Al-Quds Al-Arabi

من بحر الجزائر إلى صحرائها: تضاريس الوجه المجروح

-

■ ينطلــق الطريــق الوطنــي رقم )1( مــن الجزائر العاصمــة وصولاً إلى دولة النيجر، يمتد من ســاحل متوســطي إلى مجاهيل الصحراء، التــي تفتح الباب على بلاد الســمر، بطول يربو عن ألفــي كيلومتر، هذا الطريق ليــس محصوراً في أســفلت، ولا في عجلات المركبــات التي تعبره كل يوم، فــي الاتجاهين، بل هو أيضاً طريق تطوف فيه قصص وحكايات وأساطير، بعضها وثقهــا العابــرون، والبعض الآخــر تغاضوا عنهــا، ليــس أرضــاً متاحة للســاردين وحدهــم، بل أيضاً للكاميرات، وقد صورت فيه أشــرطة، وســافر فيــه مخرجون بحثاً عن ســيناريوه­ات لهــم، في هذا الطريق قد تبدو المشــاهد عادية، إننــا نعبر من مدينة لأخرى، نتوغل فــي بطن الجزائر لا أكثــر، ننزاح من جبال أطلــس تليٍ إلــى جبال أطلس صحــراوي، من منــاخ رطب إلى منــاخ جاف، لكن عين الكاتب ليســت نفســها عين مســافر عادي، فقد حولــت زهية منصر من رحلتها على هذا الخط الممتد مثل أفعى لا رأس لها حكاية، التقطت دفترا وكاميرا وغامرت نحو ســلطنة الرمال والظلال والماء القليل، ووثقتها في كتاب «يوم التقيت ألبيرتو مورافيا في الصحراء» (ضمة، 2020.)

«رسائل من الصحراء»

ســافرت الكاتبة، فــي الحافلة، مــن العاصمة إلى تمنراســت، مرفقــة بكتاب «رســائل مــن الصحراء» لألبيرتــو مورافيــا، حســمت مــن الوهلــة الأولــى لانطلاقتهـ­ـا أن تغــوص فــي رمــل تحت حــر وقيظ، تســتمع إلى عزف عود )علا( أو عبد العزيز عبد الله، ســاحر تلك الفيافــي، الــذي امتلك معجــزة أن جعل للعود لغــة، أن جعله يتكلم، أن يبصر من عوده موطن أجداده المتــواري خلف جبال، في تلــك الثنائية التي تنطلــق منها زهية منصر، مــن مورافيا وعلا، يمكن أن نتحسس مواطن البهاء الصحراوي، يمكن أن نسافر ونحــن لا نــزال نضطجــع فــي أمكنتنا في الشــمال، تكاد تكــون الصحراء الجزائرية مرادفاً لموســيقاه­ا،

لــم يصلنا منهــا ما يكفي مــن آداب ومــن كتابات، لم يهتم الطوارق كثيراً برقــن نصوصهم أو إتاحتها إلى غيرهم، مانعوا وقاوموا وحفظوا أدباً شــفوياً، لذلك تبدو الموسيقى، وصلة لا غنى عنها في التحاور معهم، في فهم صمتهم وصخبهم، في الإمساك بخيط يجرنا إلى بواطن نفوسهم، فالمواطن التائه في ذلك الجنوب الكبير، حيث لا يســقط مطر، لم يهتم كثيراً بالتعريف بنفســه، راضياً بما وهبته له الجغرافيا من سعة ومن فســاحة، متصالحا مــع مــن يشــبهه، متواضعاً في عيشه، وغير مبالٍ بلعبة الظهور والصور، التي تسكن قلــوب من يقطــن الشــمال، وذلك مــا تقر بــه المؤلفة نفسها، فقد خلصت في رحلتها، قائلة: «اكتشفت كم نحن سكان الشمال جاحدون للنعم.»

مدينة غرداية

الطريــق إلــى تمنراســت يمــر بمدينــة غردايــة، بقصورهــا التي تعــود إلى مئــات الســنين، بمذهبها الإباضــي، بخليطهــا الســكاني، الــذي كرســت له الكاتبة فصلاً، في توصيف تلك البقعة التي لا يمكن أن تغفلهــا عين، إنهــا واحة من التعــدد، من انكفاء ناســها على تسيير ذاتي لشؤونهم، تتخلله حدائق نخيل وأســواق يجتمع فيها البشر كل حين، مدينة كان بالإمكان أن تتحول إلى وجهة ســياحية، في بلد لا يكاد يؤمن بالســياحة ـ ذلك ما لا حظته منصر ـ كل مــا تحتاج عين النظر إليه توفره غرداية، لكنها لا تزال منطوية على نفســها، مكتفية بســاكنتها، لم تفلح في الترويج لنفســها، كما لم تدرك الســلطة ما تفقده من تعتيــم الضوء عليها، غرداية التــي كانت دائماً محجاً للاختلاف تعيش في ظلها، غير قادرة على الانسحاب ولو قليلاً إلى النور، وهي وجهة رحالة وكتّاب قدامى، هناك جرت بعض وقائــع أول رواية كتبت في تاريخ الجزائر بداية القرن العشــرين )خضرة، رقاصة أولا نايــل( تقيم غرداية اليوم في صمتها، وفي شــعورها بــأن حاضرها لا يســاوي شــيئاً إزاء ماضيها، وتلك الحالة تقتسمها معها بقاع الجنوب في غالبيتها، فقد

كانــت المحطــة المواليــة مدينــة )عــن صالح( ذلك البئر الشاســع من الغــاز الطبيعي، الذي تصل خيراته إلى أوروبا، لكن كيف يعيش أهلها؟

مدينة عين صالح

إن الوجــه المضيء لمدينة عين صالح، الذي تلوح به للناظر، يواري ندوباً لا يفقهها ســوى من دخل إليها، فهــذه المدينة، علــى الرغم ممــا يغدق بــه جوفها من محروقات، التي كان بالإمكان أن تنعم عليها وتحولها إلــى عاصمــة، لا يــزال المقيمــون فيهــا يســتدفئون بالحطب، يقاومون شظف العيش، تلك المشاهد التي تكتبها منصر عن عين صالح تبعث في القلب شــعوراً

بالخذلان، مشــاهد من القسوة ومن مشاق العيش، لا يتخيلها من يســمع أننا نتحدث عن مصــدر الغاز في البلد، إن مدينة تثير الــدفء في منازل الغربيين تحيا تحت رغبة شبابها في تناسي حاضرهم، لم تكن عين صالح ســوى عتبة أولــى قبل الوصول إلــى الوجهة النهائية:

تمنراســت، التــي زاد ضجيجهــا فــي ســنوات أخيرة، بحكم أنها مقصد ســياح أجانب، يقصدونها خصوصا في أعياد رأس العام، لكن بمجرد أن ينتهي موســم الســياحة القصير تعود إلى خمولها المعتاد، حيــث تطفــو أســواق التجــارة باللذات والشــهوات وحيث نسوة يهبن أجسادهن مقابل الدينار تحاشياً للفقــر، حيث كل الأشــياء قابلة للبيع، وتجار الســلع المهربة يحرســون المــكان مثل حــارس مرمى يحرس شباكه. شــيئاً فشــيئاَ، يختفي ذلك الشــعور الأولي بالبهجة التــي تهب ريحها من الصفحــات الأولى من «يوم التقيت ألبيرتو مورافيا» تتحول صور الصحراء إلى صور مقاســاة، حيث الطبيعــة تتحالف مع ضيق العيــش، كــي تصنــع يوميــات جزائري لم يــرث من تاريخه ســوى رغبة فــي محوه، يتحول الشــعور من لذة السير في البقاع الخالية، إلى خوف من أن تتفتق أمام أعين القارئ مشــاهد أكثر إيلاما مما سبق، ذلك الوجه الجميل الذي تحيلنا عليه الخريطة، والبطاقات البريديــة والصــور الســياحية عن الصحــراء لم يكن ســوى مســاحيق تخفي قلة حيلة الصحراوي، الذي نعم بكل شــيء وأفقر من حقه كاملا في توزيع عادل للخيرات التي تنام تحت قدميه.

 ??  ?? مدينة غرداية
مدينة غرداية
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom