من وكالة الاستخبارات المركزية إلى مؤسسات التنوع أو كيف عاد «الفن الملتزم»
■ أصبح التدخل السياســي والاســتخباراتي فــي الحياة الثقافيــة، إبان الحرب الباردة، معروفاً وموثقاً لحد كبير، ليس فقط في ما يخص نشر أيديولوجيات معينة، مثل الليبرالية والشيوعية والتحرر الوطني، بل أيضاً في أكثر المجالات الفنية والأدبية والفلســفية تجريــداً وذاتيــة، وكانت نتيجــة هذا الصــراع الثقافي شــبيهةً بالنتيجة السياســية للحرب البــاردة عموماً، وهي انهيار المنظورات الثقافية الســوفييتية، مثل الإنسانية التفاؤلية والجماعاتية والفن الملتزم واللادينية المتطرفة.
وكالــة الاســتخبارات المركزيــة الأمريكيــة مــن جهتهــا لم تكتــف للفــوز في هذه الحرب، حسب الوثائق التي نشــرها عدد من الباحثين والصحافيين، مثل البريطانية فرانسيس ســوندرز، بالترويج لأفلام هوليوود؛ وتوزيع نسخ الكتاب المقدس؛ ودعم عقائــد «مقاتلــي الحرية» من الجهاديين الإســاميين، بل عملت على دعم أشــكال من «الفن الحديث» شــديدة التجريدية، لمناصرة مقولات أيديولوجيــة، قُدمت، للمفارقة، بوصفهــا معادية لأدلجــة الفن، مثــل فردانية الفنــان وعدم حصره بقضايــا معينة، فكانت معاداة «الالتزام» نموذجاً أساســياً للذات، التي سعت الأجهزة الأيديولوجية الأمريكية آنذاك، لنشرها عالمياً: حرة ومُفردنة وقادرة على الابتكار/الربح.
في وثيقة للاســتخبارات الأمريكية عن المشهد الثقافي الفرنسي، تعود لثمانينيات القرن الماضي، يظهر ارتياح واضح لتراجع نموذج المثقف الملتزم في اليسار الفرنسي، مثــل الفيلســوف جان بول ســارتر، لحســاب نمــط جديد مــن المثقفــن، المناهضين للماركســية وأنمــاط التزامهــا، وليس فقط الفلاســفة الفرنســيين الجــدد، مثل آلان فينكيلكروت وأندريه غلوكســمان وباســكال بروكنر، الٌمتهمين بنزوعهم اليميني، بل أيضاً مفكرين مُقدرين بشــدة في أوســاط اليســار الفرنســي، وعلى رأســهم ميشيل فوكــو، الــذي تتصدر صورتــه الوثيقة. يمكن، علــى الهامش، ملاحظــة أن فكر لويس ألتوســير، الــذي أثر بقوة فــي فوكو وكل «النظرية الفرنســية» لم يتــم تصديره بقوة إلــى الجامعات الأنكلوفونية، مثل طروحات تلاميذه من الفلاســفة الفرنســيين «غير الملتزمين» ربما لالتزامه الطويل مع الحزب الشيوعي الفرنسي.
لا يعنــي هذا بالطبع أن هذا النــوع من الفنانين والمفكرين، كانــوا عملاء للمخابرات الأمريكية، في أي شــكل من الأشــكال، فقد كانت لهم أســئلتهم ومنظوراتهم شــديدة الأهمية في زمنهم، ولعبوا دوراً كبيراً في تطوير تصوراتنا الفنية والفلسفية المعاصرة، إلا أن التعــرف على نوع المفاهيم، التي اعتُبر دعمها جانباً من «المجهود الحربي» للعالم الحــر، فــي فترة مــن الفتــرات، وما آلــت إليه فــي أيامنا، شــديد الأهمية لفهــم جانب أساســي من شــرطنا الثقافي المعاصر، الــذي يبدو أن «الالتزام» عــاد إليه بقوة، بدعم من مؤسســات، قريبــة من الجهات، التي حاربتــه في يوم من الأيــام. يظهر «الالتزام» اليوم أساســاً من باب إلزام عديد من الفنانين والكتاب بالتعبير عن هوياتهم الثقافية، وتجاربهــم مع الاضطهــاد والتمييز، من خلال شــبكة معقدة من المؤسســات الثقافية والمنح الأكاديمية، وتمويل المشــاريع الفنية والبحثية، تحت عنوان «الاحتفاء بالتنوع» فكيف تم هــذا الانتقال الأيديولوجي من الفردانية إلــى الهوياتية، ومن الحرية الذاتية إلى «الفن السياسي» الذي يقدس التنوع؟ وما آثاره في القول الفني في زماننا؟
تبدد نظام الفن
حــاول عالم الاجتماع الألماني نيكلاس لومان تقديم تصور مختلف عن الجماليات، ضمــن نظريته العامــة للأنظمة، فبعد الهجوم العنيف، الــذي تعرض له الفن الحديث، في النصــف الثاني من القرن الماضي، بوصفه حافلاً بالفوضى الأســلوبية، ومفتقراً للروعــة والتســامي والتعبير، وهي عناصر أساســية فــي الفنون الكلاســيكية، أكد لومان أن ما يجعل الفــن نظاماً، ويميزه عن بيئته الخارجية، قدرته على تحويل ما هو ليس بشــكل فني، إلى مُنتج يمكن وصفه بـ«الفن» وفقاً لترميزات ومخزون مفاهيمي
Ideengut متغير تاريخياً، وبالتالي فســؤال الفن ليس التعبير عن قيم معينة، مقبلة من أنظمة أخرى، مثل السياسة والأخلاق والعلم، بل كيف انتزع مادة ما، من الطبيعة أو التاريــخ أو المجتمع أو الأيديولوجيا، ليجعلها مجالاً للتلقي الفني. ولذلك فإن غياب التعبيــر والروعــة في الفن المعاصر لا يعني ســقوطه في العشــوائية والفوضى، فهو يعمل وفقاً لأكواده وإجراءاته الخاصة، وهي أبعد ما تكون عن العشوائية.
طــرح لومان، المتفق كثيراً مــع مبدأ رفض الالتزام، لن يأتــي بنتائج مطمئنة، إذا تم تطبيقــه على جانب كبير من الفنون الحالية، فمع انتشــار ما يمكن تســميته «الالتزام الهوياتــي» فــي أيامنــا، تُقيم كثير مــن الأعمال الفنيــة، ليس فقط بمــدى تطابقها مع مقــولات أيديولوجيــة، تتعلــق بالهويــة ومظالمها، بــل أيضــاً بـ«النــوع» الاجتماعي والثقافي للفنانين، فصارت هوية الفنان، سواء كان لاجئاً أو امرأة أو مثلياً، جزءاً من أهمية العمل نفســه. يختلف هذا كثيراً عن ظواهر فنيــة وأدبية معروفة في ما مضى، مثل الثقافة الأفروأمريكية أو الكتابة النســائية، فقد ظهرت تلك الأعمال بشكل عفوي إلى حد كبير، ثم تم استيعابها نقدياً، والتنظير لها، مع أخذ إطارها الثقافي - الهوياتي بعين الاعتبار، وبالتأكيد لم تصنف فناً لأجل «تمكين» أصحابها فقط. اختلاط مفاهيم الفن الحالي بالمعايير السياسية والأيديولوجية، لهذه الدرجة، تهدد بفقدانه استقلاله عن بيئته الخارجية، ومنها نظاما السياســة والأخلاق، أي انحلال نظام الفن نفســه، وســقوطه في العشــوائية، فــكل نظام يفقــد اســتقلاله وانغلاقه التشــغيلي، ينتهي بالتبــدد ضمن بيئتــه، وهذا من المبــادئ الأساســية لأي طرح منظوماتــي، ويبدو أن اطمئنان لومان السابق على الفن الحديث لم يعد صالحاً لعصرنا.
لم يكــن الفن الملتــزم، بصورة عامة، مقيــداً أيديولوجيــاً لهذه الدرجــة، فقد ابتكر الفنانــون، الذيــن اعتبروا أنفســهم ملتزمين، أشــكالاً فنية شــديدة الجــرأة والجدة، ونجح كثير منهم بتحويل عناصر أساسية من أيديولوجياتهم، إلى دافع مهم للتجديد الأســلوبي. وبالتأكيد فإن المبدعين، الذين نظروا بوعي للالتزام، مثل برتولت بريخت وأندريه بريتون، كانوا ســيعانون كثيراً، لو فُرض عليهم نمط الالتزام، الذي تشترطه مؤسســات «التنــوع» حالياً، لدعم المشــاريع الفنية، ولكن أين ذهبــت دعاوى الحرية الذاتية في الفن، التي كانت تروج لها تلك المؤسسات نفسها، قبل عقود قليلة؟
صياغة جديدة للذوات
الــذات الفرديــة الحــرة والمبتكرة، التــي كانت النمــوذج الأمريكي الأساســي، في مقابل الجماهير الســوفييتية، فقدت جانباً أساســياً من وظيفتهــا الأيديولوجية، مع تغير الشــرط التاريخي، فإضافةً إلى ســقوط نقيضها، أدى الانتقال إلى أشكال أكثر مرونة من الرأســمالية، قائمة على اقتصاد الخدمات، ومكانة أكبر للعمل غير المادي، إلــى إيلاء أهمية بالغة لــدور التقليد الثقافي والهوية في إنتــاج القيم المالية. وبدلاً من نموذج العامل والمثقف الفرداني، الســاعي لاســتغلال الفــرص والترقي الاجتماعي، وفقاً لـ«الحلــم الأمريكي» صار الموظف، المتقن لمهارات «بــن ثقافية» معينة، النموذج الأساســي في اقتصاد، معتمد، بشــكل كبير، على العلاقات العامة. مفهوم الفردانية ذاته تغير ضمن هذا الشرط، فعلى الذات الفردية أن تبتكر أداءً هوياتياً معيناً، يعطيها ميزة ما، من منظور مُشــغليها. ويظهر هذا بأوضح صوره في المجال الثقافي والفني، الممتزج، أكثر من أي وقت مضى، بأساليب للتسويق، والحصول على دعم الحكومات والشركات، ما يجعل امتلاك مهارات العلاقات العامة ضرورياً بشدة للفنانين.
وربمــا يمكن على هذا الأســاس تفســير التغيرات في عمل الأجهــزة الأيديولوجية المعاصــرة، الأساســية فــي صياغة الــذوات الفرديــة، فلم تعــد الحرية هــي المفهوم الأيديولوجي الضــروري، بقدر نمط ما من الالتزام، يقوم علــى ربط الأفراد بتصنيف اجتماعــي- ثقافــي معــن، يمنحهــم مدخــاً للحصــول على نمــط ما مــن الاعتراف المؤسساتي والاجتماعي، وقد يكون هذا ســبب تركيز كثير من الحركات، التي تُعتبر يســارية، على نقد حرمان فئات كثيرة من الاعتــراف الهوياتي، واعتبار انتزاعها لهذا الاعتراف، أساساً لتحسين ظروفها الاجتماعية عموماً. وقد سبق للفيلسوف الألماني أكســيل هونيث التأكيد على أن مفهوم «الاعتراف» يتضمن، بحد ذاته، مفهوم «إعادة توزيع » الثروة.
الهوية سجناً
وبغــض النظر عن نقد مفاهيم الاعتراف والهوية، من منظور سياســي واجتماعي، فــإن الميل إلى الالتــزام الهوياتي، فــي الفنون المعاصــرة، يحد كثيراً مــن الإمكانيات الإبداعيــة لكثيــر من العاملين فــي المجال الفني، خاصــة الذين ينتمون لفئــات، تُعتبر محتاجــةً للتمكين، ويرغمهم، بشــكل مباشــر أو غير مباشــر، على العمــل ضمن أطر وقوالــب ضيقة. كمــا أن المباشــرة والاختزال، اللذين تقــدم بهما المفاهيــم الهوياتية المعاصرة، ينزعان عن مفهوم الهوية ثراءه وتعقيده، ما يجعله أقرب للســجن، بعد أن كان من أكثر المفاهيم إلهاماً للأعمال الإبداعية.
ربمــا كان الخروج من هذا الإطار في الفن، تماماً كما في السياســة والأيديولوجيا والفكر، شــرطاً أساســياً لأي محاولة للتجديد الإبداعي. مــع الاعتراف بصعوبة هذه المحاولــة في الظرف المعاصــر، الذي ضاقت فيه هوامش الثقافــات الفرعية والبديلة، ولم يعد بإمكان أي طرف تقديم تصورات متماسكة عن العالم والمجتمع.
مــا يدعو للتفــاؤل، رغم كل هذا، أن حالة الملل العامة، مــن كثير من المنتجات الفنية المعاصــرة، قد تدفع لتمــرد جديد على الالتزام، يُنتج جماليــات ومفاهيم جديدة، ولن يحتاج، هذه المرة، لتلقي الدعم السياسي والاستخباراتي.