم إلى نسبة تركيز 20% أو أكثر، وحظر دخول مفتشــي الوكالة الدولية للطاقــة الذرية إلى المواقع المرتبطة بالتخصيب. ويكتســب هذا القانون بعدا سياسيا محليا مهما، نظرا لقرب الانتخابات العامة المقررة في يونيو المقبل.

لماذا أصبح الخيار النووي مسألة حياة أو موت؟

ليس فقط بســبب العقوبــات الاقتصاديـ­ـة والضغوط القصوى، ففي ظل العقوبات والضغوط، تمكنت طهران من تطوير قدراتها التنموية والعسكرية، ولم تتعرض للانهيار، ولكن الخيــار النووي أصبح مســألة حيــاة أو موت، لأن خريطة توزيع القوة الإقليمية شــهدت تغيرات عميقة خلال الأعوام الأخيــرة، خصوصا عندما بدأت إســرائيل بإقامة تحالف سياسي - عســكري ضد إيران، يضم دولا عربية، بدعم من الولايات المتحدة، والســعي إلــى تحييد القدرات النوويــة الإيرانية، وتجريــد طهران من حــق إقامة نظام للردع العســكري، يحميها من ضربات عســكرية محتملة. وقد تعرضت إيران منذ صيف العام الماضي لحملة تخريبية واســعة النطاق، واغتيالات لشــخصيات قياديــة منهم، الجنرال قاسم سليماني ومعه عدد من قيادات فيلق القدس بواسطة الولايات المتحدة، واغتيال المهندس محسن فخري زاده، الذي تعتبره إســرائيل مؤســس الجانب العسكري للبرنامج النووي الإيراني. وعلــى الرغم من التصريحات القوية الصادرة عن طهران، فإن ردود الفعل الإيرانية كانت بشــكل عام ضعيفة، وهو ما يغري إســرائيل بالتمادي في هجماتها، طالما أنها لا تدفع ثمنا لذلك.

مبادئ الأمن الإسرائيلي

على مــدى عقــود من الزمــن حققــت إســرائيل أمنها الاســترات­يجي، معتمدة على ثلاثة مبادئ أساســية، الأول هو احتكار القوة النووية، وضرب أي محاولة لبناء قدرات نووية فــي الدول المجاورة وهي في مهدهــا، وهو ما يعرف

بـ»مبدأ بيغن» الذي تم تطبيقــه مرتين، الأولى ضد العراق 1981، والثانية ضد ســوريا 2007. والمبدأ الثاني هو التمتع بمزايا التفوق العســكري النوعي، الــذي تضمنه الولايات المتحــدة، وفي القلب منه التفوق الجوي الســاحق. والمبدأ الثالث هو القدرة على الرد الســريع، بقوة مضاعفة على أي هجوم، أو محاولة هجوم من دولة أو منظمة معادية.

مصادر التهديد الاستراتيج­ي

تمت صياغة مبــادئ الأمــن القومي الإســرائي­لي للرد على ثلاثة تهديدات عســكرية رئيســية، أولها هو احتمال قيام تحالف إقليمي ضد إســرائيل. وترد إسرائيل على هذا التهديد بإقامــة تحالف عربي - إســرائيلي مضاد لإيران، وتعتبر أن تحالفها مع دول الخليج )السعودية ـ الإمارات - البحرين( هو القوة الجديدة لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط. أما المصدر الثاني للتهديد فهو الانتشار النووي في الشرق الأوسط، ولهذا فإن اسرائيل تعتبر أن امتلاك إيران لسلاح نووي يمثل تهديدا وجوديا لها، بينما هي لا ترى أن احتكارها للســاح النووي يمثل تهديدا للدول الأخرى. أما المصدر الثالــث للتهديد، فإنه يتمثل فــي احتمال التعرض لهجوم صاروخي واســع النطاق، من مصــادر متعددة في وقت واحد، يتســبب في تدمير أو شــلل النظــام الدفاعي، وانهيار قدرة إســرائيل على الرد السريع والملائم. ويرتبط هــذا التهديد بتطوير برنامــج الصواريــخ الإيراني، على الرغم من امتلاك إســرائيل أنظمــة صاروخية طويلة المدى عابرة للقارات، مثل برنامج صواريخ )أرو( إلى الصواريخ قصيرة المدى المستخدمة في منظومة الدفاع الجوي المتكاملة )القبة الحديدية(. وقد اســتنتج عوزي روبين الأستاذ في المعهد الوطني للدراسات الاســترات­يجية في إسرائيل، بعد دراسته لأنماط الهجمات الصاروخية، التي تشنها جماعات موالية لإيران في المنطقة، أن إســرائيل مكشوفة لتهديدات الصواريخ الإيرانية. وعلى الرغم من أن تقدير روبين للقوة الصاروخية الإيرانية مبالغ فيه، فإن الهجمات الصاروخية على الســعودية، خصوصا تلك التي وقعت على منشــآت أرامكو في ســبتمبر 2019، تدل علــى أن إيران تحرز تطورا ســريعا في مدى صواريخها، وقدرتهــا التدميرية، وكذلك في دمج دور الطائرات المســيرة مع الصواريخ، إضافة إلى قدرتهــا على نقل تكنولوجيا الســاح إلــى حلفائها. كيف يمكن أن يكون الوفاق النووي عامل اســتقرار في الشــرق الأوسط؟ إذا ســلمنا بأن امتلاك إيران للسلاح النووي هو مســألة حياة أو مــوت، وأنه قرار سياســي، وليس مجرد قدرات تكنولوجية، وأنه مسألة وقت لا أكثر، فإن الخيارات المطروحة تجــاه البرنامج النووي الإيرانــي، تتراوح بين التعايش مع إيران نووية، وحرمانها تماما منها. وبين هذين الخيارين توجد سيناريوهات متعددة في المنطقة الرمادية، من أهمهــا خيار تعديــل الاتفاق القائم، وهو ما يســتحيل تحقيقه بدون موافقة إيران.

سيناريو ضرب المنشآت الإيرانية

هذا هو سيناريو الحد الأقصى لتدمير البرنامج النووي الإيراني. ويعتقد بعض العســكريي­ن الإسرائيلي­ين بإمكان توجيه ضربة دقيقــة وخاطفة، لتدمير المنشــآت النووية الرئيسية، مع تجنب مخاطر حدوث حرب واسعة في اليوم التالــي، على غرار ما حــدث مع العراق وســوريا من قبل، لكن أي مغامرة من هــذا النوع، وبصرف النظر عن نتائجها العســكرية، تنطوي على مخاطر كارثية بيئية وسياسية، على مســتوى المنطقة والعالم. كذلك يدور جدل حول مدى قدرة إســرائيل على شــن هجوم من هذا النــوع وحدها، بدون موافقة ودعم الولايات المتحــدة. التقدير الغالب هو أن إسرائيل لا تستطيع أن تغامر في الوقت الحاضر بفقدان حليفها الاستراتيج­ي الأهم في العالم.

الحاجة لتهدئة تفتح باب الوفاق السياسي

إن مبررات إيران في الحاجة لســاح نــووي للرد على التهديد الإســرائي­لي، تفــوق حاجة إســرائيل للاحتفاظ بترســانته­ا النووية. إن امتلاك الســاح النووي لم يمنع التوتر على الحــدود الهندية - الباكســتا­نية، ولا الحدود الهندية - الصينية. وهو ما يعني أن امتلاك القوة النووية ليس ضمانا للســام، ومع ذلك فإن شــعور إسرائيل بعدم الأمن وســيطرة عقدة الاضطهاد على اليهــود يحتاج إلى ضمانات إقليمية ودولية لإرساء شعور بالأمان وليس فقط بوقف التوتر. وقد اكتشفت إســرائيل أخيرا أنها في حاجة لإقامــة تحالف إقليمــي لتحقيق أمنها المفقــود، لكن عملية إقامة تحالف إسرائيلي - خليجي ضد طرف ثالث أدت إلى اســتفزاز دول أخرى في المنطقة، مثل مصر والأردن ومعهما العــراق للتقارب في مــا بينها، من أجل تجنــب الوقوع في شِباك الاســتقطا­ب الحاد بين إيران وإسرائيل. إن التوصل إلــى آلية مقبولة والاتفــاق على اتخاذ إجــراءات متزامنة لعودة كل من واشنطن وطهران للالتزام بالاتفاق النووي، يمكن أن يكون خطوة أولى للانتقال من التوتر إلى التهدئة في المنطقــة، بما يفتــح الطريق لوفاق نووي في الشــرق الأوسط، إما بإخلاء المنطقة تماما من أسلحة الدمار الشامل، أو بقبول التعايش مع إيران نووية، والســعي لإقامة وفاق سياسي إقليمي بضمانات دولية، يزيل تدريجيا الحاجة إلى التسلح النووي في المنطقة، ويفتح الباب لتعايش إيجابي بين شــعوبها على أســس الســام والتعــاون والاحترام المتبادل، والتخلص من نزعــات الكراهية القومية والدينية والمذهبية.

امتلاك السلاح النووي لم يمنع التوتر على الحدود الهندية - الباكستاني­ة، ولا الهندية - الصينية ما يعني أن امتلاكه ليس ضمانا للسلام

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom