Al-Quds Al-Arabi

الأزمة السياسية في تونس تتصاعد وتجربة الرباعي الراعي للحوار الوطني السابق تطرح نفسها من جديد

لا يبدو أن هناك حلا للأزمة السياسية خارج إطار تنازل قد يحصل نتيجة لحوار جامع أو لقاءات ثنائية تساهم في إذابة الجليد في ظل غياب المحكمة الدستورية العليا.

- تونس ـ «القدس العربي»: روعة قاسم

تعيش تونس على وقع أزمة سياسية جديدة لا تقل خطورة عن الأزمات السابقة التي عاشها البلد وكادت تؤدي به إلى ما لا يحمد عقباه. وتتمثل الأزمة هذه المرة في رفض ساكن قرطاج الجديد قيس سعيد استقبال الوزراء الجدد، الذين اختارهم رئيس الحكومة هشام المشيشي ونالوا تزكية البرلمان، لأداء اليمين أمامه وفق ما يقتضيه الدستور التونسي الجديد.

ويشار إلى أن التعديل الــوزاري الأخير قد أطاح بالوزراء المحسوبين على رئيس الجمهورية وهو ما يفسر تصلب موقف قيس سعيد في مسألة أداء اليمين باعتبار أن الوزراء الجدد هم خيار خصومه وتم تعيينهم لتعويض وزرائه في هذه الحكومة. لكن ساكن قرطاج الجديد تحجج بوجود شبهات فساد تطال بعض هؤلاء الوزراء الجدد وهو برأيه السبب الحقيقي في جعله يرفض استقبالهم من أجل أداء اليمين وفق ما ينص عليه الدستور.

والحقيقة أن الدستور التونسي الجديد يمنح رئيس الحكومة الحرية المطلقة في اختيار وزرائـه وفي أي تعديل يرغب في القيام به دون العودة إلى رئيس الجمهورية، باستثناء وزيــري الخارجية والدفاع اللذين يختارهما رئيس الجمهورية باعتباره المسؤول الأول عن السياسة الخارجية وأيضا القائد الأعلى للقوات المسلحة. لكن فشل الحزب الأول، أي حركة النهضة، في نيل تزكية البرلمان لمرشحها لرئاسة الحكومة الحبيب الجملي ولتركيبته المقترحة، نتيجة صراعات داخلية بين أجنحة الحركة، أعطى المبادرة لرئيس الجمهورية لتسمية رئيس الحكومة تطبيقا لأحكام الدستور.

وبالتالي فقد اختار قيس سعيد في البداية إلياس الفخفاخ الذي شكل حكومته ونال تزكية البرلمان، لكن شبهة فساد أجبرته على الاستقالة وخلقت نوعا

من العداوة السياسية بين الرئيس سعيد الذي اختار الفخفاخ، وحركة النهضة التي حركت ملف شبهة الفساد المتعلق به. ثم عادت المبادرة مجددا إلى سعيد فسمى مستشاره الأسبق هشام المشيشي لتشكيل حكومة جديدة من غير المتحزبين ومن المقربين من محيط ساكن قرطاج، ونالت الحكومة ثقة البرلمان لكن رئيسها تقارب مع حركة النهضة وحليفها حزب قلب تونس الذي يرأسه منافس سعيد في الانتخابات الرئاسية نبيل القروي، أي مع الفريق السياسي الذي لا يرغب قيس سعيد في التواصل معه.

واعتبر قيس سعيد أن هشام المشيشي قد تنّكر لوعوده معه حين ارتمى في حضن غريمه نبيل القروي رئيس حزب قلب تونس المتحالف مع حركة النهضة، وذلـك بعد أن أحـاط رئيس الحكومة نفسه بحزام سياسي مشكل بالأساس من الحزبين المذكورين الفائزين بالمرتبة الأولــى والثانية في الانتخابات التشريعية، وتجاهل حليفي الرئيس، أي التيار الديمقراطي وحركة الشعب. وما زاد الطين بلة أن التغييرات الوزارية تناغمت مع التحالف الجديد لهشام المشيشي حيث تم تعويض وزراء قيس سعيد الذين فرضهم عند تشكيل الحكومة بوزراء محسوبين على حركة النهضة وحزب قلب تونس، وهو ما يفسر هذا التعنت من قبل رئيس الجمهورية في استقبال الوزراء الجدد لأداء اليمين.

ولعل غياب المحكمة الدستورية العليا التي كان من المفروض أن يتم تشكيلها بعد ستة أشهر من إقـرار دستور سنة 2014 وتعطلت بسبب الخلافات السياسية، هو الذي فاقم الأزمة السياسية في البلاد. ففي غياب هذه المحكمة بات كل يؤول هذا الدستور على هواه بداية من رئيس الجمهورية وصولا إلى أساتذة القانون الدستوري من الصف الرابع والخامس ناهيك عن القيادات الحزبية ومحللي البرامج السياسية في مختلف وسائل الإعلام.

والحقيقة أن الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي عاش تجربة مشابهة لتلك التي يعيشها اليوم الرئيس قيس سعيد وذلـك حين انقلب عليه رئيس حكومته يوسف الشاهد وشــقّ صفوف حـزب نــداء تونس إلى نصفين بدعم من حركة النهضة وشكل حكومة جديدة استبعد منها المقربين من السبسي. لكن الباجي غلب يومها المصلحة الوطنية وتصرف كرجل دولة واستقبل وزراء الشاهد في قصر قرطاج ليؤدوا اليمين

رغم أنه لم يكن راضيا عن تركيبة الحكومة ولا على ما فعله رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد.

ويرى البعض أنه خلافا للشاهد الذي كانت لدى حزبه كتلة وازنة داخل البرلمان، هي كتلة نداء تونس، وانقلب رغم ذلك على ولي نعمته قايد السبسي فقط للحفاظ على كرسي القصبة بما أن الأخير كان راغبا في استبداله، فـإن رئيس الحكومة الحالي هشام المشيشي لا يـام على ابتعاده مسافة عن رئيس الجمهورية قيس سعيد، الذي قام بتسميته واختاره من خارج اقتراحات الكتل النيابية والأحزاب، ولا على ارتمائه في حضن الأحزاب السياسية التي هي على خلاف مع رئيس الجمهورية.

فالمشيشي بحاجة إلى حزام سياسي من الأحزاب البرلمانية داعم لحكومته حتى ينال تزكية البرلمان ويستطيع تمرير مشاريع القوانين كي تؤدي حكومته عملها في أفضل الظروف ودون عراقيل. ومنطقيا، وبما أن المشهد البرلماني منقسم وتنخره التكتلات المتضادة، فإن الفريق الأكثر تمثيلا داخـل البرلمان والذي لديه القدرة على تأمين نجاعة العمل الحكومي هو فريق حركة النهضة، قلب تونس وائتلاف الكرامة، أي أصحاب المراتب الثلاثة الأولـى في الانتخابات التشريعية الأخيرة.

ولعل فشل حكومة الفخفاخ فـي تمرير أغلب مشاريع القوانين التي تم عرضها وهي التي تشكلت من الحزبين المقربين من الرئيس سعيد أي التيار الديمقراطي وحركة الشعب بالإضافة إلـى حركة النهضة التي تـواجـدت فيها على مضض، يجعل المشيشي لا ينحاز إلـى الأحــزاب القريبة من قصر قرطاج وإلى ساكن قرطاج. وبما أن حركة النهضة، وبعد تجربة حكومة الفخفاخ، قد توصلت إلى قناعة مفادها أنه لا يمكن النجاح في الحكم دون احترام إرادة الصندوق وتأمين دعم أكبر قدر من النواب من خلال تشريك حزب قلب تونس وائتلاف الكرامة، فقد وجد المشيشي نفسه، في نظام هو أقرب إلى البرلماني مضطرا للتحالف مع حزب قلب تونس الذي يبدو أن رئيس الجمهورية يناصبه العداء.

وعلى غـرار المشيشي فإن ما يعيبه قيس سعيد بالأساس على حركة النهضة هو تخليها عنه وعن الأحزاب الحليفة له، وتحالفها مع حزب منافسه في الانتخابات الرئاسية نبيل القروي، أي قلب تونس. ويؤكد أغلب العارفين بالشأن التونسي على أن الخـاف بين الحركة الإسلامية التونسية وساكن قرطاج سينتهي بمجرد أن تعلن النهضة عن فكها للارتباط مع نبيل القروي وتعود إلى تحالف حكومة الفخفاخ لتؤمن له الأغلبية النيابية.

ولا يبدو ما قام به المشيشي والمتمثل في الاستغناء عن الوزراء الذين رفض سعيد أن يؤدوا اليمين أمامه، ومنح حقائبهم بالنيابة إلى وزراء من داخل الحكومة مباشرين لحقائب أخــرى وأدوا اليمين في وقت سابق، حلا لإنهاء هذه الأزمــة المستفحلة. فـالأداء الحكومي سيصاب بالشلل لعدم قدرة بعض الوزراء على الاضطلاع بحقيبتين في نفس الوقت ولأن الأمر لا يقتصر على وزارة أو وزارتين تداران بالإنابة بل على عدد هام من الوزارات ومن بينها وزارات سيادية على غرار العدل والداخلية.

وتـؤكـد أطـــراف عـديـدة على أن خيار التضحية بالمشيشي وتقديمه ككبش فداء يبقى قائما لتجاوز هذا الشلل السياسي الذي تعاني منه البلاد خاصة وأن تاريخ تونس الحديث يثبت على أن صاحب القصبة هو الطرف الأضعف في المعادلة السياسية التونسية ماضيا وحاضرا. ولعل السؤال الذي يطرح هو أنه في حال تمّ سحب الثقة من حكومة المشيشي وتكليف شخصية أخرى بتشكيل الحكومة هل ستكون على أساس تحالفات حكومة الفخفاخ التي عجزت عن تمرير مشاريع القوانين باعتبارها تشكلت إلى جانب حركة النهضة من الحزبين الرابع والخامس؟ أم أنها ستتشكل بناء على توافقات حكومة المشيشي فتجد الصدّ من قيس سعيد الذي قد يرفض مجددا استقبال وزراء هذه الحكومة لأداء اليمين بما أنها مدعومة من حزب قلب تونس؟

لا يبدو أن هناك حلا في الأفق خارج إطار التنازل من هـذا الطرف أو ذاك ـ وقـد يحصل هـذا التنازل نتيجة لحوار جامع أو لقاءات ثنائية تساهم في إذابة الجليد في ظل غياب المحكمة الدستورية العليا. فهل تكون مبادرة الاتحـاد العام التونسي للشغل سببا في حلحلة الأوضــاع؟ أم أننا سنعود إلى الرباعي الذي رعى الحوار الوطني في السابق خاصة بعد لقاء الرئيس قيس سعيد مع عميد الهيئة الوطنية للمحامين إبراهيم بودربالة وإعــان الأخير عن عزمه إطلاق مبادرة بالتشاور مع أطراف أخرى؟

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom