الانتخابات الفلسطينية والبعدان الإقليمي والدولي
سؤال تداوله كثير من الكتاب والمعلقين بنوع من الاستهجان. كيف لقيادة السلطة الفلسطينية بـعـد أن أعـلـنـت «وقــــف العمل بالاتفاقيات مع إسرائيل» يوم 19 أيار/مايو وعقدت اجتماعا للأمناء العامين للفصائل يوم 3 أيلول/ سبتمبر وأعلنت عن تشكيل قيادة ميدانية موحدة أصــدرت بيانها الأول فـي 13 مـن نفس الشهر، عادت وتراجعت عن كل ذلك دفعة واحدة، عندما أعلن حسين الشيخ يوم 17 تشرين الثاني/نوفمبر أن السلطة وصلتها تأكيدات بالتزام إسرائيل بالاتفاقيات الموقعة مع الفلسطينيين ولذلك قررت العودة لاستلام أمــوال المقاصة وإعــادة التنسيق الأمـنـي. بهذه السرعة انتقلت السلطة الفلسطينية من النقيض إلــى النقيض بعد فوز بـايـدن فـي انتخابات الرئاسة الأمـريـكـيـة وبـــدأت تعد نفسها لتغييرات جذرية مقبلة وكأن الحل السياسي على الأبواب.
ومـتـابـعـة لــهــذه الـتـغـيـيـرات الـكـبـرى، أعلن الرئيس محمود عباس، يـوم 15 كانون الثاني/ يناير في مرسوم رئاسي، تنظيم الانتخابات التشريعية في 22 أيار/ مايو ثم الرئاسية يوم 31 تموز/ يوليو ثم استكمال أعضاء المجلس الوطني 31 آب/أغسطس. حركة «حماس» التقطت المبادرة ورحبت بها متراجعة عن شرطها الخاص بإجراء الانتخابات الفلسطينية التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني بالتزامن، ووافقت على عقدها بالتتابع بعد أن تلقت «ضمانات عربية ودولية» تتمثل في «الالتزام بإجراء الانتخابات بشكل متتابع، والمراقبة والإشراف على الانتخابات، وضمان النزاهة والــعــدالــة» كما صــرح متحدث رسمي باسم حماس.
قامت القاهرة بدعوة ممثلي 14 فصيلا لإجراء حوارات يومي 8 و 9 شباط/فبراير. وصدر عن اللقاء بيان إيجابي يدعو إلـى تشكيل محكمة خاصة بالانتخابات. كما وعــد البيان «بــإطــاق الحريات العامة وإشـاعـة أجـــواء الحرية السياسية التي كفلها القانون والإفراج الفوري عن كل المعتقلين على خلفية فصائلية أو لأسباب تتعلق بحرية الــــرأي، وضمان حق العمل السياسي والوطني للفصائل الفلسطينية كافة في الـضـفـة الـغـربـيـة وقــطــاع غــزة، والتوقف عن ملاحقة المواطنين على خلفية الانتماء السياسي أو الرأي، بما يوفر بيئة ملائمة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة». وجاء في البيان أن جولة ثانية من المحادثات ستنعقد في آذار/مارس المقبل. الملك الأردني مع الرئيس الفلسطيني نوفمبر الماضي
هــذه السرعة فـي التحركات الفلسطينية لـم تــأت مـن فــراغ. بــل تـزامـنـت مــع انـتـخـابـات جو بايدن والإشـــارات التي أطلقتها حملته الانتخابية بأنه سيسعى لاســتــئــنــاف المـــفـــاوضـــات بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، وأن مـرحـلـة تــرامــب وقــراراتــه الأحادية بالتنسيق مع إسرائيل فقط انتهت. ففي فـتـرة ترامب خرجت الحركتان الإساسيتان فـي الساحة الفلسطينية، فتح وحـمـاس، ضعيفتين مكسورتي الجــنــاحــن بـسـبـب سـيـاسـات ترامب في الضغط على السلطة الفلسطينية بقطع المعونات المالية مـن جهة وخلق حقائق جديدة عـلـى الأرض تتعلق بـالـقـدس والمستوطنات فيما جمعته مبادرته «صفقة الـقـرن». إسرائيل أيضا استغلت وجــود تـرامـب فعززت الاستيطان وسارعت في تهويد القدس وتوسيع دور المستوطنين وتشديد الحصار على غزة حتى بات المواطنون هناك يتذمرون علنا من شدة المعاناة التي رزحوا تحتها خلال أكثر من 13 سنة من الحصار القاسي ويضعون جزءا أساسيا مــن الــلــوم على حـركـة حماس، سلطة الأمر الواقع، حيث انطلقت مظاهرات عدة مرات تحت شعار «بدنا نعيش» قمعت بالقوة.
من جهة أخــرى بـدت السلطة الفلسطينية مـتـآكـلـة هــرمــة، مبعثرة فاسدة، فقدت الكثير من مصداقيتها لتمسكها بالتنسيق الأمني رغم كل جرائم إسرائيل. كما أن شرعية المؤسسة الرئاسية تـكـاد لا تقنع أحـــدا بــدورهــا أو أهميتها بعد الاستيلاء على السلطة لمدة 16 سنة. وكم مرة وعد عباس أن يحتكم لصناديق الاقتراع ولا يلبث أن يـتـراجـع؟ وحـتـى هذه اللحظة ما زال الكثيرون يشككون في إمكانية عقد انتخابات حرة وعادلة ونزيهة من دون أن يتدخل فيها عـبـاس وأجـهـزتـه الأمنية لتفصيلها على مقاسهم.
إذن مع مجيء بايدن وجدت السلطة الفلسطينية وحـركـة حماس فرصة لتجديد شرعيات عفى عليها الزمن ولـم تعد تقنع أحدا. ومن هنا جاء التجاوب مع الضغوط أو النصائح الإقليمية والدولية لتجديد شرعية السلطة الفلسطينية بـشـرط أن تدخل حـــركـــة حـــمـــاس بــيــت الـطـاعـة وتشارك في العملية السياسية تحت سقف أوسلو الذي ما فتئت تنتقده ورفضت المشاركة في أول انتخابات تشريعية عام 1996 لأنها تنعقد تحت سقف أوسلو.
بعد صـدور المرسوم الرئاسي حول الانتخابات وصل إلى رام الله يوم 17 كانون الثاني/يناير كل من رئيس جهاز المخابرات العامة المـصـريـة، الــوزيــر عباس كامل، ورئيس جهاز المخـابـرات العامة الأردنــيــة، الـلـواء أحمد حسني، واجـتـمـعـا مــع الــرئــيــس عباس بحضور رئيس جهاز المخابرات العامة الفلسطينية اللواء ماجد فــرج، تحت حجة التشاور حول الانتخابات. لكن الواضح أن هناك رسائل مهمة يحملها الوفدان حول ترتيبات الوضع الفلسطيني كما تراه المحاور الإقليمية في المنطقة وأهمها: المحـور المصري الأردنـي المـدعـوم من السعودية والمكلف بإيصال الرسائل لرام الله والمحور التركي القطري المكلف بالتواصل مع حركة حماس وفصائل قطاع غزة.
لقد تمكنت أنــقــرة مــن إقناع حماس بالدخول في الانتخابات للتحضير لمسار سياسي يدشن في عهد بايدن. فقد كانت هذه المحاور على اتصال مباشر مع فريق بايدن حتى قبل فــوزه في الانتخابات الـرئـاسـيـة، وتـوصـلـت لمجموعة تفاهمات تتعلق بعملية السلام وعــودة المفاوضات على أساس حل الدولتين. كما أن تركيا أيضا تحاول أن ترتب علاقاتها المتوترة أصـا مع بايدن وقـد وجــدت أن التهدئة مع إسرائيل هي أقرب الـطـرق للوصول إلــى واشنطن. ومن جهة أخـرى انخفض التوتر بين مصر وتركيا لدرجة كبيرة توج بلقاء لمسؤولي مخابرات البلدين في الجزائر.
المصالحة الخليجية التي قربت قطر من محورها الخليجي سهلت كذلك قبول حماس الدخول في توافق مع فتح حيث تلتقي جميع هـذه الأطـــراف على فكرة ترتيب الأوضـاع الفلسطينية للاستفادة من فترة بايدن لإيجاد حل توافقي يقبل بــه الفلسطينيون بعيدا عن أسلوب الارتمـــاء على أقـدام إسـرائـيـل التي قـادتـه الإمـــارات ولحقت بها البحرين ومن بعدهما الـسـودان والمـغـرب والــذي يقوم على أسـاس التخلي عن القضية الفلسطينية تماما ووضع مصالح الدولة ذاتها فوق كل اعتبار.
هذا التوجه لم يعد نافعا في عهد بايدن، ولذلك عادت مصر والأردن بدعم سعودي للعب الدور المحوري في موضوع الدفع بالفلسطينيين لترتيب البيت الداخلي، كما التقت مصالح تركيا مـع هــذا التوجه وبـــدعـــم قــطــري لإقـــنـــاع حـركـة حماس بمد اليد لعباس وخوض الانتخابات بشكل مشترك لرفع الضغط الشعبي عنها مـن جهة والعودة للعمل تحت قيادة ائتلاف وطني واسع لا تقوده حماس كما حصل عام 2006 ولكن تكون فيه لاعبا رئيسيا وعاملا ضاغطا يفرمل تهور القيادة في القبول بحلول غير مقبولة للشعب الفلسطيني. ويبدو أن حركة حماس تميل إلـى عدم ترشيح قيادات الصف الأول، في قائمتها للانتخابات التشريعية وأنها سترشح فيها شخصيات من الصف الثاني والثالث إضافة إلـى عـدد من المستقلين من ذوي الـكـفـاءات. ومـن شبه المؤكد ألّا تـطـرح حـمـاس مرشحا لمنصب الرئيس، وتترك الأمور لحركة فتح وستضع ثقلها خلف من ترى أنه الأفضل للتعامل معه مستقبلا. باختصار تريد حماس ألا تكون وراء عجلة القيادة
ولكنها في مقصورة القيادة. فقد تعلمت الــدرس القاسي من انـتـخـابـات 2006 عندما فــازت وانقلب ذلك الفوز وبالا عليها من القريب والغريب.
الــســيــنــاريــوهــات المـطـروحـة الآن، أن إدارة بـايـدن لـن تعطي الــشــرق الأوســــط أهـمـيـة كبرى فلديها ملفات أكثر إلحاحا على رأسها الملفات الإيرانية والصينية والـروسـيـة وإنــهــاء الحـــرب في اليمن والانسحاب من أفغانستان. وستحتاج هذه الإدارة عدة شهور لوضع سياستها الشرق الأوسطية المتعلقة بـالـصـراع الفلسطيني الإســرائــيــلــي مــوضــع التنفيذ. وستحدد تلك الخطوات بناء على ما تفرزه الانتخابات الإسرائيلية أولا ثـم الانتخابات التشريعية الفلسطينية )على فرض أنها ستمر بسهولة( ثم الانتخابات الرئاسية التي يأمل كل الأطـراف الإقليمية والدولية أن تعطي شرعية جديدة لعباس ليدخل نفق المفاوضات من جديد مسلحا بشرعية مستجدة تؤهله لتقديم تنازلات كبيرة قد لا يوجد قائد فلسطيني آخر يستطيع تقديم مثل هـذه التنازلات المؤلمة بدفع من المحــاور الإقليمية. لكن السؤال هل الشعب الفلسطيني وقـواه الحية ومناضلوه وأسراه سيقبلون بمثل هــذه الصفقات الخطيرة التي لا تعيد الحقوق ولا تفرز دولة مستقلة متواصلة قابلة للحياة وعاصمتها القدس الشرقية؟