Al-Quds Al-Arabi

فلسطين كما يراها مريد البرغوثي: من يجرؤ على تجريدها الآن وقد تجلّت جسدا أمام الحواس؟

- ٭ كاتب أردني فلسطيني

■ مع رحيل الشّــاعر والكاتب الفلســطين­ي مريــد البرغوثي، يفقد الخطاب الفلســطين­ي صوتاً حقيقياً، إذ تبدو تجربته الإبداعية جزءاً من خطاب جيل المبدعين الفلســطين­يين، الذين عاينوا محطات معنى انتزاع الوطن، والتطويح بهذا الوجود إلى مسارات الاغتراب والمنفى والمقاومة. ومع كل رحيل لصوت فلســطيني تبدو مُعاينة تجارب، كالنكبة والنكسة والاقتلاع عامة أشـّـد صعوبة، ولاسيما حين تفقد رافداً خطابياً تأمل هذه التجربة التي تصاغ في جزء كبير منها، على التذكر واســتدعاء الحدث، كمــا قراءة الأثر، مــا يعني أنّ ثمــة قيمة مضاعفة للنتاجــات الإبداعية الفلســطين­ية كافة، التي تتصل بالأجيال التــي واجهت لحظة الارتطام التاريخي لتكوين فلســطين، وتفتتها مادياً، وخطابياً، ومعنوياً، وهكذا يبدو سفر البرغوثي «رأيت رام الله» الأكثر تجذّراً في وعي الفلسطينيي­ن والعــرب، فهو صيغة لا تحتمــل تخصيص الذاتي، أو الأنــا التي تتولى تكوين اللغــة بوصفها تحيل إلى مريد - وهو يعايــن مدينته رام الله ـ إنما هي محاولــة لتكوين وعي الفلســطين­ي، وذاك الجيــل الذي وجد فلسطينه، وفقدها، وحين يقول رام الله، فإن ذلك يتجاوز التجزئة ضمن مجاز مرسل، لتمسي فلسطين التاريخية برمتها، وحين يعبر الجسر فإنه يمضي من حدود الخارج إلى الداخل مسكوناً بوعي الجمع.

المعنى الآخر للعودة

إن قيمة كتاب «رأيت رام الله» تبدو متّصلة بنزعة جدلية، كونها تحتمل القدرة على بناء متوالية بصرية وشعوريّة لجيل البرغوثي، ولكن الأهم أنها تجسّد مشــهد اللقاء مع أرض غابت عن أنظارهم، فحضرت خطابياً أو جزئياً على المســتوى المادي، ومع ذلك ففلســطين غائبة لدى أجيال، ربما لن يمتلكوا يوماً هذه الفرصة فــي رؤيتها. ولا يمكن لنا نحن الذين رأينا النور خارج فلســطين، إلا أن نعلق في خطابات هؤلاء الذين فقدوا فلســطينهم، وعادوا إليها، ويمكن القول بأننا نعلق أيضاً في مشاعرهم، وعواطفهم، وذواتهم، على الرغم من نمط تعلقهم بفلســطين، الذي يبدو أقرب إلى أنماط الخســران، حيث تبدو اللغة مثقلة بالحنين، والأســى. وهذا ما كان يحذّر منــه مريد البرغوثي، الذي اســتمعت إليه في ندوة خاصة أقيمت في جامعة جورج تاون في الدوحة، حينها بدا رافضاً لهذه اللغة التي يغرقها ضباب الحزن، أو تلك التي تتوشح بقتامة غير مبررة، وكأنها لا تقتل الأمل في دواخل جيلهم وحســب، إنمــا في وعي الأجيال القادمة، ولاســيما تلك التي لم تعرف فلسطين إلا عبر المتخيل الإنشائي، ولعل هذا يصدق حــن قرأت قبل أيام منشــوراً للصديق خالد الحروب يتحدث فيه عن نص أرســله لمريد بعنوان «وأنا رأيت بيت لحم يا مريد» وما كان من رد الشــاعر الراحل، الذي رأى أن نتخفف من صيغ الحزن، وأن نضاعف من الأمل، وهكذا يمكن أن نلمــح أن مؤلف «رأيت رام الله» ينطلق من إدراك للمســتوى النفســي، الذي يمكن أن يمارس أثراً سلبياً في تعميق أو تأكيد المســتحيل، لقد كان مريد البرغوثي متفائلاً، وعميقاً، وصادماً في الآن ذاته.

لا يمكــن أن نعدّ صيغ تلك الكتابات التي تبحــث في معنى العودة، إلا نصاً يتجدّل في وعــي المكوّن الأعظم للمروية الفلســطين­ية، وهي تبدو شــديدة التباين، على مستوى المنظور، ولكنها ربما تعلق أحياناً في الحزن، وتؤطرها ظلال داكنة من التشــاؤم، تغرق في بناء صورة فلســطين المتخيلة، بوصفها الفردوس المفقود؛ فنخلع عليها تكوينات مثالية تمارس دوراً إغوائياً، غيــر أن هذا الاندفاع للمتخيل في أقصى حدوده، يبدو مبرراً، إذ إن تعلقنا بفلســطين تعلــق يتصل بالوجود، فهو لا يســتجيب فقط لنزعات عاطفية، إنما إلى ذاك الحق الساكن في دواخل كل إنســان، أو كل شــخص في العالم يؤمن بأن الحق مقدس، وبأن التســامح يبدو ترفاً حين لا يرتبط باستعادة الحق؛ على الرغم من أننا لســنا مثاليين بالمطلق، ولا توجد أرض أو وطن مثالي بالمطلق، وهكذا أستعيد رواية ســحر خليفة «الميراث» وهي تعكس إحدى صيغ هذه المعضلة باقتدار لافت.

إن عودة إدوارد ســعيد ومحمود درويش ومريد البرغوثي، تكمن فــي اللغة التي تبقى فــي تموجاتها وترددها لتمسّ الفلســطين­ي، ولا أعني ذاك الذي يمكث في الحاضر، إنما ذلك الذي ســيأتي من بعيد أو ذلك القائم في المســتقبل؛ ولهذا تتخذ هذه الخطابات صيغة مضاعفة في تشكيل صورة للذات الفلســطين­ية، التي شهدت الانكسار، والأهم أنها تخلق فلســطين الواقع، تلك التي بدت في كامل بهائها، وتناقضها. إننا مسكونون بوصفنا شعباً فلســطينيا بنزعتين على طرفي نقيض، فهناك من يسقط بالتشاؤم الكلي، وهناك من يبقى حاملاً للتفاؤل، وكلا التوجهين يقسوان على ذاتهما، على الرغم من محاولات نفي المرارة عبر بناء متخيل يتصل بتضخيم الذات الفلسطينية. إنها تلك الصيغة التي في ظني رغب مريد في تجاوزها؛ أي بأن نكون كما نحن )عاديون( وأن تكون فلسطين هي الوطن، إذ لا يمكن لنا أن نجعل اللغة شديدة التوتر، حين نعبر عن الحــزن، أو الفرح، أو الحنين، وأن نبقى في وعينا القائم على الحفر في الوجود، بكل ما امتلكنا من قوة، ربما لا أمتلك قدرة على

وصف كتاب البرغوثي، كما فعل إدوارد سعيد حين أدرك هذا المزيج من الحزن والعاطفة، الــذي يأتي بالتجاور مع أفق واضح للرؤية يتجاوز صخب اللغة، كما علّق في مقدمة الكتــاب، حيث قال: «إن عظمة وقوة وطزاجة كتاب مريد البرغوثي تكمن في أنه يسجل بشكل دقيق موجع هــذا المزيد العاطفي كاملاً، وفي قدرته علــى أن يمنح وضوحاً وصفاء لدوامة من الأحاســيس والأفكار التي تســيطر على المرء في مثل هذه الحالات». وفي موقع آخر يؤكد على ذلك: «إن كتابة البرغوثي، وبشكل مدهش حقاً، كتابة تخلو من المــرارة» إنها كتابة تناقض معنى الأفول، وتستطلع مستقبلاً ما، لا يخضع لهذا القدر من السلبية.

لقد اختزل مريد البرغوثي كل ما يمكن أن يتلبســنا حيال فلسطين، بما في ذلك الارتباط والانشطار، فضلاً عن الوقوع في التشنج العاطفي واللغوي، لقد قدم لنا مقاربة في كيفية معرفة فلســطين.. فهل يمكن أن نعدّها ذلك التصور الكلي لأرض تاريخية تتصل بتاريخ عميق؟ أم تلك التي أمســت على شــكل نقاط صغيرة تضيء كنجوم في ليلة معتمة، كما وصفهــا الدارس والباحث في الخطاب ما بعد الكولونيال­ي روبرت يونغ! ويبقى الســؤال الأكثر ألماً كيف نرى فلسطين؟ ولعل ما سبق قد

جعل مــن نص البرغوثي شــديد التعلق والارتقــا­ء، حيث يجيب لمن يأتي بعده من فلســطينيي­ن.. هكذا رأيت فلســطين.. هذا السؤال الذي يطــرق في وعي كل فلســطيني، كما هو تطرق عبــارة كنفاني لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ هل ســنتمكن يوما من العودة إلى فلسطين؟ أم ســنمضي من هذه الحياة، ونحن لا نملك ســوى اللغة التي تحيل إلى فلســطين غير أننا نمارس قراءة وجودها، أو كما يعبــر مريد بقوله: «الآن ها أنا أنظــر إليها، إلى الضفة الغربية مــن نهر الأردن. هذه هي «الأرض المحتلة» إذن؟ لم يكن أحد لأكرر له ما قلته منذ سنوات لحسين مروة من أنها ليست مجرد عبارة في نشرات الأنباء». ليردف بعد ذلك قائلاً: «من يجرؤ على تجريدها الآن وقد تجلّت جسداً أمام الحواس؟».

ربما تبدو مواجهة فلســطين بالنســبة إليّ أو للأجيال التي أنتمي إليهــا أقرب إلى قراءة نــص من منطلق اللذة أو المتعة، حســب تعبير رولان بــارت، فبينما نحن نحــاول أن نقترب من فلســطين، إذ نراها كامرأة أو عشيقة... نسعى لتجاوز بعض الفصول والصفحات لنبحث عما نريد من فلســطين، فالكل لديه ذاك المتوقــع، أو ذاك المأمول، أو من لديه فلسطينه المشــتهاة، فتمســي أنثى في متخيل شعب لم يمسها، لقد اســتحالت إلى مجرد حلم يقرأ عنه، يشاهده في الصور، ونشرات الأخبار، وبعض الحكايات التي ربما يلتقطها من الأب والجد، وبعضهم بات الآن تحــت التراب، هكذا تبقى المروية فــي لانهائيتها، وهي تعيد إنتاج ذاتها، ولا تنتهي، ولتبقى تلك اللغة تتعالى على الموت والخراب، والنفي والتشــتيت، فهل يمكن أن يتحول الخطاب حول فلسطين إلى صخرة سيزيف طالما «الآخرون هم أسياد المكان.»

الغريب لا يعود إلى حالاته الأولى

يقول مريد البرغوثي في كتابه: «لكنني لا أعرف أن الغريب، لا يعود أبدا إلى حالاته الأولى. حتى لو عــاد. خَلَص. يصاب المرء بالغربة كما يصاب الربو. ولا علاج للاثنين. والشــاعر أسوأ حالاً، لأن الشعر بحد ذاته غربــة». هذا يعني أن وعي الغريب يبدو أمــراً لا انفكاك منه، لقد انقضت تلــك الفترة التي يمكــن أن تنمو فيها في مكانــك الطبيعي أو ببســاطة في وطنك، لقد بات التشوه في داخلك أمراً محتوماً، ولاسيما لمن يعتريهم ألم أنهم غرباء.

إنــه ذلك الاغتراب المضاعف عن المــكان القائم فيه، فضلاً عن المكان الذي تحلم بالعودة إليه، ليتعالى التشقق الداخلي، أو التفتت بين وعي من ولد في المــكان، واقتلع منه، غير أنه عاد ليجد أنــه لم يعد كما كان يتوقع، أو كما كان يراه.

فــي كتاب مريد البرغوثــي تبدو صيغة الغائــب للتعبير عن ذوات المحتلــن )الغربــاء( فهو يعبــر عن وجودهــم بضميــر الغائب هم، ومنهــم، وهكذا يمارس إبعاداً للمغتصب عن الفضــاء، فهم ـ فيزيائياً

ـ حاضــرون، ولكنهم لا ينتمون إلــى المكان، وفي المقابــل فإن الذات الفلسطينية الغائبة تبدو هي الحاضرة، والقائمة في المكان؛ لذلك يلجأ إلــى ضمير المتكلم: «الآن أمــر من غربتي إلى وطنهــم؟ وطني؟ الضفة الغربية وغــزة؟ الأراضي المحتلة؟ المناطق؟ يهودا والســامرة؟ الحكم الذاتي؟ إسرائيل؟ فلسطين ؟».

تمارس الضمائر عقيدة أيديولوجية، كما تمارس المسميات المختلفة لتأويل فلسطين نسقاً في محاولة إدراك ذلك التعريف الموتور لفلسطين في وعي الوجــود، والسياســة، والاختلاف والانقســا­م، والقرارات الدولية، ولكنه ينفي كل شــيء لينهي جملتــه بالحقيقة المطلقة لتأكيد الاسم )فلسطين( فقط.

لا يمكن اختزال أبعاد الكتاب لكونه يبدو عالقاً في الأبدية التي تجعل من فلســطين قائمة في اللغة، ولكنها ليست إلا ذلك الواقع عل الرغم من العطب العاطفي لضمورها على مستوى الإحساس المادي، ولكني أريد أن أؤكــد على أن مقاربة البرغوثي لتكوين فلســطين فــي أحد أبعادها ينهض علــى أن نتخفف من المتخيل، أو ذلك المتعلق بالرمز، والتجريد، لقــد أراد أن يجعلنــا ندرك أن فلســطين باقيــة على الرغــم من تعدد المصطلحــا­ت والزمن والتاريخ؛ ولهذا أتوقف مــع هذه الفقرة كي أعيد موضعــة عقيدة الكتاب القائمة على أن فلســطين هي تلك الحقيقة، ولا شيء غيرها فقط: «عندما تختفي فلسطين كسلسال على ثوب السهرة، كحلْية، أو كذكرى أو كمصحف ذهبي، أي عندما نمشــي بأحذيتنا على ترابها، ونمســح غبارها عن ياقات قمصاننا، وعن خطانا المســتعجل­ة إلى قضاء شــؤوننا اليومية العابرة، العادية، المضجرة، عندما نتذمر مــن حرها، ومن بردها، ومن رتابة البقــاء فيها طويلاً، عندئذ نكون قد اقتربنا منها حقاً .»

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom