Al-Quds Al-Arabi

أيام كانت الحجارة تنمو وتعشق

-

■ قبل أن تُكتشف المعادن وتستخرج من باطن الأرض، بدأ البشــر القدماء يصنعون أدواتهم من الشــهب. وهذه، لكونها تسقط من الســماء، فهي إذن مشــبعة بالقدســية. أما الأســماء، أو الصفــات التي أعطيت لها، فتظهــر كيف أن مــا هو مــادي صلب يمكن أن يســتولَد ممــا هــو ليّــن أو أثيــري. تلــك الكتــل المعدنية ســمّيت «حجــارة البرق» أو «أســنان البرق» بما يدفع إلى اســتخلاص متعجّل هو أن المجاز، في أصله، متناسل من الرؤية البدائية للعالم الموحّدة للعناصر غير المتجانســ­ة. بعض هذه النيــازك كان يصنع ليكون ســاحا، وهذا ســيضيف اسما آخر إلى ذلك المعدن السماوي: «فأس الرب». لكــن ذلك لم يُخــرج، رغم كونه ســاحا، من قدســيته. كل شــيء كان مقدسا في البدايــة، حتــى «عصــر الحديــد» أو مــا يسميه مرســيا إلياد «العصر الصناعي للحديد» أفضــى إلــى إبداعــات روحيــة، قبــل أن يفرض نفســه في التاريخ القتالي، أو العســكري، فقبل «أن تغدو العربة وســيلة للنقل، كانت هي مركبة التطواف الطقوسية».

ولا حصــر للأمثلــة التــي أوردهــا الكاتــب حــول إصــرار المقدّس والطقوســي علــى البقاء. فالمشــتغل­ون بالحديد هم مقدّســون أيضا، وفي حقــب ومجتمعــات كثيــرة، كان لهــؤلاء مكانــة تصوّرهــم مــن طبيعــة فــوق بشــرية، ذاك أنهم يغيّرون الأشــياء عن هيئتها الأولى، يشــترك في ذاك الخلــق، المعدّنــون والخزافون والمشــتغل­ون بالطــن والمليّنــون المواد القاســية بالنــار، فكان الحدّاد «العنصر الأساســي في نشــر الأساطير والطقوس والرموز».

أما المعــادن فتتكون فــي باطــن الأرض مثلما يتكــون الجنــن في بطــن أمــه.. هي تنمــو، مثل الأشجار ذات الجذور، وهي تعود إلى الولادة من جديد، بعد أن تُترك لترتاح بعد أن أولدَت، أي بعد أن اســتُخرجت فلزات منها في عمليات التعدين: «كل ما فوق الأرض يجتهد ليلد شيئا ما، كذلك ما هو كامن في باطن الأرض ورحمها، يجتهد أيضا لينتج».

التعديــن «خلق لدى الإنســان شــعورا بالثقة وحتى بالغرور» فالمعدّن، باشــتغاله على المعادن والخامــات الأرضيــة، وجــد نفســه قــادرا على مشــاركة الطبيعــة صنيعهــا: «كمــا نعــدّ الخبز، يمكننا أيضــا إعداد الفلزات، مــن دوننا لا القمح يصيــر طحينا بدون أحجار الرحــى، ولا الطحين يصير خبزا بدون تخميــره وخَبْزه». أما الإنجاز الأهم فهو أن يقوم البشــر بما يقوم به الزمن، أي تســريع ما تفعله الطبيعة. فالمعادن السامية مثل الذهب هــي في أصلها مثل الحديد أو الرصاص، تنتظــر الزمــن لكي ينضجهــا لكي تصيــر ذهبا، بين ما يســعى إليه الخيميائيـ­ـون، في محاولتهم تحويــل المعــادن إلــى ذهــب، هــو أن يســاعدوا الطبيعــة على الإســراع فــي إنجاز ما ســتنجزه بنفسها في النهاية،

سواء فوق الأرض أو تحتها، «العالم مجنسن» كما يعنون مرسيا إلياد، أحد فصول كتابه، وهو ينقل عن ابن وحشية قوله، إن تطعيم الأشجار لا ينجح إلا إن رافقه تمثيل سحري قوامه أن يجامع رجل امــرأة، فــي ممارســة فعليــة، بالترافق مع إدخــال الغصن الجديد إلى تحت لحاء الشــجرة المعدّة للتطعيم. وفي رؤية العالم مجنســناً أجرى القدماء توزعا جنســيا لكل شــيء، بمــا في ذلك الحجارة والمعــادن، بين ذكري وأنثــوي. أما في الفــارق بــن الذكــورة والأنوثة، فيســتعين إلياد بنــص أشــوري )كمــا بنصــوص أخــرى قديمة وحديثــة( يذكــر فيــه أن الأحجــار المذكــرة ذات ألــوان أكثــر حيوية، فيمــا الأحجــار المؤنثة أكثر شــحوبا. العالــم إذن، بكل شــيء فيــه، متفاعل جنسانيا. وبين من يستشهد بهم الكاتب العارف والصوفــي العربــي ابن ســينا، الــذي كتب «إن المعادن والنباتات والحيوانات مجبولة على ذاك التواصل )الجنســي( بالفطرة، وهو منقوش في ذاتهــا وماهيتهــا، كمــا أن معنــاه )التواصل( لا يمكن سبره أو اكتناهه».

يرى إلياد أنــه ينبغي البحث عن أصول مذهب الخيميائيي­ن، الفريد من نوعــه. لا يكفي أن يُرجَع ذلــك إلى رغبتهم في تقليد الذهب ولا، في تواريخ لحقت، إلــى معانــدة التقنيــة العلميــة اليونانية ورفضهــا. «إن اللقــاء مع الرمزيات والأســاطي­ر وتقنيــات العاملــن بالتعديــن والصناعــة والحــدادة، هــو الذي أتــاح الفرصة ربمــا لأولى العمليــات الخيميائية، في الواقع إن وجود حياة معقــدة ودراميــة للمــادة هو مــا يشــكل أصالة الخيمياء مقارنة بالعلوم الكلاسيكية اليونانية».

بالطبع يرفض مرســيا إلياد فكرة أن الكيمياء علــم مطوّرعــن الكيميــاء، وذلــك لصدورهما عن تصوريــن متناقضين لطبيعة العالــم. فالخيمياء ليســت علما لعزل العناصر، أو للبحث في وحدة أبعــاض منها، كما الكيمياء، بــل هي إبقاء الكون متصلا وحيا وقدسيا في الوقت نفسه. لا حصر للنصوص والوثائق التي جمعها الكاتب لتحقيق كتابــه، وهــذه تعــود إلــى أزمنة قديمــة وأخرى حاضرة، كما إلى مجتمعــات كانت متواجدة في قــارات عدة. وفــي الفصــول الأخيرة مــن كتابه عقد مقارنات بين زمــن الخيميائيي­ن ومجتمعاتنا الراهنة، التي أسقطت ذلك الاتحاد العضوي بين البشر ومحيطهم الطبيعي، والمواد التي يصنعون منها أدواتهم وأسلحتهم.

«حدادون وخيميائيــ­ون» كتاب ممتع للقراءة، مدهــش فــي أخــذه قارئــه إلــى حيــاة الأقدمين ومعتقداتهم.

*«حــدادون وخيميائيــ­ون» كتــاب عالم الأديــان الرومانــي مرســيا اليــاد نقله إلى العربية محمد ناصر الدين لدار «الرافدين» في 278 صفحة ـ سنة 2019

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom