Al-Quds Al-Arabi

«سنة الثلجة»... ذاكرة للوجع وللتأريخ في وعي الفلسطينيي­ن

- الناصرة ـ «القدس العربي» من وديع عواودة: «

صحيح أنه شــهر "شــباط " وإن "شــبط ولبط" فريحة الصيف فيه، لكن مراجعــة دفاتره التاريخية في فلســطين والمنطقة تظهر أنه شــهر الثلوج، وربما هناك تفســير لذلك يتعلــق بالمناخ وغيــره، وهذا ما شهدته البلاد أمس واليوم كما تتوقع الأرصاد الجوية الفلسطينية.

منذ أن بدأ تســجيل أحوال الطقس في فلســطين ســنويا عام 1860 شــهدت البلاد موجــة ثلجية غير مســبوقة في 9 فبراير 1920 وفيهــا غطت الثلوج كل البلاد من النقب إلى الجليل وفي الساحل الفلسطيني كما اللبناني، حيث تفيد شــهادات تاريخية أن الثلج تراكــم لارتفاع 10 ســم في يافــا على ســبيل المثال. وشــهدت البلاد في عام 1934 ثلجــة قوية، ولكنها لم تصل إلى ما وصلت إليه ثلجة 1950 في5 فبراير عندما غطت عاصفة قطبية البلاد وســوريا ولبنان والأردن بالأبيض بما في ذلك الساحل وصحراء النقب وعرف ذاك العام على لســان الناس بـ "سنة الثلجة" وهناك من اســتخدمها للتأريخ : ولد أو تزوج أو مات "ســنة الثلجة" أو قبلها أو بعدها الخ ، وهناك من أسمى بنات مولودات بـ "ثلجة".

وقــد عطلت الموجــة الثلجيــة فــي 1950 الحياة وافتقــدت مــواد تمويــن أساســية ووقعــت بعض الكوارث في البلاد وفي جوارها: في عدد من المخيمات الفلســطين­ية في الضفة الغربيــة وغزة والأردن مات العشرات بردا خاصة من الأطفال، وفي كيبوتس "عين شيمر" الإسرائيلي انهار سقف مبنى استخدم كصالة طعام بعد تراكــم 18 طنا من الثلج عليه مما تســبب بمقتل أربعة إســرائيلي­ين، أما أضرار الزراعة والبنى التحتية فكانــت كبيرة ومع ذلك بعث الثلج المســرة والابتهاج لدى كثيرين وقتها.

كذلك هطلت الثلوج عام 1992 في فبراير وتراكمت حتى تحطمت أغصان الأشــجار خاصة الزيتون بفعل تراكم الثلوج، فيمــا جاءت العاصفة الثلجية الأخيرة عام 2013 خلال ديسمبر/ كانون الأول.

ثلجة 1950

»

ويستذكر مؤرخون محليون أن بلاد الشام تأثرت يوم 7 فبراير 1950 بمنخفــض جوي مصحوب بكتلة هوائية شديدة البرودة قطبية المنشأ، تعتبر الأبرد في تاريخ بلاد الشام. وقتها تســاقطت وتراكمت الثلوج على جميــع المناطق التي يزيــد ارتفاعها عن 200 متر عن سطح البحر في بلاد الشــام بما فيها غور الأردن الشمالي وأجزاء من الأوســط، وامتد تساقط الثلوج على فترات الى منطقة البحر الميت التي يبلغ ارتفاعها 407 أمتار عن سطح البحر.

ويوضــح المؤرخ ابــن مدينة حيفــا دكتور جوني منصور لـ "القدس العربي" ان الثلوج في في العاصمة الأردنية عمّــان بلغت حوالى المتر، وفي مدينة القدس كان التراكم قرابة الـ 75 ســنتمترا. وفي مدينة حيفا على ســاحل المتوســط تراكمت الثلوج 50 سنتمترا. منوهــا أن هذه "الثلجة" تســببت بوفــاة حوالى 70 شــخصا بســبب البرد الشــديد في كل مــن الأردن وفلسطين.

ويُذّكر بأن هذه "الثلجة" تعرف بالثلجة الباردة في الأردن وفلسطين، واستمرت من أربعة أيام متواصلة وتجاوز ارتفاع الثلج المتر الواحد.

وعــن خصوصية "ثلجــة 1950" يضيــف جوني منصور "درجــت العادة فــي تقاليدنا الفلســطين­ية وتاريخنا الشــعبي على اعتماد حــدث مميز ليكون تاريخا مفصليــا نؤرخ ما قبله ومــا بعده وما حصل ووقع خلال العام. وها هي ســنة الثلجة في عام 1950 تتحــول لتكون هذا الحــدث المفصلــي، فيقولون في ســنة الثلجة حدث كذا وكذا، وفي ســنة الثلجة ولد فلان، وفي سنة الثلجة توفى فلان، وهكذا".كما يشير الى تقاليد تســمية العام بحدث بارز لها ســوابق في التراث الفلسطيني، إذ نجد أن الناس يؤرخون للنكبة باســتعمال­هم "ســنة الاحتلال" للدلالة على وقوعهم تحت الاحتلال الاسرائيلي في العام 1948 . ويسمون السنة التي انتشر فيها الجراد وأكل الأخضر واليابس بـ"سنة الجراد" .

أما بالنســبة لدرجــات الحرارة في أيــام الثلجة الكبيرة عام 1950 فكانت هــي الأخرى أقل من معدلها السنوي للفترة ذاتها بنسبة كبيرة، حيث هبطت إلى ثلاث درجات تحت الصفر في حيفا، وإلى تسع درجات تحت الصفر في صفد ومنطقتهــا، وإلى أربع درجات تحت الصفر في بئر السبع، ومن مشاهدها السريالية تحول المشــاهد الصحراوية الصفراء فــي النقب إلى منديل ناصع البياض، وهكــذا في منطقة البحر الميت ووداي عربة الصحراوية القاحلة والجافة التي تكاد لا تعرف الأمطار إلا القليل منها.

ثلوج في الساحل

ويســتذكر منصور أن الحيــاة العامة فــي حيفا وسواها من المدن الفلسطينية تعطلت بعدما تعرّضت إلى موجات متواصلة مــن الثلوج التي أخذت تتراكم بكميــات كبيــرة حتى أصبحــت الحركــة بطيئة في المدينــة. ويضيــف "إلا أن اليومين التاليــن للثلجة كانــا صعبــن للغاية بحيث أن شــللاً هائــاً أصاب المدينــة وانقطعــت الاتصالات والمواصــا­ت مع عدد كبير مــن الأحياء والحارات والبيوت والمؤسســا­ت. وأعلنت البلدية عن إغلاق كافة المدارس والمؤسسات التعليمية في المدينة. ولم تتمكن سيارات الخدمات من تقديم خدماتها في الأحياء". ووجهت البلدية نداء إلى كافة مواطني حيفا بالعمل مباشــرة على إزالة الثلوج المتراكمة فوق سطوح منازلهم منعًا لحدوث انهيارات والتسبب في الأذى والأضرار البشرية. وحصل نقص كبير في كميات المــواد الغذائية في المحلات التجارية والدكاكــن، خاصــة وأن الأفران وجــدت نقصا في كميــات الدقيق المطلوبــة لإنجاز كميــات من الخبز، ولم تتوفر بدائــل عن الخبز. أضف إلى ذلك أن طواقم البلدية مــن صيانة وإغاثة واجهت صعوبات جمّة في الوصول إلى المواطنين المحتاجين إلى مســاعدات على مختلف الأصعدة".

الطيور تحتمي بالبشر

ويوضح الدكتور أســعد بصول من بلدة الرينة في الجليل داخل أراضــي 48 والمقيم في الولايات المتحدة منذ عقــود، أن العاصفة الثلجية عــام 1950 أدت إلى نقص في الخبز والمؤن وأن الطيور البرية لجأت لمنازل الناس تنشد الدفء وتطلب القوت.

وتوضح إلهام شلابنة من مدينة عكا أن سنة الثلجة لها ذاكرة موجعة، منوهة أنها جــاءت بعد عامين من النكبة والتهجير حيث كان الكثير من الفلســطين­يين بلا مــأوى ولا بيت والبرد ينهش عظامهم كما روى لها والدها على مر الأيام. وتتابع "في قلبي شــعور بذاك البرد القاتل لا يفارقني رغم مرور 70 عاما" .

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom