Al-Quds Al-Arabi

رحيل الشاعر المصري فتحي عبد الله: صوت ضد كهنة الثقافة وأمواتها الأحياء

- القاهرة ـ «القدس العربي» محمد عبد الرحيم:

«إن ازدهــار نمــوذج قصيــدة النثر يعكس قلقــاً عامــاً فــي ثقافتنــا وإبداعنــا العربــي، ويضع تجارب الشــعراء الســابقين، أو الذين يُســموّن كباراً للقراءة والاختبار مرة أخرى، بعــد أن تخلص النص من أوهــام صاحبه، أو تخلص القارئ من هيمنة وســل\طة النموذج المفروض من قِبل المؤسسات الثقافية.»

)فتحي عبد الله من مقال بعنوان.. قصيدة النثر والخطاب السلطوي(

رحــل أمــس الخميــس الشــاعر المصــري فتحــي عبــد اللــه )1957 ـ 2021( الــذي رغــم إصداراته الشــعرية القليلة، إلا أنه كان وجهاً حاضراً ومؤثراً في المشــهد الثقافي المصري، وهو ما يتضح مــن الآراء الحادة والمواجهات الدائمة مع أي شكل من أشكال السلطة، بداية من السلطة الرسمية والمؤسسة التي تمثلها ــ وزارة الثقافــة ــ وحتى ســلطة النقــد والنقاد أو أصحــاب الآراء، الذيــن يريــدون تصنيف الرجل في خانة، لم يرتضِها، بل وسخر منها أشد السخرية.

والرجل هــو أحد أصــوات قصيــدة النثر المصرية، وحســب التصنيف الاعتباطي فهو ينتمــي إلــى جيــل الثمانينيـ­ـات. تخــرج عبد اللــه في كلية دار العلوم عــام 1984 وعمل في العراق لمدة عامين، ثم عاد إلى القاهرة موظفاً في الهيئــة المصرية العامة للكتــاب، ثم مديراً لتحرير سلســلة )كتابات جديدة(. له العديد من الكتابات النقديــة بعدة صحف ودوريات مصرية وعربية. من دواوينــه.. «راعي المياه» 1993 «ســعادة متأخرة» 1998 «موســيقيون لأدوار صغيــرة» 2002 «أثــر البــكاء» 2004 و «الرسائل عادة لا تذكر الموتي » .2008

بداية حاول أكثر من شاعر وناقد ـ أو هكذا يســمون أنفســهم ـ أن يقولب تجربة الشاعر الراحل تحت مســميات جوفاء، مــن دادائية وســيريالي­ة، واعتمــاده الكتابــة الآليــة ومــا شابه، طالما كانت الحالة الشعرية غير مُمَهَدة لعقولهم أو وعيهم. ولا نجد رداً إلا من الشاعر نفســه في أحد حواراته الصحافية، فيقول.. «الكتابــة الآلية ظهــرت في ظــروف تاريخية لا علاقــة لــي بهــا، ولا تتقاطــع روحيــاً معي وأنا لســت في حاجة لها، فأنــا ابن الأداءات الشفاهية المليئة بالتورية، والكتابة التي تقوم على الاســتدرا­ك والجمــع بــن المتناقضات، فهــل هــذه ســيريالية؟ وإن كانت كذلــك فأنا سيريالي بدرجة ما، ولا يجمعني بالسيريالي­ة العالمية أي جامع، ولا يربطني بها إلا الدوافع الإنســاني­ة الواحدة التي لا تعــرف التمايزات الحضاريــة. أما طريقة أدائي الشــعري فإنها تنتمــي بالدرجة الأولــى أياً كان شــكلها إلى المشافهة المصرية الإســامية الخالصة، التي تقوم علــى القطــع والوصل بدون الإشــارة، اعتماداً على يقظة المستمع.» القطع والوصل

أما فــي ما يخــص )التراث( وهو مســألة لــم تــزل راهنــة، ومثــار الكثيــر مــن الآراء المتناقضــ­ة، فالرجــل كان حاســماً ودقيقــاً في هــذه القضية.. «أنا مع فكــرة القطيعة مع التــراث القريب، الســتينيا­ت والســبعين­يات بما يحمله مــن دلالات أيديولوجية مباشــرة، بــدون عنايــة بفكــرة الكتابة وحدهــا، وعلى أنهم قطعان لتبرير أو رفض مشــروع الدولة، وهــذا الحس الجماعــي ضد طبيعــة الإبداع، باعتباره عمــاً فردياً بامتياز خاصة الشــعر ـ الســرد. والقطيعــة هنــا ليســت جيليــة أو سياســية وإنما إبداعية جمالية، تعيد للكتابة مركزيتها في السلوك الإنســاني. أما التراث القديم، فهو أســطورتنا الجديــدة، وطفولتنا الروحية والعقلية، ووجودنا الأول بكل ما به من اختلافات وتناقضــات». (راجع «الأهرام العربي » .)2004

ويرى فتحي عبد الله أن المؤسسة الثقافية في مصر لعبت دوراً كبيراً في تهميش الشعر ونفيــه بشــكل عــام وإن احتفظــت ببعــض الرمــوز لأداء بعــض الأدوار السياســية فــي الداخــل والخــارج وهم الأبنــودي، حجازي، مطــر، أبــو ســنة ــ رحــم اللــه مَن مــات ـ فهم يلعبــون أحيانــا دور النــديم أو المضحــك أو الأراجــوز، الــذي يجمــع الناس لاحتفــال ما وأحيانــا أخــرى يتماهــون مــع الســلطة بما لهــم من رأســمال رمــزي، فيقررون مــا تريد من حــذف وتهميش، أو خلــق أبطال وهميين يتناســبون مع هــذه المرحلة وهــؤلاء جميعاً يرفضــون النص الجديد باعتبــاره نصاً يهدد ســلطتهم ونصوصهــم غيــر الفاعلــة، التــي أصبحت في ذمة التاريخ. أما نقاد المؤسســة فإنهم ينظّرون لســردية مصر ومركزيتها في القص والرواية، وعلى رأســهم جابر عصفور الذي يــرى أن شــعرية مصر قــد توقفت عند الشــاعر أمل دنقل، وفي ظني أنه لا يســتطيع قــراءة النصــوص الجديدة فهي ضــد ذائقته وأيديولوجي­تــه، أو دوره الأيديولوج­ــي فــي المؤسســة. )راجع «القــدس العربــي» عدد 6 أغسطس/آب 2004 .) قصيدة النثر

يــرى عبــد اللــه أن «قصيــدة النثر شــكل شعري ككل الأشكال لا أهمية له إلا في سياق حضاري يبرر وجوده، وهي ليســت اكتشافاً جديــداً وفيهــا الكثيــر مــن التنوعــات بعــدد الشــعراء الموهوبــن فــي الثقافــة العربية... التطــور الطبيعــي جاء مــن الماغــوط الذي تم استنســاخه فــي دمشــق والشــام بطريقــة عجيبــة ولم تتطور التجربــة إلا على يد صلاح فائق وســركون بولــص، الأول لســيريالي­ته العربيــة والثانــي بالعوالم الجديــدة والأداء النثــري المحــض، ثم وديــع ســعادة وعباس بيضــون، ثــم الحلقــة الأخيــرة ومــن أبرزها سيف الرحبي وأمجد ناصر.

خــاض الرجــل حروبــاً عــدة مع اســماء ومؤسســات ترعاهــا الدولــة، ســواء وزارة الثقافة أو اتحــاد الكُتاب، وعــن الأخير يذكر مــن خــال صفحته علــى الفيســبوك قائلاً.. «مــاذا يعنــي اتحــاد كُتــاب مصــر؟ يعني أنــه نقابــة لكل الذين يمارســون الكتابة الإبداعية فقط، ومنذ إنشــائه وهو مؤسســة تابعــة للدولة وتحت وصايتها، ولا أهمية له في الدفاع عن الثقافة المصرية ولا المثقفين».

أما قصيدة النثر، الذي يعد أحد أصواتها، والمتحــدث الرســمي باســم )الملتقــى الثاني لقصيــدة النثــر( فقــد وجــه بياناً فــي وجه ملتقى قصيدة النثر الــذي نظمه اتحاد كُتاب مصر فــي الوقت نفســه، موضحــاً أن.. هذا التجمع ليــس أكثر من كيــان ملتبس لم يعلن عن أي دوافع موضوعية لملتقاه، ومن ثم فهو ليس أكثر من كيان حكومي مدعوم من وزارة الثقافة، ويبدو دعمه من اتحاد الكتاب ككيان شــديدة المحافظــة والرجعية موضعــاً لمزيد من التســاؤلا­ت... هذا الكيان لــم يكن ليلتئم إلا بغــرض تحقيــق هدفين رئيســيين أولهما فرض شروط المؤسسة الرسمية على الملتقى الشرعي الذي يناضل من أجل الاستقلال، أو تدمير الكيان جملة».

أمــا عن تيــارات قصيــدة النثــر المصرية، فيذكــر.. «إن حلقــات قصيــدة النثــر كانــت محصــورة فــي ثلاثــة تجمعــات أو تيــارات كتابية، ليس بينها اختلاف كبير من حيث

الرؤيــة والأداء وهــي تجمــع )الجــراد( وتجمــع )الكتابة الأخــرى( ــــ ينتمي فتحي عبد الله إلــى الكتابة الأخرى ــــ وتجمع آخر يمثلــه الخارجــون على التجمعــن، من أهمهم عماد أبــو صالح وعلــي منصور وآخــرون... والســلطة الثقافيــة فــي مصر لــم تراهن على أحــد هذه التجمعات وإنما دفعت بالجميع إلى المحرقــة وكان صراعاً عنيفــاً قائماً على النفي والتهميــش، وزاد مــن حدته تدخــل الحلقات الســابقة فــي الصــراع، خاصة الســبعيني­ين الذيــن حاولــوا الســيطرة على تجمــع الجراد ونجحــوا في ذلــك وقدمــوا اعتماداتهـ­ـم إلى المؤسســة فكان اختيار فاطمــة قنديل وإيمان مرسال لتمثيل الدولة في المنتديات الأوروبية، وتحــول جــزء آخر ليلعــب دور الوســيط بين الثقافات، أما الذين اكتفوا بالشــعر مثلي فلم يصلحوا لشيء من هذه الأدوار.»

...

فأنا درويش لا شجر لي ولا حقائب وطعامي من هواء الناس ولأخرج في الصباح بدون إنذارت أو إشارات واضحة.

 ??  ?? فتحي عبد الله
فتحي عبد الله

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom