Al-Quds Al-Arabi

أنشهد نهاية اليسار في انتخابات فلسطين؟

- *كاتب فلسطيني

الذي مدّ يده وضغــط على يدي بقلق غيــر المصدق، وقال:» معقولــه.. معقوله دي يا حبيبي يا جواد»؟ أجبته بنعم؛ فهذا الصحافي يحترم ما ينشر، ولديه مصادر موثوقة، خاصة في الســاحة الأمريكية، ثم أن «هآرتس» ما كانت لتنشر مثل هذا التقرير على صفحتها الأولى لو لــم تكن متأكدة من صحته؛ وأخيراً فلماذا لا نصدق ونحن أصحاب حق في هذه القضية، ولا يوجد ســبب قانوني لعدم قبول قضيتنا. أعجبه كلامي. بدت علــى وجهه علامات فــرح طفولي، كانت تبــدو عندما كان يشــعر بفرح حقيقي. وقف، لكنه عاد وجلس وأستأنفنا الحديث حــول القرار وأهميته. وافقني على ضرورة الانتظار حتى صدور القرار بشــكل رســمي، وعدم الاكتفاء بما نشره ألوف بن، لكنه طلب من مســاعده أن يدعــو أعضاء القيادة، كما كان يســميهم، لاجتماع طارئ، ســيعقد في تمام الساعة الرابعة من اليوم نفســه في المقاطعة؛ ثم نظر إليّ وطلب مني الحضور، وكرر وعده السابق لي. وصلنا إلى قاعة الاجتماع، أنــا والمحامي الكبير علي الســفريني، الــذي أخبرني أن أبا عمار طلب حضوره أيضــاً. في القاعة وجدنا ممثلي الفصائل وقياديين آخريــن يحاولــون التكهن حول ســبب دعوتهم الطارئة. وقفت بينهم فســمعتهم غاضبــن على عرفات، ولم يخل كلامهم من انتقاد لطريقــة عمله، وبعضهم كان يتحدث ضده بحدة يســارية ثوريــة، وبامتعاض بــارز، حتى إنني توقعت، لوهلة، أن الاجتماع سيتحول إلى جملة من المناكفات والمصدامات، فالتزمت، بينهــم، الصمت وتصرفت في حدود الكياسة والمجاملات المطلوبة.

دخل أبــو عمــار القاعة وأخذ يســلم علــى الجميع وهم في مقاعدهــم.. كان كل واحد منهم يقف فــي مكانه ويرحب به مبتســماً.. أنهى التســليم وجلــس علــى رأس الطاولة وأجلســنا، أنا على يمينــه والمحامي علي على يســاره. بدأ حديثه بالترحيب بجميع الحاضريــن، وكان يتوجه أحيانا لبعضهم بأحاديث شــخصية أو بالمزاح، فبــدأوا واحداً تلو الآخــر، يبادلونه الحديــث، ويكيلون له المديح ويشــيدون بقيادته الحكيمة والرشيدة؛ ولم ينتقده أحد. أخبر أبو عمار الحضور بتوقعاته مــن محكمة لاهاي وأســهب حول معنى ذلك القرار، ووقعه القضائي والسياســي، ففهم الجميع أننا معه كمحاميين، لتعزيــز تقييماته؛ فكان عرســا وكان فرحا عظيمــا. ودّعتهم، وركبــت المصعد بصحبة صديق يســاري عتيق من أيام الشــباب. لم نتكلم كثيراً حــول ما حصل قبل وخلال الاجتماع، فقد نظر نحوي وتبســم لأننا كنا نعرف أن أحاديث «الملاهي» في فلســطين ليســت كأحاديث «المقاثي». رحل أبو عمار ومضت الســنون وما زال اليسار يمضغ روحه المتهالكــ­ة، بينما تعيش فلســطين على حد ســيفين حالة من «أنوماليــا» خبيثة ومهلكة، وتعاني مــن واقع هش كالندى، ومليء بالمرايا المحطمة التي أنســت الرائين إليها كيف تكون الحقيقة ومن هو القاتل ومن الضحية. في هذه الأيام نستقبل الشــتاء من جديد؛ فبعد أن أقنعنا شهر شباط/فبراير بأن في أحشائه تولد شــموس الصيف، زارتنا آخر عواصفه الباردة التي حملت معها أنفاس القطــب ورقائق الثلج الناعم، حتى غطى بياضها قمم جبال فلسطين العالية وأنسى الناس هموم لياليهم الســود. في بلادنا يكفي ســقوط زختي بَرَد غاضب فوق رؤوســنا، وإبالتي ثلج هناك علــى الجبل البعيد، حتى تســتقيظ غريزة الصحراء الدفينة بــن أضلعنا، ونعيش، في كل أماكن تواجدنا، كالأطفال الذين لا ينامون من شــغف وخوف وعيــد. كانت شــوارع القدس، خلال النهــار، تتهيأ لغزوة الجنــرال الأخيرة والبــرد كان يضــع أوزاره في كل الزوايا والحفــر، وصفير الريح يلهث بــدون انقطاع وكأنها كانت تهرب من عشيرة ذئاب جائعة. وتستمر نشرات الأخبار بتحذير المواطنين من آثــار العاصفة، وتنقل من باب الروتين فقط ، آخر التفاصيل عن أعداد ضحايا كورونا في فلســطين وإســرائيل وأعداد المصابين الجدد، وتختفي أمام تقدم الليل أخبار الانتخابات في فلســطين وإســرائيل أيضاً؛ فالليل في بلاد الوجع هو حضن العواصف والقلق.

كنت في البيت وحدي عندما ســمعت طارقــاً على الباب. كان موظف شــركة المياه واقفاً لتحيتي وللسؤال عن صحتي بعد أن ســمع من الجيران عن تراجعها في الأشــهر الأخيرة. طمأنته بصوت مقنع؛ فابتسم واستماحني بإلقاء سؤال آخر عليّ كان يشغل باله وهو متأكد انني أعرف الإجابة عليه: إذا كانت إسرائيل ســتعيد انتخاب بنيامين نتنياهو، وكم مقعداً ستحصد القائمة المشتركة في مقابل الحركة الإسلامية؟

أفهمتــه أن التكهــن في هــذه المرحلة المبكرة مســتحيل، والايــام المقبلة قد تكون حبلى بالمفاجــآ­ت، وحاولت أن أفهم سبب اهتمامه بالانتخابا­ت الإسرائيلي­ة وليس بالانتخابا­ت الفلســطين­ية، وسألته إذا كان سيصوت في فلسطين؟ لم يكن

واضحاً بإجابتــه، لكنه بدا كغير المؤمن بحصول الانتخابات الفلســطين­ية، وأكد في الوقت نفســه، على قناعته بأن تأثير نتائج الانتخابات الاسرائيلي­ة على الفلسطينيي­ن سيكون أهم وأكبر خاصة في السنوات القريبة المقبلة. لا أعرف لماذا تشعر قطاعات واســعة من الفلسطينيي­ن بأن الانتخابات عندهم لن تتم؛ فحتى مــن يثقون بقرار الرئيس محمــود عباس ومعه القيادات الفلسطينية على اختلاف مشاربها، وموافقة حركة حماس، يفترضــون أن هنالك من سيســعى لعرقلة العملية وإفشــالها؛ ولكن فلســطين التي وراء جبال الضباب تعيش حالة من أمل مشتهى؛ وليس بسبب وعود الانتخابات المقبلة بل أكثر بسبب هزيمة ترامب الطاغية الأرعن، وافتراضهم أن لا أسوأ منه في جهنم، فعســى القدر بعده يهديهم برزخاً من عدل وجنى. في الصباح، في رام الله أجمع وتمنى المشاركون على ضرورة إجراء الانتخابات، لأنها وإن لم تفض إلى إحياء ثورتهم النائمة، فإنها ستحرك مياهها الآسنة؛ لكنهم اختلفوا تقريبًا حــول جميع محــاور النقاش الأخــرى. لقد تحدثوا بألســنة مختلفة، فبعضهم كان في الثلاثينيا­ت أو أكبر قليلًا، يفتقــرون، هكذا بدا واضحــاً، إلى لغة فلســطين التاريخية السياسية، فناقشــوا زملاءهم، ممن كانوا في عمر الاحتلال، بلغــة الحاجــة والعواطف وكمواطنــن وعوا علــى الدنيا بعد أن تحولت الثــورة، حلم أبائهم، إلــى ذكرى انتفاضات عابرة، وإلى ســلطة، وتحــول العرب من أشــقاء إلى قبائل عابــدة وعابرة. وقفت، في منتصف الليــل، أمام نافذتي ألملم أطراف النهار وتذكرت حين سألني صديقي اليساري العتيق في مصعــد المقاطعة، أننا نعرف الصوت الــذي تحدثه يدان تصفقان معاً، ولكن ما هو الصوت الذي تحدثه يد واحدة حين تصفق؟ كانت الريــح فوقي تعوي هوجاء مذعورة، والبيوت مخفية في المــدى تحت عباءات رمادية، والأرض تلمع بعد أن غسلها شيخ أبيض ورحل؛ في الفضاء تتماوج مشاعل ناعسة بدت كفنارات بعيدة، وفي الشارع أمامنا خرج بعض الأطفال، رغم البرد القارس، كي يفتشــوا، في العتمة، عن حلم لم ينم ،وعن غد هارب؛ لكنهم لم يسمعوا مثلي، صدى الأيام المبحوح الآتي من بعيد وأنات الزنابق الكسيرة.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom