Al-Quds Al-Arabi

متى يتوقف التراشق الإعلامي بين المغرب والجزائر؟

- *كاتب وصحافي من تونس

لا خيــار ثالــث.. فإمــا أن تتوقف حملات القدح والشــتم بــن البلدين المغاربيــ­ن نهائيــا، وإمــا أن تبقــى وباســتمرا­ر حجــر عثــرة أمــام أي تقارب محتمــل بينهما؟ وبقدر ما يكون اختلاف هذه الدولة المغاربية عن تلك، في الحــدود العادية للخــاف معقولا ومقبولا، بقدر ما أنــه ومع كل تصاعد لوتيرة الحملات الإعلامية بين الدولتين المعنيتين، أي المغرب والجزائر وخروجها في مناسبات عن بعض الضوابط، فإن ذلك يكون ناقوس إنذار بأن الأمور قد تأخذ منحى تصعيديا، لا مناص معه من مواصلة النظر للمســألة باســتخفاف، أو تجاهل تداعياتها المرتقبة، لا عليهما فحســب، بل حتى على باقي دول المنطقة أيضا.

والمؤســف حقا أنه بدلا من أن يخطط المغاربيون اليوم، أو يفكروا بعزم وجد في أنجع الســبل التي تحقق وحدتهم، صار ســقف طموحاتهم، هو التطلع لأن يقدم المشرفون على تلــك الحملات التحريضيــ­ة، ولو على إقــرار هدنة قصيرة ومحدودة تلتقط فيها الأنفاس، وتُراجع أثناءها الحسابات، ويحاول فيها أولــو العزم والبصيرة تــدارك بعض ما فات الشــعوب من فرص مهدورة، لردم الفجوة بــن القطرين. والمثال الأخير الذي قد يؤكد تلــك الحقيقة المرة هو ما أثاره البرنامــج التلفزيوني «ويكاند ســتوري» الذي بث مســاء الجمعة الماضــي على قناة «الشــروق» الجزائرية من ردود غاضبة حتى في أوساط الجزائريين أنفسهم.

ولســائل أن يسأل ماذا كان الهدف الحقيقي من وراء ذلك البرنامج بالضبط؟ هل تســلية الجزائريين والترفيه عنهم في مثل هذا الظرف، ولو بأســلوب صادم ومبتذل ومســتفز لمشاعر جيرانهم، كما رآه قســم واسع من هؤلاء على الأقل؟ أم إلهاؤهم وإبعادهــم، ولو إلى حين عــن بعض قضاياهم ومشاكلهم وأزماتهم، والاستعاضة عن ذلك بتوجيه رسائل سياســية اســتفزازي­ة وعدائية إلى الشــقيقة المغربية؟ في الحالتين فإن النتيجة كانت زيادة منسوب التوتر في العلاقة المأزومة أصلا بين المغاربة والجزائريي­ن. لكن السؤال هو، من يتحمل المسؤولية عن ذلك؟ وهل كان اختيار مقدم البرنامج إظهار العاهل المغربي على شــكل دمية كرتونية، يُجري معها حوارا افتراضيا حول العلاقات المغربية الإســرائي­لية عملا مخططا، تم بعلم وتوجيه وإرادة الســلطات الجزائرية؟ أم أنه لم يكن ســوى اجتهاد فردي لا علاقــة له بها لا من قريب ولا من بعيد؟ في ظرف آخر كان سينظر لأي تهوين لما جرى، أو حتى نفي وإنــكار لوجود نوايا أو أغراض مبيتة من وراء العمــل التلفزيوني المقدم، أو أي تبرير لمــا قد يكون انحرافا حصل فيــه من قبيل القول، إنه تجــاوز أو مس غير مقبول، بما قد يعتبره الجار واحدا من رموزه السيادية، على أنه في النهاية مجرد انفلات غير مخطط أو مقصود، سيغلق القوس تماما وبسهولة عند ذلك الحد، لكن الجميع يعلم جيدا مقدار الحساسية المفرطة في البلدين، لأي تصريح أو تلميح قد يفهم منه، مــن هذا الطرف أو ذاك، أنه نوع من التهجم أو التطاول يخرج عن خانة الانتقاد المجرد لموقف، أو الرفض المشــروع لتوجه سياســي ما. وهنا لم يكن أحــد ليعترض على القناة الجزائرية، أو على أي وسيلة إعلام أخرى، أو يلومها إن هي عبّرت بشــكل غير الذي اختارته عن رفضها، أو معارضتها لبعض سياســات الجارة الغربية، من قبيــل خيار التطبيع مع الإســرائي­ليين، الذي لا يبدو حتى داخل المغرب نفســه، أن هناك منعا أو تعسفا على من يرفضونه. غير أن الأسلوب بشــكل خاص هو ما جعل كثيرا من المغاربة ينساقون وراء نظرية المؤامرة التي تســتهدفهم، ويرون أن الأمر لم يحصل علــى الإطلاق بشــكل عفــوي، أو اعتباطي، بــل يطالبون حكومتهم بأن تــرد بقوة على ما اعتبــروه إهانة وطنية، لا تمس فقط بشــخص ملكهم، بل ببلدهم كله، ذلك فتح الباب لشــتى التأويلات فموقع «هيســبريس» الإخباري المغربي، فســر الأمر على أنه «يأتي في ســياق حملة ممنهجة يقودها الإعلام الرســمي الجزائري، منذ نجاح المغــرب في تحرير معبر الكركرات الحدودي، وطرد جبهة البوليســا­ريو»، قبل أن يضيف بأن «حــدة الحملة العدائيــة زادت بعد اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بمغربية الصحراء».

ولكن لم تكن تلك المرة الأولى التي يشــعل فيها إعلاميون مــن البلدين من حيث يــدرون، أو لا يــدرون، فتيل العداء بين الجارتين، رغــم كل ما ظل يتردد بــن الحين والآخر من شعارات الأخوة الراســخة والعميقة بين الشعبين. والمؤلم حقا فــي ما يحصل منذ ســنوات بين المغــرب والجزائر هو ليس فقط أن الحــدود البرية بينهما لا تــزال ومنذ أكثر من عقديــن من الزمــن مغلقة بالكامــل، وأنهما لا يــزالان رغم تبــادل التمثيل الدبلوماسـ­ـي يعيشــان في شــبه قطيعة، جعلت أي تفكير في تطوير وتجســيم الروابط الإنســاني­ة والحضارية التي تجمعهما، أو تحقيــق تكامل إقليمي ضمن اتحــاد مغاربي، يبدو صعبا جدا، وربمــا غير واقعي بالمرة، بل في ما سيرســخ مســتقبلا في أذهان الأجيــال الجديدة، من صور ومشــاهد وانطباعات حول طبيعــة تلك العلاقة، خصوصا حول اختلاف وتباين لا مواقف القيادتين، بل حتى الشــعبين وعدائهما لبعضهما بعضا. لكن السؤال الكبير هو من باســتطاعت­ه أن يوقف الآن هذا الفيضان الإعلامي، ومن يمكنه أن يعيــد الأمور إلى مســارها الطبيعي أو يهدئ على الأقل من حدة الأجواء بين الشقيقين المغاربيين؟

لقد تبــادل ملك المغرب محمد الســادس ورئيس الجزائر عبــد المجيد تبون عبــارات الود أكثر من مــرة، وكان مرض الأخير نهاية العام الماضي مناســبة أعــرب خلالها العاهل المغربــي لنظيره الجزائــري، بعد ظهــوره الإعلامي الأول، في أعقاب الإعلان عن تماثله للشــفاء عــن عميق ارتياحه لتحسن صحته، ودعوته الله العلي القدير أن يعجل بشفائه وباســتعاد­ته كامل عافيتــه، وبأن يرزقه موفــور الصحة ويمتعه بطــول العمر، مثلما جاء في البرقية التي نشــرتها وكالة الأنباء الرســمية المغربية. ومــن جانبه فإن الرئيس الجزائري شدّد في حوار تلفزيوني الصيف الماضي على أنه «ليس لدينا اي مشــكل مع إخوتنــا المغاربة، ويبدو أنهم هم من لديهم مشــكلة معنا»، مؤكدا أنه «إذا كانت هناك مبادرة من الأخوة المغاربة لتجاوز التوتر ســنرحب بها بالتأكيد». وبغــض النظر عن حجــم الخلافات التي تجعــل كل واحد مــن القائدين ينتظر مــن الآخر أن يقدم هــو على الخطوة الأولى نحو الصلــح، فلا يبدو أنهما يرغبــان بالتصعيد أو يرتاحان للوضع الذي وصلته علاقــة بلديهما. ولأجل ذلك فإنه ســيكون من أضعف الإيمان أن يعطيــا الأوامر بوقف تلك الحملات على الفــور. ومن الواضــح أن امتناع المغرب حتــى الآن عن القيام بأي رد فعل شــعبوي، من قبيل ما دعا له البعض من ســحب الســفير، يجعل الأمل قائما في هدنة إعلامية حقيقيــة بين البلدين، لكن إن أمكــن الوصول لتلك الهدنة وثبتت، فهل ستتوقف الأمور حينها عند ذلك الحد؟ ما يأمله المغاربيون جميعا أن يكون ذلك فاتحة لصفحة جديدة بين الشــقيقين، خالية تماما من كل مظاهر العداء والشحناء المعهودة والممجوجة باستمرار.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom