Al-Quds Al-Arabi

السير والمذكرات واليوميات: دراسة فلسطين من أطرافها

- الناصرة ـ «القدس العربي» من وديع عواودة:

تؤكد مؤسسة الدراســات الفلسطينية على أهمية الســير والمذكرات واليوميــا­ت، وتعتبر الســيَر والكتب المندرجة ضمن حقل "الذاكرة"، ســواء الشــخصية لأفراد أو لأمكنة فلسطينية وجماعات، وثيقة ومصــدراً للتعبير عن الهوية الفلســطين­ية وإعادة بعثها، وحفظها وأرشفتها ودراسة فلسطين من أطرافها.

كما ترى المؤسسة بنقل هذه السيرّ والمذكرات كرواية كتابية بموازاة الرواية الشــفوية التي عمــل عليها عدد مــن الباحثين الفلســطين­يين، الذين وثّقوا جزءاً مهماً من الرواية الفلسطينية التــي كادت تندثــر بفعــل النكبة والشــتات والانكسار، وساهم هؤلاء الباحثون في تأطير منهجية دراســات التاريخ الاجتماعي والهوية والنكبة والفقدان والانتكاسا­ت والانتصارا­ت.

وبرأيها ســاهمت هذه المواد في إعادة بعث الحركة الوطنية الفلســطين­ية بعــد ما يقارب عقدين من النكبــة وفي حفظ الذاكرة الجماعية الفلسطينية والفردية، عبر تدوينها وتجسيدها في أعمال فنية وأدبية وتاريخية وغيرها.

وفي مقدمة هذا الملف الخاص يوضح الباحث في علم الاجتماع والدراسات الثقافية أحمد عز الدين أسعد، أن مؤسسة الدراسات الفلسطينية أصدرت مجموعة من الكتب التي تهتم بالســيَر واليوميات والتراجم وكتــب الذاكرة كمصادر لكتابــة التاريــخ الاجتماعــ­ي الفلســطين­ي. مشــيرا إلى ســليم تماري وعصام نصار وعدد آخر مــن الباحثين الذين وظفــوا كتب الذاكرة والســيَر واليوميات كمصدر لدراســة الحياة اليوميــة والتحولات الاجتماعية والسياســي­ة والاقتصادي­ة والحضارية في فلسطين.

كما أصدرت المؤسسة مجموعة من الدراسات

والكتــب التي نهلت مــن المذكــرات والتراجم وبنــت عليهــا، منها )دراســات فــي التاريخ الاجتماعــ­ي لبلاد الشــام: قراءات في الســيَر والســيَر الذاتية، عام الجراد: الحرب العظمى ومحو الماضي العثماني من فلسطين، وغيرها(. وانشــغلت مجلة "حوليات القــدس" )2003- 2014( ومحررها المرحوم سميح حمودة في هذا المضمار، وبرز عــدد من طلبته وزملائه المهتمين بالســيَر والمذكرات، ومنهم: بلال شــلش، علي موسى، وآخرون.

حقل الذاكرة الفلسطينية

كما يوضح أسعد أن مجموعة من المؤسسات عملت على الاهتمام بالرواية الشــفوية الذاتية والجماعية، وحوّلتها إلى رأســمال طباعي في حقل الذاكرة، كسيَر فردية جماعية للفلسطينيي­ن وقراهم، وخصوصاً العمل التأريخي المهم الذي أنجزه مركز دراسة وتوثيق المجتمع الفلسطيني التابع لجامعة بير زيت، ســواء سلسلة القرى الفلســطين­ية المدمرة أو سلســلة صفحات من الذاكرة الفلسطينية.

وبرزت في العقــود القليلة الماضية مجموعة من الاتجاهات الباحثة ودور النشر والمؤسسات المهتمــة بهذا النوع من الإنتاج المتعلق بالســيَر والمذكرات، أو ما يمكن وســمه بحقــل الذاكرة الفلســطين­ية بمعناها الواســع، مثل: مشروع ذاكرة فلسطين- المركز العربي لأبحاث ودراسة السياســات، وتوجهات الجمعية الفلسطينية لعلــم الاجتماع وعلم الإنســان لتوثيق تجربة علماء الاجتماع والإنسان في فلسطين، وجهود فردية وذاتية في كتابة السيَر الذاتية والمذكرات واليوميــا­ت، وأعلــن أخيــراً المركــز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية - مدى الكرمل في حيفا، عقد ورشــة متخصصة تحت عنوان "الصهيونيــ­ة والحركة الوطنية الفلســطين­ية: قــراءات في مذكرات المســتعمِر والمســتعمَر"، تبدأ في حزيران/ يونيو2021 ضمن مســارات ورشــاته المتخصصــة بدراســة الصهيونيــ­ة والاستعمار الاستيطاني والمقاومة الفلسطينية للاستعمار.

ويتابع "ســاهمت التجارب التــي خاضتها المؤسســات الفلســطين­ية وعدد من الباحثين في إعادة الالتفات من جديد إلى أهمية الســيَر والمذكرات وكتب الذاكــرة، وبرزت مجموعات بحثية ونقدية فلســطينية تســتند إلى السيَر والمذكرات واليوميات فــي أعمالها البحثية في حقول الاجتماع والتاريخ والسياســة والثقافة وغيرهــا"، منوهــا أن تلــك الأعمــال البحثية والمنهجيات ســاهمت في إعــادة الاعتبار إلى الفواعل الفلســطين­ية من الهوامــش، أو التي كانت في المركز وجرى تهميشها بفعل التحولات السياسية التي عصفت بالفلسطيني­ين وحركتهم الوطنية ومشروعهم النضالي التحرري.

وبــرأي أحمد عــز الدين أســعد، يســاهم هذا الملــف في الإضــاءة على عدد من الســيَر والمذكرات واليوميات والتراجم وكتب الذاكرة التي صدرت في الســنوات القليلة الماضية عن فلسطين والفلســطي­نيين، ســواء أكانت سيَراً ذاتية أو سيَراً غيرية وغيرها من كتب الذاكرة.

تجربتي مع أكرم زعيتر

وضمن هــذا الملف تقول هبة أمارة ) محررة وباحثة في مشــروع بحــث وتوثيق القضية الفلســطين­ية فــي المركــز العربــي للأبحاث ودراســة السياســات( عن تجربتها في هذا البــاب وعــن تعاملها مــع المــؤرخ والكاتب الصحافي والدبلوماس­ــي الفلسطيني الراحل أكرم زعيتر: "بعد لقاء مع ســليم تماري حول كتب الســيرة ذهبت يومها إلى البيت محمّلة بكمٍّ من الأسئلة، وخصوصاً، الإجابة عمّن هو أكرم زعيتــر. انكفأت أبحث عنه في الإنترنت، وقرأت عمّــن كان، وماذا عمِــل، وأي مناصب شــغِل. اســترجع الآن انبهــاري بــأن يكتب شــخص يومياته على مــدار 60 عامــاً ـ أكثر من ضعف عمــري حينها ـ وقــد وصلنا منها، فــي المركز العربي، ما لم يُنشــر من قبل، وهي يومياته بين سنتي 1949 و1984، بالإضافة إلى أوراقــه ومختاراته ووثائق أُخرى" ، موضحة أنه حين بدأت رحلــة العمل مع يوميات زعيتر زاد انبهارها بقــدرة اللغة والتوثيق، ووصف الأحداث السياسية بمختلف الأبعاد، وتداخل الشــخصي والسياســي والوجداني في نصٍ واحــد، نصٌ يفوق عــدد صفحاته عشــرات الآلاف، وكل ذلك بلغة فصيحة مبهرة شــائقة. وتقول أيضا إنها انبهرت بقــدرة الرجل على الكتابــة، كتابــة التفصيلات كلهــا، ووصف الأحــداث بدقــة، وتعزيزهــا بوثائــق، منها قصاصــات الصحــف أو المنشــورا­ت المهمة، وفيض ذلــك القلم. مســتذكرة أن زعيتر كان يكتب يومياته ـ بشــكل يومــي تقريباً ـ على أجندات ودفاتر يوميات ســنوية، كل يوم في تاريخه غالباً، وحين تفيض الأحداث ويســيل قلمــه، يقفز إلى صفحات فارغــة في أجندته، وعندما يصل حدود الصفحــة الممتلئة، يكتب ملاحظــة كأنــه كان يعــرف أنه ســيأتي من يتعقبه، بــأن: "التتمة في يــوم 16 حزيران"، ويروّس الصفحة المكملة بـ "يتبع 13 تشــرين الأول" مثلًا، وهكذا.

وتتابــع "سلســلة مــن أوراق الأجنــدات بتواريخ عديدة، تصف يومــاً حافلاً بأحداث أصرّ علــى أن يصفها زعيتر، فرســم خريطة لتعقّــب كتابته اليومية. هذه هــي اليوميات. العمل مع اليوميــات بشــكلها الطينيّ الخام شائق وشــاقٌ، إذ إن تعّقب خريطة زعيتر في دفاتره العديــدة، وجعل قصاصات من يومية معينة تتمم يومية أُخرى مــن أجندة مختلفة

ربما، كل ذلك بإشــارات الكاتب الفطِن الدقيق الذي لم تفارقه تلك الدقة على مدى عشــرات الدفاتر، وعشرات الأعوام، كان عملًا لا بد منه" .كذلك تقول عن تجربتها إنه في مرحلة أُخرى، بالتوازي مع طباعة كلمات مرســومة بخطّ لا يشبه بعضه على مدى الأعوام المتعددة، كان لا بد من فكّ خطّ زعيتر حين يكتب ساهراً في ليلة يصف نومه حينها "ما نمــت الليلة إلّا غرارا"، واصفاً أحداثاً رســمت العالم بشكله الحالي" ، منبهــة أن مقارنة الكلمات المرســومة، بتلك المطبوعة، وتركيب الجمــل وتحقيق الأحداث والأسماء وما يوصف، كان رحلة أُخرى لعمق ما ســيحوِّل"اليوميات الخام" إلى شكلٍ نهائيٍ في كتاب يحمل في طيّاته أحداثاً جساماً أثرت في كل عربي، في أي مكان في الدنيا، النكسة، أو ما خرج إلى النور بعنوان "سنوات الأزمة: يوميات أكرم زعيتــر، ‪-1970 1967‬"، واصفاً أشدّ سنين العرب وطأةً فيما سيكون لاحقاً" .

وتضيف "كمحــرّرة لنصّ كُتب على شــكل يوميات قبل نحو خمسين عاماً، انكشف أمامي ســيل من وثائق متعلّقة بأحداث جسام، كان لا بد من تحقيقها ومضاهاتهــ­ا وتحريرها. وهنا، لا بد من الإشــارة إلى أن التدخــل التحريري الأسلوبي في لغة زعيتر كان محدوداً، لفصاحة لســانه وقدرته اللغوية التي أغنــت من عمِل معها، حتى صار لدينا "قاموس زعيتر"نســتلّ منــه الكلمات متــى احتجنا إليها. تلــك اللغة السليمة، فرضت نفسها على سياسات تحريرية في تحرير نصــوص أُخرى، فــكان لزعيتر أن يبقي على ألفاظه ورســمها كما اختار من بحر لغتــه أن يكــون، فكانــت "رآســة الحكومة"، وليست رئاسة، وهي من "رأَس". اشتقاق سليم لغة، ظلّ أصيلاً في النــص" ، معتبرة أن المهمة الأكبر والأكثر تحدياً كانــت تحقيق ما ورد في اليوميات، وهي مهمة تطلّبــت بحثاً في وثائق موازية لمقارنة حدث ما ذُكر في اليوميات، بكتب

أو يوميات أُخــرى وصفت الحــدث من زاوية مختلفة.

كمــا تقول هبة أمارة إن العــودة إلى أربعين عاماً قبل زعيتــر، في الجزء من يومياته المذكور هنا، كانــت مع عــارف العارف رحلة شــائقة أُخرى. موضحة أن يوميات كُتبت في الفترة بين سنتي 1926 و1929، حين كان العارف سكرتيراً لحكومــة إمارة شــرق الأردن. نــصٌ تاريخي توثيقيّ، لمؤرخ وسياسي في منصب مهم، يكتب أحداثاً عكست علاقة إمارة شرق الأردن حينئذ، بحكومة الاســتعما­ر البريطاني في فلســطين وجنرالاتها. وبرأيها فــإن كتابة يومية من قلب الحــدث والموقف، وردة الفعــل عليهما، تعكس واقعاً ما كان ليُكتب بغير تسجيل يوميٍّ معايشٍ للأحــداث. وتتابع "هنــا تكمن أهميــة الكتابة اليوميــة التوثيقية، وخصوصاً لمســؤولين في مواقع حساســة من شأنها أن تكشــف أمامهم خبايا تعلِمنا، بعد عشــرات الأعــوام، عمّا كان في تلك الفترة. وهذا مــا كان مع قراءة يوميات عارف العــارف، المنشــورة مؤخراً فــي المركز العربي للأبحاث ودراســة السياسات، بعنوان " يوميات عارف العارف في إمارة شرق الأردن ( 1926-1929(، منوهــة أنه كما هي السياســة التحريريــ­ة للتعامل مع اليوميــات بنصوصها الأصيلة، كذلــك كان مع العــارف الذي طُبعت يومياته طباعــة آلية، ولم تصلنــا بخط يده، فكانت عمليــة المضاهاة أقل صعوبــة، مقارنة بحالة أكــرم زعيتر الذي كتــب يومياته بخط يده" . وتوضــح أن كتب العارف يومياته موثقاً ما مرّ عليه في منصبه، وما جرى حوله في إمارة شــرق الأردن، ذاكراً شــخصيات وأحداث كان لا بد من التوقف عندهــا، وتعريفها وتحقيقها، وتتبع الأحداث المذكورة بالعودة إلى الصحف الأساســية في تلك الفترة، مثل أرشيف جريدة "فلســطين" وما كُتــب فيها عن أحــداث دوّنها العارف.

 ??  ?? سير ذاتية فلسطينية
سير ذاتية فلسطينية
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom