Al-Quds Al-Arabi

ابن خلدون والنظام السلطوي العربي

- *كاتب وأكاديمي جزائري

مــازال فكر ابن خلــدون حاضرا في حياتنــا السياســية والثقافيــ­ة، ما دام النظام العربي لم يبرح بعد منطقة الحكم السلطوي، وهي الوضعية التي صُنِّف فيها مؤخرا. لا يزال فكر ابن خلدون يلاحق النظام السياسي العربي، ما دام لم يخرج من الحالة الديكتاتور­ية والتســلطي­ة التي هو عليها منذ عصر النهضة العربية الحديثة والمعاصرة. فقد امتد الزمن المعاصر، وطــال أكثر مما يجب، لكي يوفر إمكانية إعادة الدولة العربية إلى الوضع اللائق بها، كما فعل العديد من دول العالم الغربي منه وغير الغربي.

فقد تطورت الأوضاع فــي مجتمعنا الدولــي بالقدر الذي احتاجت إلى إعادة التفكير في قضايــا التقدم والتأخر، وفق إشكاليات متجددة تتماشي والوعي العالمي الجديد. فإشكالية التقدم والتأخر على ما ألفناه في العالم العربي، وكما جاء في كتاب المفكر والمناضل القومي شــكيب أرسلان، في ثلاثينيات القرن الماضــي، «لماذا تخلف العرب وتقــدم غيرهم؟» لم تعد إشــكالية إجرائية، صالحة كمشــروع لتنميــة مجتمع وبناء دولة، لأن القضية بذاتها انتهت مع نهاية ســياقها التاريخي، الــذي يعد المحيط والصلــب في الوقت ذاتــه، الذي يجب أن تعالج فيه مســألة بناء الدولة ورسوخها كمؤسسة عمومية لا تقبل الاستئثار والاستغلال.

واليــوم، نحاول أن نقــرأ ونعيد قراءة ابــن خلدون لهذا الســبب والغرض بالذات، أي لوجود مشكلة في نظام الحكم العربــي الحديــث والمعاصــر.. ولعلّنا لا نغالــي ولا نجانب الصــواب، إذا قلنــا إن الثورات العربية القائمــة في غير بلد عربي، تستدعي بالضرورة والحَتم، مسألة العصبية، فقد آلت

أوضاع العرب إلى التفكك والانهيار والدمار والخراب، بسبب طول مكوث العائلة في الحكم، في ســياق تاريخي لا يحفل إلا بالتحديث والتجديد، وإعادة التفعيل والتطوير المتواصل، في عهد ازدهار قيم الديمقراطي­ة ومبادئها. وعند فتح أفق التفكير في نظريــة العصبية، نجد ابن خلدون يربطها بالعمران، على اعتبار أن الجماعــة الحاكمة هي التي تشــيِّد العمران، وهي أيضا التي تدمِّره، وحالا إذا تبرز إشكالية الدولة ومؤسساتها وبناء واستقرار المدن وعالم الريف ونوعية التنمية، التي تعد الأساس الصلد، الذي تستقر عليه الدولة في مدلولها الحديث والمعاصر. وهكذا، فإن نظريــة العصبية، أو الجماعة الحاكمة بحكم القرابة، أو الدين، أو القبيلة والجهة، هي التي استدعت في الحالة العربية القائمة اليوم فكر ابن خلدون، والســياق الذي ظهر فيه، وإجــراء المقارنة بين الحالتين، خاصة التوكيد على اللحظة المؤذنة بزوال أنظمة الحكم السلطوية المستبدة، وفشلها الذريع في محاولة توريث حكم جمهوري، والاحتفاظ به كملــك لعائلة الرئيس. وهذا لعمري يقع على طرف مناقض تماما لمنطــق التاريخ، وطبائــع العمران كمــا يوضحها ابن خلــدون على النحــو التالي: «هــي تبدل الأحــوال في الأمم والأجيال، بتبدل الأعصار ومرور الأيــام .. لأن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونِحَلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفــاق والأقطار والأزمنة والدول: ســنَّة الله التي تدخلت في عباده». في هــذه الفقرة توكيد واضح يصل إلى حد النظرية في التاريخ، عندما تشــير إلى مســألة تغير الأحوال والســياقا­ت والأزمنة، التي تحث على ضرورة تغير طريقة الحكــم، ونظام الإدارة والقيــادة، وهذا جانب يؤكده تاريخ النظــام العربي الحديث والمعاصــر، أما الجانب الآخر الــذي أكد عليه ابن خلــدون، فإن إشــكالية الريف والحضر يجــب أن تتم من خلال الدولة وليس «ترييف الدولة »، بمعنى أن الدولــة تقوم في الحضــر، وتواصل تطورهــا في المدينة ومنهــا، إلى مجموعة مــن المدن ضمن نظام حكــم واحد، إلى التجمعات البشرية والمؤسســا­تية الكبرى على ما تشهد على ذلك الدول الحديثــة. وعند مطابقة فكرة ابــن خلدون حول الريف والحضر، أو عند معاينة عملية الانتقال، التي يجب أن تجري عبر الدولة ذات الخاصية النزيهة والبعيدة عن الريف وأجوائــه، نقول إن الحالة العربية الراهنة وما يســودها من ثورات وانقلابات، وإخفاق في نظام الحكم، يعزى بالأســاس إلى عدم الحسم في مسألة الانتقال من الذهنية البدوية وعالم الريف إلى المدينة والمدَنِيّة وقِيَمها الحضارية والإنســان­ية، بل كل ما تم أن الحاكم وحاشيته القادمة من عالم الريف، واصلت الحكم بما تملك من القدرة على البطش وانعدام أخلاق المدينة وسلاستها، وعاندت في السلطة إلى حد الانهيار التام.

في مثل ذات الســياق الذي يمر به العالــم العربي اليوم، كتب ابن خلدون كتابه المعروف «المقدمة»، القرن الرابع عشر، وأراده أن يكون معاينة وكشفاً لأسباب تردي الوضع العربي والإســامي العام. فهو الشــاهد على أفول حضارة الإسلام وعلومه، وعلى تقهقر المجتمعــا­ت العربية إن في بلاد المغرب أو المشــرق. وبالجملة، وعبر التحليل والنقد، ينتهي صاحب المقدمة، إلى أن استسلام الجماعة الحاكمة إلى الدّعة والتَّرف يفضــي لا محالة إلى الزوال والفناء، وهذا ما يقع، مع اختلاف العصرين، وتفاوتهمــ­ا الحضاري اليوم، فــي البلاد العربية

من انهيار متلاحق لأنظمة عربية ســلطوية تصلبت وتكلست فيها شــرايين العصبية في الحكَّام لعقود مــن الزمن، إلى حد المواجهة المباشرة مع شــعوبها. عند شرحه لنظرية العصبية في صِلتها بالحكم والدولة، يولي ابن خلدون، بعد مسح نقدي ومعايشة واقعية، مســألة «العصبية»، العناية التي تستحق لفهم أسباب صعود وســقوط الدول والعائلات الحاكمة. فإذا تولت جماعة الحكم والقيادة على أساس من التمَكُّن والسؤدد والقوة، اســتطاعت أن تشَيَّد الُملك والســلطة والدولة، إلا أن العصبية ذاتها إذا طالها الفســاد وانتابها التَّصلب ســتؤول إلــى زوال حتما، وهذا مــا يجري في عالمنــا المعاصر، على ما نشــهد من ثورات تعصف بأنظمة حكم ســلطوية، هي ذاتها التي تولت الحكم ما بعد الاســتقلا­ل على أســاس من التَّمَكن والغلبة والشــدة، ســواء حيال القوى الرجعية الداخلية أو الاســتعما­ر ومخلفاته على صعيد الحياة الدولية. ولمزيد من التوضيح، نقول إن تعليق مسألة الحكم على العصبية، سواء عند ممارســة السلطة لترسيخ الســيادة وازدهار الدولة، أو عند فســاد العصبية واضمحلالها، فإن الشــاهد القوي على هذه النظرية، هو واقعنــا الراهن الذي أكد حقيقة أن التمادي فــي الحكم والعناد فيــه، رغم تبدل وتغيــر الأحوال، يفضي قطعــا إلى الفناء والــزوال. الحقيقة التي لا يمــارى فيها أحد هي أن العصبية مفتاح واقعي وعلمي لكشــف وتحليل أسباب التراجع العربي المعاصر، على أساس أن الحكم اقترن بالعائلة والقرابة، وعِصابة الحزب والجهة والســالة.. وكأن الوضع السياسي لا يزال على حاله منذ عصر ابن خلدون.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom