Al-Quds Al-Arabi

الاشتغال على خطاب الأزمة... معطى حكم يغيّب استحقاقات الثورة في تونس

- لطفي العبيدي * كاتب تونسي

ما أقــدم عليــه رئيــس الحكومة من خطوات غير منســجمة دســتوريا، دفعه إليهــا حزامه السياســي، بهــدف إعادة تشكيل مشهد حكومي بديل، فتحت المجال لمزيد من تعقيد الواقع السياسي، وأدخلت البلاد في أزمة حقيقية، كان من الأفضل أن لا يتم افتعالها بالنظر إلى ســوء مآربها، وشبهة تدبيرها أخلاقيا وأدبيا، ناهيك من خللها الإجرائي وتهافتها القانوني.

وقد اصطدمت مثل هذه الخطوات المتسرعة لهشام المشيشي، الــذي يبدو أنــه لا يمتلك قــراره، بموقف رئيــس الجمهورية، المتمسك بالخطوات الدستورية، والرافض لأي تخبط سياسي، أو مواقف مرتجلة، وقرارات تدبر وفق مناورات ذات طابع فئوي غنائمي، خارج إطار الدســتور، هدفها التمكين والسيطرة على مقاليد الحكــم، ولا علاقة لها بالمصلحة الوطنيــة، أو بما يخدم الشــعب ويرتقي بواقعه الاقتصادي المتــردي. وهو على يقين ثابت بأن إدارة الشــأن العام لا تقوم على تحالفات ومناورات، بل على قيم أخلاقية ومبادئ راسخة، لا يمكن أن تكون موضوع مســاومة أو ابتزاز، كمــا لا يمكن أن تكون الفوضــى طريقا إلى تحقيقها.

ومما يدعو للأسف، ضعف الأداء التشريعي والرقابي لمجلس النواب، واكتفاؤه بتقديم عــروض الفوضى والصراخ، ومُضيه في الصراعات الحزبية والاشــتغا­ل وفق منطق المحاصصة، في اختيار الحكومات، ومن ثم إسقاطها بين حين وآخر عملا بمنطق توفر الغنيمة من عدمه. وهي واقعية مبتذلة أســهمت في تغييب الاستقرار السياســي، وأربكت مؤسسات الدولة. وهناك إجماع واســع في تونس على أن النظام البرلماني المعدل، الذي وضعه أعضاء المجلس الوطني التأسيســي أخل بالأطر التعاقدية، ولم يخلق مشهدا سياســيا سليما وتشــاركيا، من شأنه أن يترجم خيارات عملية في الجانبين الاقتصــاد­ي والاجتماعي، بل على العكس من ذلك، فإنه عمق ما يطرأ على المشــهد السياســي من صعوبات، خاصة مشكلة غياب التوازن بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية برأسيها، وخلق صراعا على النفوذ ورصيد الصلاحيات.

وإذا كانت المتاهات السياســية التي تعيشها تونس تعود في معظمها إلــى مثل هذا النوع من الأنظمة السياســية، فقد أصبح بحاجة ملحة إلــى مراجعة وتعديل بمثل مــا يحتاجه القانون الانتخابي، خاصة بعدما كشــفه تقرير محكمة المحاســبا­ت من إخلالات وتجاوزات ارتكبها المترشــحو­ن للانتخابات الرئاسية الســابقة لأوانها، والمترشــح­ون للانتخابات التشريعية لسنة 2019، مسّت بشــكل جوهري بشرعية وشفافية تمويل الحملات الانتخابية. وفاقت تلك المســجلة في انتخابــات 2014، خاصة الإخلال بواجــب إيداع الحســابات لدى محكمة المحاســبا­ت، كمقوم أساسي للشفافية والمساءلة، واستغلال الموارد العمومية في الحملات الانتخابية، واستعمال التمويلات الخارجية المقنّعة عبر الجمعيات، والتعاقد مع شــركات الضغط الأجنبية للتأثير في الناخبــن، وغيرها من التجاوزات الخطيــرة التي تضمنها التقرير العام، والتي يُنتظر فتح التحقيقات اللازمة بخصوصها، ومحاســبة كل من ثبت تورطهم، وإعلام الــرأي العام بمآلاتها، ضمانا للمساءلة والحد من الإفلات من العقاب، وحماية للانتقال الديمقراطي من المال السياسي الفاسد.

النظــام السياســي الحالــي يثير عــددا من الإشــكالي­ات الدســتوري­ة، من حيــث توزيــع الصلاحيات بين الســلطتين التنفيذيتـ­ـن. وهنــاك نقاط تقاطــع تثير الإرباك بــن أجهزة الدولة، وهو مناخ اســتغله البعض للدفع نحو ثقافة سياســية جديدة تحت مســمى النظام المجلسي، الذي أصبح بدوره ينازع الأدوار، ويفتــكّ الصلاحيات، ويبتز الحكومــات، ويضعها بين خياري الولاء أو الاســتغنا­ء، ما تســبب في غياب الاســتقرا­ر الحكومي، وأفضى إلى عدد لا بأس بــه من الحكومات المتتالية، منذ ما يزيد عن سبع سنوات من تاريخ تفعيل العمل بالدستور. ومن الطبيعي أن يتواصل انســداد الأفق وتفاقم الفقر والبطالة وضعف المقــدرة الشــرائية واســتفحال الفســاد، فالأحزاب السياســية فشــلت في تغليب المصلحة الوطنية على مصالحها الضيقة، وهي إلى الآن تتحرك وفق منطق الغنيمة والمحاصصة، ولا تتحمل المسؤولية السياســية والأخلاقية في مرحلة الأزمة. وهي مرتاحة في اتباع السياســات نفسها التي كانت قبل ثورة ينايــر 2011، وفي الإبقاء على الخيارات نفســها، والاشــتغا­ل على خطاب الأزمة بشكل مســتمر كأداة لإدارة الحكم. متناسية مصلحة عامة التونســيي­ن الذين تملكهم الإحباط، وتدنت ثقتهم في مؤسســات المجتمع السياســي. وتفاقم الهوة يزداد بشكل مطــرد، مع تواصل ســلوك الابتزاز والمنــاور­ة من طرف بعض الأحــزاب، التي ترغب في تحصيل أكبر المكاســب السياســية. ومشــكلة التحوير الوزاري الأخيرة تأتي ضمن الدوافع ذاتها، التي تجعلها تفتعل الأزمة. ففي غياب المحكمة الدستورية، رئيس الجمهورية وحده الضامن لاحترام الدستور، وعملية تأويله هي من اختصاص رئيس الدولة، ولا مجــال أن يؤول غيره النص، خاصة ممن ليس لهم الصفــة أو الأهلية. ما بالك عندما تتجاهل عملية التحويــر الوزاري، التــي أقدم عليها رئيــس الحكومة بدفع من حزامه السياســي، الخطوات الدســتوري­ة المنصوص عليها. وفي انعدام الحل القانونــي، يرفض الأخير الذهاب إلى الحل السياســي، والتحاور مع رئيس الجمهورية لإيجاد مخرج للصدام القائم. ويفضل المشيشي الهروب إلى الأمام بإعفاء عدد من الوزراء، من الذين شــملهم التحوير، وهي سلوكيات عبثية تزيد في تعميق الأزمة السياسية وانسداد أفقها.

الانتقال الديمقراطي الحقيقي لا يعني المرور من نظام الحزب الواحــد إلى منظومة الفســاد الواحدة، ولا معنــى للإجراءات الشكلية التي لا تلامس الواقع. والوضع يقتضي تغيير سياسات الحكم، التي تســببت فــي الأوضاع الاقتصاديـ­ـة والاجتماعي­ة الراهنة، والبحث عن منوال تنموي مغاير، والكف عن التفويت فــي فرص الانتقال من طــور الأزمة إلى مرحلة ما من اســتقرار الدولة، وتثبيت مؤسســاتها. والمضي نحو حكومة إنجاز تهتم بالقضايــا الجوهريــة، وأهمها التشــغيل ومحاصرة الفســاد وإصلاح منظومة الحكم، ومراجعة السياسات العامة، وتطبيق القانون على الجميع بدون استثناء.

الأحزاب السياسية فشلت في تغليب المصلحة الوطنية على مصالحها الضيقة، وتتحرك وفق منطق الغنيمة والمحاصصة

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom