في «تنصيص الآخر» للعراقي حاتم الصكر: المثاقفة بين الانتحال والتأثر
■ صــدرت للناقد العراقي حاتم الصكر دراســة جديــدة بعنــوان ثلاثــي هــو «تنصيص الآخــر: في المثاقفــة الشــعرية، والمنهــج، ونقد النقــد». عن دار خطــوط وظلال فــي عمــان 2021 ولأن الكتاب كبير الحجــم )264 صفحــة( متعــدد الموضوعــات، فقد اقتصرنا في قراءتنا الأولى له على بعض ما احتواه مــن دراســات وأبحــاث، اســتوقفتنا بمــا فيها من وجهات نظر جديدة.
فالمؤلــف الصكر فــي مقدمته يلح بشــدة على أن المثاقفة ـ أي تبادل الأثر والتأثير بين الآداب العربية وغيرهــا من أوروبية وأمريكية ـ لا تنفصل قطعا عما يعرف بالمقارنــة الأدبيــة comparative فكل منهما تؤدي إلى الأخرى.
سواء اتبعنا في دراستنا الاستقصائية الأعراف الفرنســية لــأدب المقــارن، أو الأمريكيــة التــي لا تشــترط التأثر المباشــر فــي مواقفهــا التحليلية من نظريــة المقارنة. ولهذا فإن اقتراب الشــاعر العربي ـ مثــا ـ من الآخر ـ وإن لم يقــم اقترابه على الاقتباس أو التضمــن ـ فإن هذا الاقتراب يكســبه رافدا مهما مــن الروافد التي تؤدي لتعميــق مجرى الحداثة في هذا الشعر، وتبعا لذلك يجني الشعر العربي من ذلك ثماراً جديدة.
وفي ضــوء ذلــك يحــاول الصكــر أن يجيب عن الســؤال الذي يعنيــه أدبيا بتنصيــص الآخر. وهنا لا بــد فــي رأيه مــن النظــر في ثلاثــة أطــراف، هي: المؤثِّر، على ســبيل المثال إليوت، فهو مؤثر بالنسبة لصلاح عبــد الصبور، والمتأثر، صــاح عبد الصبور في مســرحياته الشــعرية فقد تأثر بإليــوت، والأثر أو التأثيــر، وهــو التنبيــه على الوجــوه التي يتجلى فيهــا ذلــك الأثــر داخــل النــص موضــع الدراســة المقارنــة. وتبعا لذلــك تقــوم الدراســة المقارنة عند الصكر على ثلاثة أركان، أو كما يسميها مستويات هي: المســتوى المقارنــي أي الإجرائي، والمســتوى الأيديولوجي، وأخيرا المستوى الفني.
فعلــى المســتوى الأيديولوجــي، ينبغــي لنا أن نسعى لتحجيم الاستشراق، أي لا ضرورة للنظرة المرتابــة نحــو الأدب الغربــي. أما على المســتوى الفنــي فينبغي ألا نغــض النظر عما يتــراءى لنا مما يعد سرقة أدبية من سرقات المحدثين. وأن نفرق بين ذلك وذلك الذي يعد من قبيل التناص اللاشــعوري، أي غيــر المتعمد، وغيــر المقصود. وفي هذا الســياق يشــير الصكــر لدراســة إحســان عبــاس بصفتهــا نموذجا لبعض شــعر البياتــي )1955( وما فيها من تنبيه لبعض التوافق بينه وبين إليوت على مســتوى الصورة، والمعادل الموضوعي.
وبالقدر نفســه يشير لما نشــر عن اقتباسات بدر
شــاكر الســياب من الشــاعرة إيديث ســيتويل، ولا سيما من قصيدتها المشهورة «ما يزال المطر يسقط» التي ظهــرت منها اقتباســاتٌ في قصيدة الســياب «أنشودة المطر» وذلك ما تنبه له كل من نذير العظمة ومحمد شاهين.
أدونيس وسرقاته
وفــي هــذا الفصــل الجيد مــن كتابــه «تنصيص الآخر» يتناول الصكر ســرقات أدونيس، لا بصفتها ضروبا من التناص، بــل بصفتها انتحالا مثلما جاء فــي عنوان كتــاب كاظم جهــاد «أدونيــس منتحلا» (1993( وما كان أومأ إليه
المنصف الوهايبي من استنساخ أدونيس الحرفي لبعض كتابات النفري )محمد بن عبد الجبار 354هـ( ومــا أكده عبــد القــادر الجنابي في كتابه الموســوم بعنــوان «رســالة مفتوحــة إلــى أدونيــس» التي لم يكتف فيها باتهام الشاعر المذكور بالسرقة والسطو وحســب، بــل يتهمــه عــاوة على ذلــك بعــدم فهم الصوفيــة، والتصوف، في انتقــاد غير مبطن لكتاب أدونيــس عن»الصوفيــة والســيريالية» .)1992(
فعلــى الرغــم من أن هــذا الكتاب حظــي باهتمامات ذوي البصــر بالتصوف، إلا أنه، فــي رأي الجنابي، وفــي رأي الصكر، يضيف للشــاعر الســوري المزيد مــن الفضائح، بدلا من الإنجاز الشــعري والفكري. ولهذا يدعو الصكر، في نهاية هذا البحث الســجالي عــن المثاقفة الشــعرية، لعــدم الخلط بين الســرقات والتأثــر، والحذر مــن أن تعد مثل هاتيك الســرقات ضربا من التثاقــف، إذ ينبغي التفريق بين الاقتباس الحرفي، والأخذ المباشــر الذي يبلغ حد السطو على أفــكار الآخرين، ورؤاهم الشــعرية، وبين الأثر الذي يقع الشاعر تحت سحره وقوعاً غير شعوري.
التوازي بدلا من التأثر
يحــدث أن يتنــاول عــدد مــن الشــعراء المنتســبين لثقافــات متعــددة موضوعــا واحــداً، فتظهــر فــي أعمالهــم تلــك بعض وجــوه الشــبه التــي تســتدعي الدراســة المقارنــة، على الرغم من أن ذلك لا ينســحب عليــه مــا يقــال عــادة عــن الأثــر والتأثير. ولذلــك لا تقوم المثاقفة الشــعرية لدى حاتم الصكــر على التأثــر وحده، بدليــل أننا نجد أفكاراً متشــابهة تتكرَّر لدى شعراء زاروا أو أقاموا فــي نيويورك، وكتبــوا عنها قصائد. وهذه الدراســة المقارنة لعلها تقوم على مبدأ التوازي، بدلا مــن الأثر والتأثير. فالشــعراء الذيــن كتبوا شــعرا عن المدينــة المذكورة كثر، بــدءاً من وايتمــان صاحب «أوراق العشــب» وأمــن الريحانــي، ولــوركا وجبــران خليــل جبران، مــرورا بالبياتــي وأدونيس ومحمود درويش وراشــد حســن وســعدي يوســف، وانتهاء بالعراقي ســركون بولص، وحســام الســراي. فعلــى الرغم من التبايــن اللافت في اتجاهات هــؤلاء الشــعراء، إن كان الأمر على المســتوى الأيديولوجــي ـ البياتي الماركســي ـ أو الفنــي ـ أدونيس الســيريالي ـ أو النفســي ـ حسام السراي، وسركون بولص، أو الثقافي ـ جبران، والريحاني ـ فإن هؤلاء الشعراء جميعا يلتقون على رأي واحــد، ونظرة واحدة، وهي هجاءُ ـ إذا ســاغ التعبير- هــذه المدينة، جريــا على مذهب الأمريكي وايتمان، الــذي تعزى إليه المحاولة الأولى علــى هذا الصعيد. ونعني بها هجــاء المدن. فالمؤلف لا يفتأ يعزو لرواد المدينة من الشــعراء العرب أمثال جبران والريحاني والأجانب أمثال لوركا وسنغور، والمعاصريــن أمثــال البياتــي وأدونيس وســعدي يوسف وراشد حســن ومحمود درويش، المواجهة الضديــة لهــا بصفتها كيانا من الإســمنت المســلح، الــذي يفتقــر للحيــاة، ويخلو مــن الــروح. فهي عند بعضهم حشد من الثياب بلا رؤوس، وعند آخر صدأ يملأ الجســور، وفــراغ يعم القلب. وعند شــاعر آخر أرض الزيــف. وهــي عند آخــر هيكل عظمــي مكتمل بــروح هزيلة، لا تدب فيه الحيــاة. وهي عند محمود درويش فــي قصيدتــه «طبــاق» (2003( المهداة إلى إدوارد ســعيد بعد عــام من وفاته بابــل القديمة، أو ســدوم. وعند حسام الســراي لا تعدو كونها حانة كلّ روادهــا من الكلاب. وعنــد أدونيس في «قبر من أجل نيويــورك» (1971( تمثال امرأةٍ ترفع خرقة في إحدى يديها، فيما تخنق باليد الأخرى طفلة اســمها الأرض، في إشارة ساخرة منه لتمثال الحرية.
يســتخلص الصكر من هذا التتبع الاســتقصائي لصــورة نيويورك فــي قصائد مــن الشــعر العالمي، والعربــي، إن الشــعراء قــد يتفقون من غيــر تواطؤ على الدخول في موضوع ما، والخروج منه بالشيء ذاته، أو التصور نفسه عن ذلك الموضوع. وهو قريب مما ســماه العــرب قديما «التــوارد» فجل الشــعراء الذين ذكرهــم، وذكــر قصائدهم، دخلــوا نيويورك حالمين، وخرجوا منها ثائرين ســاخطين، لأن المدينة لم تكن كمــا توقعوا، بل كان العشــبُ فيهــا دولارا، والكنيســة مصرفــا، ودار الأوبرا بنكا. وهي أشــبه ما تكون بوحش حجري، وحانة للكلاب، في شــارع يطلــق عليــه شــارع الملوك. وهــي فيما يؤكــده أمين الريحاني )1910( مجد كاذبٌ، وقلبٌ خاوٍ.
وفــي الكتــاب الــذي يضم دراســات عــدة يقف المؤلف بنا إزاء ركن آخر من أركان المثاقفة الشعرية، ألا وهــو تنوع المؤثر، وتنوع ضــروب التأثر الناجمة عــن تنوع المؤثر، واختلافه مــن حين لآخر. وفي آخر يقف بنا عند الاستشــراق، وارتباكات الهوية، وفيه يجد القارئ تحليلا شــيقا لقصيدة درويش «طباق» وهي من ديوانه «كزهــر اللوز أو أبعد» وكان المؤلف قد أشار إليها مراراً في الفصل السابق.
وصفــوة القــول هــي أن هــذا الكتــاب يتضمــن فصولا تجمع بين الشــمول، للظواهر قيد الدراســة، مــع الإحاطــة بالكثير من التســاؤلات التــي يتطلبها موضوع المثاقفة، والمقارنة، والمنهج النقدي.