Al-Quds Al-Arabi

فيلم «بالمر»: الاستعارات العاطفية لأمريكا الممزقة والمنقسمة

- ٭ كاتب من المغرب

■ فيلــم «بالمــر» Palmer() (110 دقائق/ 2021/ إنتاج أمريكي/ إخراج فيشــر ســتيفنز( جاســن تيمبرليــك، مغنــي الــروك، يتقمص دور «بالمــر» في عنــوان الفيلم نفســه، تربطه صداقة بطفل يدعى ســام، ابن جارة مدمنة على المخدرات تجمــع بينهما صداقة تتقوى شــيئا فشيئا. بالمر لاعب الوسط في المدرسة الثانوية، رجل قوي انتهى به المطاف إلى الســجن قضى فيه اثني عشــر عامًا. يبدأ الفيلــم عندما يعود إلى بلدته الجنوبية، ليعيش مع جدته، ســيدة صارمة ولكنها ســاحرة ومباركة )كما هو الحال دائما جون ســكويب( التي تعتني بالطفل سام عندما تغادر والدته بدون سابق إنذار، وبدون أن تذكر إلى أين أو كم من الوقت سيمضي.

عالم الدمى

يدور الفيلم حول مدان سابق يحب أن يصنع الخير لمســاعدة طفل لطيف. وهي حكاية قوية غالبًا ما تُروى، لكن إعادة تسخين بقايا الطعام، لا يمكــن أن يكون دائما وجبة شــهية وممتلئة، فعند الانتهاء منها من الصعب رؤية الهدف. لماذا يتكرر حكي هذه القصة ســينمائيا؟ «الأطفال لا يلعبــون بالدمى» هكذا يردد بالمــر بينما الطفل ســام يحب عالم اللعب بالدمى، ولا يشــكك في هذا الانتقال كثيــرا بين الذكوري والأنثوي. إنه كذلك اتحاد بين هاتين الشخصيتين داخله، وهذا التفاهم المتبادل بينهما وعدم التساؤل عن سبب اختلافهما. إنها الاســتعار­ة المثالية والعاطفية لأمريــكا اليــوم، الممزقــة والمنقســم­ة والمليئة بالكراهيــ­ة. يفاجــئ المخرج فيشــر ســتيفنز، المعروف بحياته المهنية كممثل ومخرج وثائقي، بهذه الدراما الاجتماعية التي تتبع جميع قواعد الأعمال المستقلة المنخفضة الميزانية، على الرغم من وجــود نجم مثــل جاســن تيمبرليك، لكن ستيفنز يحاول تصويرها بإلقاء نظرة فاحصة كصانــع أفلام وثائقية، عــن الواقع الاجتماعي بقليل مــن الدموع، وأكثرعزمــ­ا، ينجح أحيانًا، وينتصر في النهاية لإرادة الحياة.

الشخصيات المألوفة

يظهــر جوســتين تيمبرليك )بالمــر( بغيتار صوتي دافئ ولقطة بانورمية لأشــعة الشمس في الصبــاح الباكر في ريــف لويزيانا.. بلحية وبشكل منقبض يحدق من نافذة حافلة السجن، التي تعيده إلى مسقط رأســه في الجنوب بعد سنوات طويلة خلف القضبان. الفيلم دراما

عائليــة لطيفة عن الأشــخاص الذيــن يجدون قــوة البأس والمثابرة، رغم الظــروف المحبطة وفي أكثر من امتحان عســير ويتجاوزون الأزمة. هذا النوع من القصص ذات الميزانيات المتوسطة والبحث عن النهايــات الســعيدة. و«بالمــر» يفي بهذا الوعد. الفيلم طعام فني مريح غير متكلف يقدم نكهة كافية لإرضاء ذوق أي شــخص لديه هذا المذاق الفنــي للقصص الاجتماعية. يتحدى هذا الإصدار الأصلي الفنــي المتواضع كل التوقعات فقط من خلال التمســك بنقاط قوته المتمثلة في قوة الســرد البســيطة للقصة، وعدم محاولة تقديم أي شــيء أكثر مما هو معلن عنه. الحبكة متوقعة ولكنها محســوبة جيدا والشخصيات مألوفة ولكنها مليئة بالحياة والرابطة الأبوية، التي تتشكل بين الســجين السابق وصبي يبلغ من العمر ســبع ســنوات - تكون العلاقة مثل الجليد فــي البدايــة، ذوبان الجليــد يمر أمام أعيننا - يمنحك صــورة رائعة يمكن تصديقها لشــخصين منبوذيــن اجتماعيا لهما المشــاعر نفسها تجاه بعضهما بعضا.

ظلال الماضي ووخز الحاضر

يقضي بالمــر معظم الفيلم وهــو يتجول في ظلال ماض غير مرئي، ولكن هناك متعة متسقة في مشاهدته وهو يلعب ضد شهرته. بالمر هو

نجم كرة قدم ســابق في المدرســة الثانوية، ســارت حياته بشــكل جانبي بعد خروجه من السجن )نص شــيريل جويريرو بشكل طبيعي يبقينا في الظلام بشــأن تفاصيل الشــخصية المركزية لفترة طويلة ويضع كل شيء في حبكة الفيلم على الطاولة، وفي اللحظة المناســبة عبر فترات ســردية متقطعة.. الخروج من السجن.. موت الجدة.. عودة أم الطفل الجونكية(. يطرح الفيلم مسألة شــهرة بالمر السابقة وكيف يطارد إمكاناته في الحاضر.

إنه الحال نفســه بالنســبة لمعظــم الناس في بلدتــه ذات الدخل المنخفض فــي لويزيانا، حيــث الفقر عملة رائجة. لا يريد المخرج فيشــر ســتيفنز أن يزعجنــا بالحديث عــن تفاصيل البؤس، بعد سلسلة من الأفلام الوثائقية حول النجــوم الباهتــة وكوكبنا المدمــر لينتقل إلى الفيلــم الروائــي، لكن جيران بالمــر وفي قبالة منزله ترتكن مقصورة مثقلة بالتفكك الأســري وبالمخدرات وبالفقر وبالتمزق، وهي صورة عما تعيشه أمريكا من تصدع اجتماعي.

ينتقل بالمر، القليل الكلام والمؤدب للعيش مع جدته فيفيان التي تذهب إلى الكنيســة )جون ســكويب التي لا تقهر( بدلاً من أي شــيء آخر يفعله أو في أي مكان آخــر للذهاب إليه. رفاقه القدامى - أولئك الذين لــم يتم القبض عليهم، ولم يزوره مطلقًا في السجن ـ يبدو أنهم سعداء

بما فيــه الكفايــة لأنهم في الخــارج، ولكن هنــاك شــعور واضح بــأن بالمر يعكــس أكبر أخطاء المجتمع وهوامشــه وأخطاء الجميع في مواجهتهــم، ويفضل معظم النــاس في البلدة النظــر في الاتجاه الآخر. يجد نفســه في حالة أفضــل بكثير مــع الغرباء.. غرباء مثل شــيلي )لعبت دورها جونو تمبل( مدمنة الميثامفيت­امين، التي تعيش في مقطورة في حديقة منزل فيفيان. نجد أنفسنا أننا أمام دراما للبالغين حول مشاكل أمريكية حقيقية وهي تمزج هذا التفكك الأسري والفقر بلغة السينما...ومحاولة المخرج التركيز على قصة الطفل الصغير واللطيف في المشــهد التالي للتقليل من حدة هذه المشاكل المفزعة.

الفرصة الثانية

إدي بالمر هو بطل ســابق في مســقط رأسه ولكن مســيرته الكروية انتهــت بعد عام واحد فقط من الكرة الجامعية. أدت اختياراته السيئة وضعف مسكنات الألم إلى دخوله السجن، لكنه قضى وقته بدون شكوى. لم يعد إيدي بالمر كما كان، لاعــب كرة قدم جامعيا واعدا ومشــهورا، ويجمع سلوكه بين مرارة الســنوات الضائعة والحزن الدفين، الذي ينزف من كل مســامه. إن البحث عن وظيفة مع العيش في منزل جدته من

أبيه هو بلا شــك عودة إلــى المربع الأول. يمكن النظر إليه من زاوية أخــرى أن الوضع الجديد يمثل فرصة لإعــادة التخلص من ظلال الماضي. إنهــا الفرصة الثانية التي يبحــث عنها ويمكن للحياة أن تقدمها له في سبيل الخلاص المحتمل من الماضي كعائــق وعثرات نفســية. لا يرغب بالمر في أن يكــون مثقلا برعايــة الأطفال ربما يشعر بالاشمئزاز قليلاً من هذا الطفل على وجه الخصوص الذي يرتدي المشابك ويلعب بالدمى، ويشــاهد الأميرات. ســأله بالمر في وقت مبكر: «أنت تعرف أنــك ولد، أليس كذلك؟» «الأطفال لا يلعبون الدمــى؟» لكن رؤية الآخرين يضايقون الطفل يجعله يتدخل لتســتقيم هــذه العلاقة/ الصداقة بينهما.

بالمر ليس شــخصية جذابة، لكنه يشعر بأنه حقيقــي بما يكفــي للقتال من أجل ســام عندما يحين الوقت، ســواء على المســتوى الجسدي فــي مواجهــة المتنمرين، أو حينما لا يســتطيع الصبي ذلك، أو على المســتوى القانوني بمجرد ظهــور التحدي المطلوب لحضانته. يبلغ ســام ) أدى دوره الطفــل رايدر ألين( من العمر ســبع ســنوات دينامكــي يلعــب بالدمــى، ويرتدي الأبازيم، ويشــاهد برنامجًــا تلفزيونيًا تقطنه أميرات من جميع الأسماء والألوان، وهو صبي يشعر براحة أكبر في اللعب بالألعاب المخصصة تقليديًا للفتيات. يشــعر بأنه منبوذ في المدرسة والمنزل. صديقته الوحيدة هــي زميلة له وهي ضحيــة دائمة للتنمــر. يتمتع بحــس مرهف. يســتغرق نــص ‪Cheryl Guerriero‬ وقتًا لبناء تلك العلاقة ووقتا للتحول السردي، وهي تنتقل من التعايش القسري )النظرات المتبادلة / موت الجدة/ طريقة الأكل/ الذهاب للمدرســة/ الحديث المتبادل( والتفاعل العاطفي من جانب الكبار إلــى الفهم، وفــي النهاية إلــى ارتباط مفترض ووثيق بين الأب والابن.

البعد السياسي

يؤكــد المخرج ســتيفنز أن «بالمــر» فيلم عن إمكانية اجتماع البشــر معًا في أوقات سياسية معقدة. ليس من قبيل المصادفة أن القصة تحدث في جنوب الولايات المتحدة، في مجتمع صغير لا يؤثر إلا قليلاً في الاختلافات من أي نوع. يجلب الفيلم النوايا الحسنة ورسالة التسامح بطريقة خفية بشكل عام.

هنا يمكــن أن نتحدث عن شــخصية معلمة ســام الجميلة والمطلقة الآنســة ماجي )أليشا وينرايت( التي تطوعت بمســاعدته في رعاية الطفــل، واهتمامها كذلــك ببالمــر حينما تضع حداً للتنمر في نهاية المطــاف في الفصل، خلال احتفالات الهالوين عنــد وصولها مرتدية بذلة رجاليــة، وشــاربا طويلا في مشــهد مضحك. وكذلك علاقتهــا العاطفية مع بالمر ومســاندته والوقوف إلى جانبــه، بدون النظر إلى تاريخه الماضي والعنيف. يركز المخرج على المعلمة التي تتســلل إلى الأحداث بطريقة دافئة وبســيطة بالوعي الذي تحمله كأســتاذة مرموقة، ترتبط عاطفيا ببالمر الذي يشــتغل منظفا وبوابا داخل المدرسة، والحريص على اســتئناف حياته من جديد، وينظر إليه الجميع بنوع من الريبة.

ضيق المكان

البلدة التي عــاد إليها بالمر ليســت جاهزة تماماً لاستقباله، وسرعان ما تتلاشى نوايا بالمر الحســنة بين نوبات الشرب والجنس. بلدة من المتنمرين، ســواء في فناء المدرســة، أو في نقل الإشــاعات وتردديها داخل الحانــات. يضيق المكان بأهله ســواء في المقصــورة، حيث يفرغ بالمر من الجنس ويخرج منها أو في الكنيســة أو في الحانة. في بلدة يظهر فيها تتناقض وفظاظة المخادعين من الأصدقاء. يبدو المكان الأكثر أمانا هو المدرسة.. بالمر يفهم حدود إمكانياته يشتغل بواب مدرســة، وهي الوظيفة الوحيدة المتاحة في البلدة التي يمكنه الإمســاك بهــا. في نهاية الفيلم يمنحه الســيد الذي يشتغل معه مفاتيح المدرسة عربونا عن الثقة التي استحقها.

يظهــر فصل بــن بالمر وســام، حيث يجري الصبي خلف الســيارة ملتصقا بهــا ببكاء مرّ، عندما تأتي تلك اللحظة، يعلم المشاهد بإمكانية المودة العميقة بين الشخصيتين.

«بالمــر» درامــا عائلية تمنح علاجا نفســيا واجتماعيا مفاده، أنــه في ظل الأوضاع المعقدة يمكن انتشــال الطفل على الأقل مــن بيئة الفقر والمخــدرا­ت، وهذا ما يحمله المشــهد الأخير في الفيلم فــي ترك المقصــورة والمنــزل والفقر... والركوب في السيارة في إشــارة للانتقال إلى مكان آخر بديل. عبدالله الساورة

 ??  ?? لقطة من الفيلم
لقطة من الفيلم
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom