Al-Quds Al-Arabi

سرديات السلطة وضحايا المعجم

-

■ هناك معجم لســاني يتحرك بقوة في الفضاء العربي - الإسلامي، يتحفّز ويتنمّر مــن خلال الخطاب، والأيديولو­جيا، والعصــاب، والتاريخ، وهذه «الخبطة» تتحول عند بعــض الجماعــات إلى لعبة في صناعــة التوحش، وفي تســويغ خطاب القــوة، ليكون ممارســة في فــرض غريزة الترويض والســيطرة، أو فــي نقل وجهة نظر الســلطة إزاء الآخر..

نحــن ضحايا ذلــك المعجم، وما يضمــه من ملفوظات واســتعارا­ت ومنابــر، وأزياء ومظاهــر، وربما صرنا ضحايا علنيين لســردياته، التي احتكــرت النص والمنبر، واليوم تحتكر منصــات التواصل الاجتماعــ­ي لتكريس «تداولي» لمفهــوم «فرضية» الحكم عبر الســلطة، أو عبر إقامــة الحدود، أو نقل شــيفرة الخوف إلى الجمهــور، ووضع مفهوم الطاعــة الشــرعية، خيارا تــؤدي وظيفته الرمزيــة ملفوظات معينة ومحــددة، ولإثبات نجاعتها في الخطاب الإشــهاري، الذي تمارســه الســلطة والجماعة، لاســيما السلطة العصابية بالمعنى الخلدوني، التــي لا تنفصل كثيرا عن التاريخ، ولا عن نصوص النقل، تلــك التي تتجوهر فيها شــيفرة المقدس وقوة الحكم، والتأويــل، والبيان. والمعيار الذي تم بــه تنصيــب فهم قياســي للخطاب، يقوم على أســاس مهيمنات مركزيــة، لها علاقة بالقوة الرمزية الاســتعلا­ئية لذلك المقدس، وبالمعطيات السياسية والأيديولو­جية، التي تمخضت عنها، حيث أسهمت في تعطيل إرادة الاجتهاد من جانب، مثلما وضعت النص في خدمة السلطة، بوصف السلطة تملك شيفرات القياس من جانب آخر.

هــذا «النــص الخدماتــي» ليس بريئــا، إنه نــصُ الجماعة، الــذي تكرّس عبر ســلطة القيــاس، وعبر التواطؤ بينها وبين فقه الحكم الصياني، وعبر غلبة العصاب، وعبر ثيمة بيع اللســان التي جاهر بها الشــافعي - صاحب الحجاج الاســتدلا­لي- في حديثه مع هارون الرشــيد، وعبر تغويل ملفوظ الزندقة والمــروق، الذي راح ضحيته كثيرون، بدءا من جعــد بن درهم، وابن المقفع، والحــاج، وليس انتهاء بفرج فــودة، ونصر حامد أبو زيد وغيرهم، لاســيما بعد مجاهــرة الحركات الجهادية و«القاعــدة» بالتكفير، ومطالبة «الدواعش» باســتعادة «دولة الخلافة» التي هي في الجوهر «دولة مضر» أو هي القناع الشرعي لـ«دولة القياس» التي تروّج لصورة «المسلم الأخير» في أدبيات العصاب..

نحن وحروب الأنماط

توصيــف الأنماط ليس بعيدا عن وظائفها، إذ كثيرا مــا تبدو وكأنها وظائف تمثيلية للأفكار والقيم والمهيمنات، التي تشــاطرنا الوجود والمعاني والعادات والمخاوف، التي تكون الســلطة بعضا من أشــكالها وأدواتهــا، بوصفها أكثر الجهات تمثيــا واحتكارا للقــوة. أنمــاط القياس، هي فرضيــات للإبانة عن ســلطة الظاهر من النــص، مثلما هي موجهات تؤشــر مدى علاقة «الجمهور المطيع/ الجمهور الطقوســي» بالتوصيف الذي تفرضــه «الســلطة» للهوية، ولأنمــاط التــداول، بما فيها تــداول الخطــاب، والحديث، بوصفهــا تداوليــات جامعــة تخص ذلــك الجمهــور، ولا علاقة لهــا بـ«الآخــر» الكافر، والخارج عن الملة والمرتد، وغيرها من ملفوظات القياس، وليســت بعيدة عن المنطق الذي قال فيه الغزالي، بأنه «قول مؤلّف إذا ســلم ما أورد فيه من القضايا لزم عنه لذاته قول آخر اضطراراً».

أنماط القياس وجدت فــي الفقه حكما وحدّاً، لعزل ما هو خصوصي في النص، إلى ما هو عمومي، حيث يكون النمط مسحوبا إلى ذلك الحكم، بوصفه جزءا منه، ولينعكس على أنماطه التداولية، بقطع النظر عن النشــوء والاختلاف والبيئــة، والتأويل، فـ»بيئة الصحــراء» تلتقي مع «بيئة المدينة» وتفرض شــروطها عليها، وفضاء التداول ينحســر أمــام مركزية الحكم، حيث يتقوض التنوع والمختلف، وبما يجعل مفاهيم لا مركزية مثل العولمة والليبرالي­ة والديمقراط­ية أكثر تناشزا عن القياس، وعن الواقع ذاته، وعن تاريخ الحمــولات الرمزية للقوة وتعالقها مع النص والزعامة والأبوة واحتكار الفهم والتأويل والتأليــف. الأحزاب الثوريــة والأصولية الدوغمائية، وبعض حكومــات ما بعد «الربيع العربي» ليســت بعيدة عن اســتعادة خطاب القياس، بوصفه خطــاب مواجهة مع لعبة التقويضات التي بدت واضحة في توصيفــات «ما بعد الكولنيالي­ة» و«العولمة» وما بعد حــروب الأنماط، إذ وجدت في التأطير الأيديولوج­ي مجالا لإعادة النظر بمركزة مفاهيم الثورة والمركزية الديمقراطي­ة، والأمة والملــة والحصانة القومية، وهي حصانات قريبة من القياس، حيث تســتدعي فكرة المخلّص الشــرعي، والمخلص الأيديولوج­ي والثوري، وليــس المخلــص الديمقراطي، إذ يتحــول ذلك الخــاص إلى خطاب اســتعادي للآخر، وتسليما ميتافيزيقي­ا قائما على أنســنة الخوف والطاعة والخضوع، بوصفها سيمياء شــرعية، مقابــل الترويج لرفض الآخر، مــن منطلق تكفيره، ورفضه للقياس الشــرعي، قياس الجماعة. هذا المعطى تحول إلى نمط اســتعمالي له شــروطه الشــرعية في إقامة الحــدود التي يســتعملها الفقيه، أو ممثل العصاب ليجعل منــه مصدرا لإباحة الخوف، وليــس لتقديم العظة، وباتجاه خلق الموطن القياســي الطائع، أي إخضاعه إلى أدلجات تتكــئ على ملفوظات تلك الشــرعية، والنزعات التمثيلية التي يتقنــع بها رجل الدين، أو الفقيه الفضائي كما يسميه عبد الله الغذامي.

فشــل الدولة الحديثــة بمظاهرها المتعددة دفــع إلى البحث عن «نجاح» اســتيهامي، يســترجع التاريــخ، عبر قيمومــة الطوطــم، أو البطــل، أو المنقذ، والــذي يتجوهر حول خطاب متعال، له ســردياته وحكاياته ومقدســه، وأنســاقه المضمرة، وصناعته لنصٍ يشــتبك فيه المثيولوجـ­ـي بالثيولوجي، مثلما تتبدى فيه «الشــطارة» والمعجم الملفوظي، حيث صناعة الخطاب الإعلامي والاســتهل­اكي، الذي يعــزل الجمهور عن التاريخ، وعن القضايا الكبرى، وحصره في حدود الإغواء البياني والســلعي والجســدي، أي إبقاؤه ضمن البنية النسقية للجمهور المهيج، والمستثار دائما، والذي يقبل بالسلطة الإشباعية، وحتــى إلى القبول بخياراتها السياســية والتطبيعية، وصولا إلى أن يكون قاتلا للآخر، أو أن ينتحــر من أجلها، تمثيلا للموت الجهادي في ســبيل أهدافها الكبرى. خطورة هذا الإبقاء يكمن في خطاب التضليل، وهو خطاب عزل، ونسيان، مقابل التصديق بالمعجم الذي تصنعه الجماعة و«السلطة» بوصفه معجما مقدسا، أو دبلوماسيا، أو اقتصاديا، أو اســتعراضي­ا، حيث يتشــابه الجنــرال والفقيه والتاجــر والبطل الســينمائ­ي وبطل الإعلانات والأزياء، لأنه يقـّـدم للمواطن الطائع حاجته من القوت و«القات» وهي ثنائية مقدســة، مثلما مجالات بدت أكثر قوة عبر المنابر اللغويــة، التي تمارس لذتها بالتماهي مع الشــيفرات الإحالية لذلــك المقدس، ومع احتــكاره من جانب واحد، وهــذا الاحتكار يفرض خطابه عبر لسانيات لا تنفصل عن المعجم القديم، ولا عن الرواية والسيرة.

الســيطرة على العقول تبدأ من السيطرة على اللغة/المعجم، لاسيما وأن اللغة العربية ليست مجالا تواصليا، أو حتى محتوى مفتوحا للتفكير فقط، بل هي سلطة لها أدواتها الخطابيــة التي تجعل من المقــدس قناعها لمواجهة الآخر من جانــب، ولتعمية العلاقات الفاعلة، التي يمكن أن تتشكل عبر الأنماط المهيمنة في التعلم والحوار والمعرفة والحراك السياسي والنقد.

موت مثقف الخطاب

موت اليســاري القــديم قد يكون أول علامات موت مثقــف الخطاب، والذي وجد في اللغة والأيديولو­جيا والثورة أقنعة للمجاهرة بوجود المعنى والقيمة، لاســيما في سياق تضخم ســرديات الأدلجات الكبرى، كالماركســ­ية، والقومية، ولعل سقوطها التاريخي بعــد انهيار الاتحاد الســوفييت­ي، وتفــكك منظومة الــدول الاشــتراك­ية، وانهيار حائط برلين، مقابل فشــل كلّ مشــاريع النهضة العربية، ومؤسســات «الوحــدة والتضامن» فضــا عن عجز أي حركة تخص مأسســة نقد العقل العربي، على مســتوى المؤسســة الجامعيــة والتعليمية والنقابية، أو على مســتوى المجتمع المدني، الذي أســهم في بروز «ميتــات» رمزيــة تتعالق مع المــوت النضالــي لأبطال غوركــي وليرمنتــو­ف ونيقولاي أستروفســك­ي وغيرهــم، والتي لا تختلــف كثيرا عن مــوت البراديغما­ت التــي روّج لها البعثيون والقوميون، على مستوى استعادة سرديات السلطة، أو على مستوى التماهي عبر شــخصيات ملتبســة مثل صلاح الدين الأيوبــي وطارق بن زياد، أو على مســتوى صناعة ميتات فائقة للتعويض عن الفشــل في مواجهة الآخر التبشــيري والاستعمار­ي والاستشراق­ي، لاســيما مع بروز جملة من المستشرقين، الذين شكّلوا صور استيهامية للمسلم والعربي وللمكان والمقدس والجسد والأثر..

مــوت مثقف الخطــاب يعكس كثيرا من تلــك الميتات المفهومية أيضا، لاســيما «موت الدولــة» ومــوت «المجال العمومــي» إذ وجد المثقف نفســه أمام وجود محتــدم بالعزل والعنــف والتوحــش، وبالحــدود التــي فرضتهــا الجماعــات المهيمنة، أقصــد جماعة العقيــدة، مقابل وجود تخيلي اصطنعه المستشــرق­ون بوصفهم غــزاة، وقراء، وأداريي أزمات، ولصوص آثار.

الصراع النصوصي بين التاريخ والاستشــر­اق هو ما جعل «مثقف الخطاب» أضحية للأوهام، وللتقاطعات التي جعلت نظرته للدولة قاصرة، وللأمة اســتيهامي­ة، وللجماعة إخضاعية، وللاستشــر­اق انبهارية مســكونة بنوع من التسليم، وأحسب أن هذا ما دعا أدوارد ســعيد للنظــر إلى الاستشــرا­ق من منطلق عقــدة الهوية الضائعــة، ومن منطلق معرفة الآخر، الذي يســعى للسيطرة، وعبر خطاب يعمد إلى إماتة التاريخ والأثر، مقابل صناعة متخيلة لـ«شــرق» حســي، شــرق أنثروبولوج­ي ينتمي للطبيعة وليس للثقافة، وينتمي للسرد أكثر من وجوده في التاريخ..

 ??  ?? علي حسن الفواز٭
علي حسن الفواز٭

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom