Al-Quds Al-Arabi

«مانهاتن» رؤية وودي ألن السينمائية في نقد المجتمع الأمريكي

- كمال القاضي

إذا كـان العرض الأخير لفيلم «مـانـهـاتـ­ن» للمخرج الأمريكي وودي ألن في نادي «الجزويت» الثقافي بالقاهرة يستدعي إعادة قــراءة الفيلم في ضـوء ما ثبتت صحته مـنـذ عـــام 1979 وحتى الآن، فإن الأمر يستحق الاحتفاء بأفلام هذا المخرج المتمرد، كل فيلم على حـدة. وفي هذا الصدد لابد من الإشــارة إلى الدراسة القيمة التي أعدها الكاتب الكبير الراحل الدكتور عبد الـوهـاب المسيري، حيث فند أفـام ألن تفنيداً ذكياً وفتش في مضامينها عن موقفة من السياسة الأمريكية ورفضه للفكرة الرأسمالية التي تحولت بموجبها كـل الأشـيـاء إلــى سلع استثمارية قابلة للبيع والتداول والمراهنة.

وقــد كشف فيلم «مانهاتن» تحديداً وفق السيناريو المكتوب بعناية والحالة الإبداعية الُمجسدة عـن الــرؤيــة التهكمية الساخرة لـلـمـخـرج الُمــنــحــد­ر مـــن أصـــول يهودية وأسلوبه اللاذع في النقد الاجتماعي للظواهر المادية الحاملة للمضامين السلبية والُمعبرة عن نـوازع الاستغلال في الشخصية الأمريكية والُمنسحبة على المجتمع كله. فالفيلم يقدم رؤية تاريخية شبه وثائقية بالأبيض والأسـود لأهم الأحياء بولاية نيويورك، حيث يُعد الحي التاريخي العتيق مركزاً مهماً للمال والتجارة والحسابات والأرقــام والُمعاملات المادية على أعلى مستوى، فضلاً عن أنه موطن إقامة وودي ألن نفسه، ومن ثم فهو القادر على رصد سير الحركة التجارية به وما يتعلق منها بالحياة الاجتماعية وشكلها وملابساتها. غير أن ألن لم يكتف بمجرد الرصد التسجيلي والتوثيقي لكنه ذهب لمـا هـو أبـعـد مـن ذلــك ليدلل من خلاله على وجهة نظرة الُمتعارضة تماماً مع نمط الحياة الأمريكية بقسوتها وعنفوانها وصلفها، وأيضاً تحررها الزائد والقريب من الانحلال على حد ما جاء في المعاني الُمتضمنة داخـل السياق الــدرامــ­ي والــدلالـ­ـي للفيلم المثير للجدل والوعي.

لقد ركز الفيلم على تراجع القيم الأخلاقية نظراً لنسبية الحكم على معيار الأخلاق ومفهوم الاستقامة، والخلط بين الحرية والإباحية. فــالــزوج الـــذي يمـيـل إلـــى المــرح

ويفضل الحياة العائلية، تتركه زوجته لتقيم علاقة مثلية مع إحدى صديقاتها، وفـي النهاية تؤلف كتاباً عن تفاصيل هـذه العلاقة بحجة أنها تقدم نفسها بصراحة ووضوح بلا أدنى محاولة للكذب أو التجميل، فهكذا تضع البطلة العلاقة المثلية المرفوضة في سياق معكوس كمعيار للحرية وتعتبر الــشــذوذ مجرد اختيار لإشباع الرغبة الجنسية المريضة وهو ما يتحفظ عليه وودي ألـن نفسه، إذ يقدمه بشكل ساخر كنايه عن رفضه الكامل لاقترانه بمفهوم الحرية الإنساني.

ولكي يؤكد ذلك جعل العلاقة المـــوازي­ـــة تتمحور حـــول الفتاة الصغيرة ابنة الثمانية عشر ربيعاً التي تميل بإحساسها البريء ومشاعرها النقية الفياضة للبطل الـذي يكبرها بنحو ثلاثين عاماً، وليس مصادفة أن يكون هو ذاته هذا الشخص الرافض لاستغلال مشاعر الفتاة الجميلة الُمتدفقة في اتجاهه، غير أنه يقاوم إحساسه العاطفي نحوها احتراماً للقيمة الأخـاقـيـ­ة والإنـسـان­ـيـة، وعملاً بمعيار الـسـن والــفــار­ق الزمني الكبير بينهما، برغم إعجابه الشديد بها وإيمانه بتفوقها ومشاعرها العاطفية الخاصة.

وفي فكرته الفنية يُعدد وودي ألن وجهات نظره في أشياء كثيرة تخص المجتمع الأمـريـكـ­ي، فهو يرفض الرأسمالية الطاغية ويراها إفساداً للحياة وفساداً يستشري في الجسم الأمريكي الُمجتمعي الصناعي الـفـوضـوي، ويحمل المـسـؤولـ­يـة فــي هـــذا الانجـــرا­ف المخيف نحو الهاوية الرأسمالية المــاديــ­ة إلـــى الـنُـظـم السياسية والساسة الذين أقروها وعملوا بـهـا، بـل وأضــافــو­ا إليها توابع أخرى أكثر قسوة.

ولأن الـكـومـيـ­ديـا هــي الإطـــار الأنـــســ­ـب لـلـسـخـري­ـة والـتـهـكـ­م والفضح، فقد نسج المخرج والممثل الكبير كل خيوط فيلمه على هذا المنوال وجعل من الضحك وسيلة وحيدة وفريدة للنقد والاستهجان من أكبر الدول قوة وسيطرة وعدة وعتاداً. وعلى صعيد آخر لم يتورع الكاتب والمخرج والممثل الكبير من إعلان رفضه لما يُسمى بالُمطلقات، كــالحــري­ــة الُمــطــلــق­ــة فـــي الحــب والجـنـس والسياسة والأخــاق وغيرها، وقــد ألمــح فـي ذلــك إلى نظرية فرويد ومنهجه العلمي في رد كل السلوكيات إلـى الُمنطلق الجـنـسـي، فـالـغـريـ­زة الجنسية عنده هي الباعث على كل شيء باختلاف الدرجات والمستويات والأعمار. ولم تسلم النظرية ذاتها من نقد ألن، فما لمح به في سياق معين لإثـبـات الحـالـة رفضه في سياق آخر، بل وأثبت بطلانه أو على الأقــل عـدم ملائمته في كل الظروف ولكل الشخصيات، حيث لا يمكن التعميم والأخذ بوجهة نظر واحدة.

الفيلم الذي شارك في بطولته مــع ألـــن، ديـــان كيتون وميريل ستريب اعتبرته مكتبة الكونغرس في عام 2001 عملاً إبداعياً فارقاً وذو أهمية خاصة وتم حفظه في السجل الوطني للأفلام.

يغلب على أفـــام وودي ألن أسلوب البطولات الجماعية فهو يميل بطبعه لتعدد الشخصيات الدرامية وتوزيع المفاهيم الفكرية،

بحيث يُشكل مـا يمكن تفسيره بالجبهة التأثيرية لتعميق الأفكار وتـرسـيـخـ­هـا وسـهـولـة الإقــنــا­ع بها، ولـه في ذلـك تجــارب كثيرة وكلها تتبنى مبدأ الرفض وتتخذ من المعارضة منهجاً سينمائياً مقاوماً للظواهر والأفكار السلبية الهدامة، ومـن بين أفلامه المهمة «الحــب والمـــوت» وفيلم «النيام» والأخـيـر رسـم وقـت إنتاجه عام 1973 صورة لشكل المستقبل الذي يشبه الكابوس وكان تحذيراً مبكراً من سطوة الرأسمالية الأمريكية التي يستوحش معها سكان العالم وتشكل خطراً داهماً على الدول والشعوب.

ومــن أشهر أفــام ألــن أيضاً، «وردة القاهرة القرمزية» الذي أنتج في عام 1985 وقدم من خلاله رؤية تراجيدية كوميدية مزدوجة لحياة امرأة بائسة في ثلاثينيات القرن الماضي، لم تجد من يُنقذها مــن المــأســا­ة الـنـاتجـة عــن الفقر والـبـؤس إلا السينما والانـدمـا­ج في عوالمها السحرية ومعايشة الأحـداث وقصص الحب والغرام والارتـــب­ـــاط العاطفي بالأبطال والنجوم، وهـو تلخيص يُحتمل أن يكون مُعبراً عـن وجهة نظر وودي ألن نفسه في السينما كأداة تسلية وترفية ووسيلة علاج قوية للتخلص من الأزمــات والأمـراض النفسية والعُقد الُمزمنة.

 ??  ?? وودي ألن
وودي ألن
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom