Al-Quds Al-Arabi

قصيدة النثر: سؤال الماهية وهوية النوع

- عادل ضرغام

يــبــدو أن مـــراوغــ­ـة الـشـكـل في قصيدة النثر هي السبب الأسـاس في عـدم وجــود مشروعية وقبول متساويين لها مع شعر التفعيلة أو الشعر العمودي، وتجعلها - إلى حد ما- أقرب إلى الشكل الهامشي رغم وجوده الملموس، ووجود أجيال لها إنتاج بـارز في الإبــداع العربي على مدى العقود والأزمنة. فالمراوغة أو السيولة تفتيت لوجود القيود وتدمير للقانون الــذي يعد ميثاقا للجنس الأدبي أو النوع في تأسيس ملامح هيمنته. ويـبـدو- أيـضـا- أن هذا الحال موجودة بكل إشكالياتها مع اختلافات طفيفة في معظم البلدان والـلـغـات فـي طبيعة الاقــتــر­اب أو الابتعاد من قصيدة النثر.

ســؤال الماهية أو التحديد جزء أساسي من إشكالية قصيدة النثر، لأن التحديد عمل تصنيفي ضروري يرتبط بطبيعة العقل المؤسس على ضم الشبيه أو النظير إلى تصورات ثابتة، قـادرة على الجمع والتسكين انطلاقا من محددات سابقة التجهيز، وارتباطا بالتوقع لحركة النوع أو الجنس الأدبـي. ولكن الأمر يختلف مع قصيدة النثر التي أصبح لها تراث ممتد في أدبنا العربي، تراث يتسم بالتنوع والتعدد، فلم تعد ذات هيئة واحـدة كما تجلت مع بدايات مجلة «شعر» اللبنانية مع يوسف الخال وأدونــيــ­س، بـالإضـافـ­ة إلــى أنسي الحـــاج، وأخـيـرا المـاغـوط وشوقي أبوشقرا وعصام محفوظ وسركون بولص وصلاح فائق.

هـــذا الـتـعـدد الـــذي نـــرى صــداه واضـحـا فـي منجز قصيدة النثر في كل الأقـطـار العربية بعيدا عن الارتكان إلى فكرة القيمة يكشف عن صعوبة التحديد، وعن شكل منفتح يؤسس ويقوّض ما يؤسسه بالحركة المستمرة من خلال قدرته على تمثل واستيعاب مساحات ومنطلقات فنية من الأنــواع الأخــرى، لا تقضي على شرعية وجـوده، وإنما تعطيه مدادا لاستمراره وتنوعه. تكشف مقولة غي لافـود )لا يمكن تحديد قصيدة النثر هـي توجد فقط( عـن جـدوى السعي في إطار تحديد قصيدة النثر وتحديد أطرها واستبيان واستيلاد قوانينها. فهذا الشكل التدميري الذي يهشم كل ما تعوّد عليه الدارسون من أسس وقواعد شكل يندّ عن التحديد وعن التسييج في أطر تقمعه وتجعله شكلا ثابتا أو نمطا مستهلكا. فهي قصيدة منفتحة على كل الإمكانات اللانهائية في كل أجناس الكتابة الأدبية، خاصة في ظل تصور مغاير لنظرية الأجــنــا­س الأدبــيــ­ة. حيث أصبح الجنس الأدبي يتمثل تحديده في مجمل الآليات المرتبطة بالقراءة والتلقي. الماهية

ظـل الباحثون بالرغم مـن ذلك مهمومين بـسـؤال الماهية، فالمدى الزمني الممتد، والرصيد الإبداعي المستمر لـم يفلحا فـي كبت ظهور السؤال، وما يوجبه من إعـادة نظر ومقاربة، فتشارلز سيميك الشاعر الأمريكي الـذي فاز ديوانه بجائزة البوليتزر 1990 وصــاحــبَ فــوزه وجـــود احتجاجات كبيرة يقول: «الشعر النثري موجود منذ قرنين من الزمان تقريبا، ولا يوجد حتى الآن من يستطيع أن يعرّفنا ما المقصود بالشعر النثري؟ التعريف المعتاد والمألوف يقف عند حـدود ذكر إنه شعر يكتب في إطـار نثري، ويترك الأمر على هذا النحو».

في تحديد قصيدة النثر أو محاولة تحديدها بوصفها نوعا تعرضت لمنعطفات عـديـدة نتيجة لدينامية النظرية الأدبــيــ­ة، ونظرية الأنــواع الأدبية وطريقة توالدها ذاتيا كما في تصور تــودروف إمـا بالتحويل أو المعارضة أو الإزاحــة أو الدمج، ونتيجة للتراكم المعرفي الذي صاحب وجودها المستمر. ولكن هناك جزءا رافقها من البداية إلى اللحظة الآنية، وهو المنعطف أو الإشكالية المنطلقة من اسمها الكاشف عن التناقض الظاهري.

تعد الحركة أو البناء أو الانتقال سمة أساسية فـي فـن النثر نظرا لذاكرته التواصلية بين البشر، ويعدّ الثبات - او الحركة من الثبات- سمة من سمات الشعر، لأنه مرتبط بالتأمل العميق سواء ارتبط بالذات أو بكل ما هو خـارج الــذات من جهة أولى، ومن جهة ثانية مرتبط بالتصوير. وربما يكون هذا فارقا أساسيا بين الشعر والنثر، وجاءت قصيدة النثر مشفوعة ومشكلة لهذه السمات، ولكن الحركة في القصيدة النثرية تتحول إلى ثبات، لأنها تمارس تغييرا مستمرا على مستوى معرفي أكبر في الدلالة الإشارية للكلمات، وتخلق لها ذاكـرة جديدة، غير مطابقة إلى ماضيها، ولكنها تشير إليها من طرف خفي، وكأنها تقلّم بالتدريج في هذه المطابقة، لكي تضيف إليها، وتدخلها إلـى منحى معرفي جديد من خلال البناء. والثبات الشعري –أيضا- لم يعد ثباتا وإنما أصبح حركة مشفوعة بكل آليات الحفر والنحت، فتتولد الحـركـة، ولكنها حركة محسوبة مملوءة بالكثافة الشعرية. فالجملة فـي النثر تدفع وتـولـد الإحساس بالحركة والتقدم الخطي والنمو، بينما الجملة في الشعر هي مساحة للحفر والعمق داخل سلاسل دلالية ممتدة، تشمل أزمنة متباينة ليست خطية أو ساكنة، هي جمل لانفتاح الذاكرة ولمعاينة مواقف وارتكاسات سابقة.

فــي ظــل الـنـظـرة الساكنة تظل قصيدة النثر تعاني من عدم تحديد مزمن، كما يمكن أن نلاحظ في الكثير من المقاربات، بالإضافة إلـى تنوع أشكالها مما يوحي بانعدام الشكل أو النمط الثابت، ويجعلها تندّ عن التحديد وفــق سياج مستمر. في حديثه عن طريقة الإنتاج والتوزيع التاريخي للأفكار يشير فريدريك جيمسون إلــى أن الأنـــواع الأدبية تأسيس أدبي أو عقد اجتماعي بين كاتب وسياق محدد، وتتمثل أهميتها في تحديد الاستخدام للعنوان المحدد لقطعة أدبية محددة.

إننا مع النظرة الأخرى الدينامية أمام نظرة مغايرة تجعل قصيدة النثر في حالة تشكُّل دائم، فراسل إدسون أهم شعراء قصيدة النثر الأمريكية غالبا فـي مجمل حــواراتــ­ه يــزدري فكرة التصنيف والتسكين التي يقوم بها النقاد والمتابعون. ففي دعوته إلى التحرر من الشعور بالالتزام أو الارتـبـاط أو الشعور بالدَّين حتى للشكل أو للنمط يرى أن الاسم الذي يعطيه المـــرء للكتابة- أي تحديد النوع- أقل بكثير من العمل نفسه.

في إطــار الفهم السابق نجد أن الــقــارئ يطالع نـوعـا ليس شعرا معتادا، ولا يمكن أن يكون بديلا عن الشعر، ولكنه يستند إلى ثباته وحفره الداخلي. ويمكن للقارئ أن يؤسس هوية لهذا النوع مبنية على خصائص وظواهر انطلاقا من معاينة ومقاربة بنياته الآنية وبنياته المؤسسة بمرور الزمن، لأن لهذا النوع تراثا تاريخيا لا يمكن الحد من قيمته. المقاربة يجب أن تتوزّع إلى مقاربة تاريخية وإلى مقاربة نصية آنية لمعاينة التحولات التي شكلّت منطلقات النوع بوصفها قواسم مشتركة لها دور في صناعة أو توليد الإحساس بهوية النوع.

وعلى هـذا الأســاس فتحديدات ســوزان برنار )الـوحـدة العضوية، والمجـــان­ـــيـــة، والــكــثـ­ـافــة( تشكل خصائص، ولكنها ليست نهائية، وليست قانونا أو قاعدة، هي فقط تعبر عن هوية النوع في فترة زمنية مـــحـــدد­ة، ومـــن ثــم فـهـي منفتحة بـالـتـدري­ـج للحذف والإضــافـ­ـة أو التعديل نظرا لحركة النوع وتعدد أشكاله. فنمط قصيدة النثر لدى بودلير فـي «ســأم بـاريـس» أو في «قصائد نثرية صغيرة» ليس شكلا نهائيا لها، حيث يعتمد من خلال المعاينة على الكتلة النثرية الكاشفة عن المعنى والإثارة العاطفية في نسق يستند إلى منحى يومي. فكل ما قدمه يمثل تجليا واحدا تحركت وتشكلت قصيدة النثر فـي إطـــاره وتوزعت إلى مسارب أخـرى عديدة، ولكنها أبقت على جزئيات ظلت شرايين مغذية قادرة على البقاء بالرغم من التحولات.

يمكننا الــوقــوف عـنـد محاولة الانـــفــ­ـات مــن حــــدود كــل مــا هو مؤسس أو مـقـرّر، بل والنفور منه ســـواء أكـــان فنيا أو عـرفـيـا، لأن قصيدة النثر لديها نـزوع للحرية، وعـدم الشعور بالاستدانة إلـى كل ما سبق. وفيما يخص النسق الفني المـؤسـس والخـــروج عنه، فيتجلى للمتأمل أن حركتها تجاهه لا تنفصل عن طبيعتها التدميرية الأساسية لإثبات أن هناك شعرا يتجاوز حدود المؤسس والمعروف، وقواعد وقوانين النمط المتوارث ارتباطا بالانفتاح على الحـريـة بكل مـا تـوجـده مـن خـروج وتمرد.

وإذا كانت القصيدة النثرية- أو الشعر الـنـثـري- فــي حـــوار دائــم التعلق والتشكل في إطـار الجزئية والـتـشـظـ­ي والمكتملة فــي ذاتـهـا، والمحتاجة للاكتمال في ارتباطها بالعالم، فإنها بالضرورة تعاني من النقصان وفي معرض دائم للانفتاح على تشكلات عديدة. فالانفتاح هنا بمعناه الفني يشير إلـى عـدم قدرة المقاربين على توقع طبيعة تجلياتها القادمة مـن خــال أشـكـال حـددت أسسها ومرتكزاتها. فقد يتحقق هذا التوقع أو التنبؤ مع النصوص العمودية التراثية الخطية، لأننا أمام بنية ساكنة محددة ومحدودة، وقد يتحقق مع الشعر التفعيلي، لأن هناك بقايا قوانين قد تكشف وتقود إلى النمطية في أحيان ليست قليلة، وإلى توقع طبيعة النهاية أو الإغلاق الفني على مستوى البنية. ولكن توقع القادم مع القصيدة النثرية غير متاح، لأنها تعتمد في الأساس على غياب القوانين والأسس، سواء كانت شكلية أو بنائية، ذلك الغياب الذي يجعلها منفتحة لانهائية الشكل من جهة أولـى، ومن جهة أخرى تعتمد على الثبات والحــركــ­ة- مـن خلال الشعر والنثر- فتتولد لها قدرة على التهام مساحات لا تتاح للأنواع الشعرية الأخرى.

إن نظرة فاحصة إلـى نمـاذج من قصائد النثر العربية تكشف عن المــوجــو­د آنـيـا ليس شكلا واحــدا للنوع، فهناك أشكال وأنماط عديدة لقصيدة النثر العربية، لكونها شكلا منفتحا ولـديـه قــدرة على التكيف والاتساع ذاتيا، ومن خلال الالتحام بمـا هـو غنائي وملحمي وحــواري وسردي وخطابي، وتسمح لكل هذه الأساليب بالتواجد في إطار بنيتها، ولكن فاعليتها تكمن في الطريقة التي تشكل وتكيّف من خلالها وجود هذه الجزئيات، ولذلك فإن أية محاولة لتبسيط قصيدة النثر إلــى حـدود العلاقة بين الشعر والنثر هي محاولة محكوم عليها بالفشل، وتصبح مجرد تبسيط لا قيمة له.

قصيدة النثر تمثل تحولا مفصليا في الشعر العربي، لأنها بالرغم من تعدد أنماطها وأشكالها، وارتباطها بالتوالد اللانهائي، قد استطاعت أن تشكل لها هوية فنية، كل فترة زمنية، وذلك من خلال استنادها إلى خبرة كتابية ملموسة على أقلام أعلامها في كل عصر من جانب، ومن جانب آخر من خلال استناد أصحابها إلى الفكر، وإلى الرؤية المعرفية التي لا تقف عن حدود الآني اللحظي، ولكنها تمتد إلى لحظات وأزمنة غابرة لمقاربة التجليات السابقة للأفكار، ولهذا نجد أن من ضمن مسميات قصيدة النثر )النص المعرفي( للإشارة إلى سمة فاعلة من بداية ظهورها إلى اللحظة الـراهـنـة، ولـكـن تتشكل بتجليات مختلفة.

قصيدة النثر هي طريقة لمقاربة العالم والالـتـحـ­ام بــه، وهــي طريق جانبية لافتة للإصغاء إلى الصوت الرهيف الخافت الممتد داخل ذواتنا، أو هــي آلـيـة مـقـاربـة يستخدمها الــشــعــ­راء- كـمـا يــقــول تـشـارلـز سـيـمـيـك- لـتـحـريـر أنـفـسـهـم من طريقتهم المعتادة في رؤيـة العالم، وإيــجــاد طريقة جــديــدة لإدهــاش أنفسهم.

 ??  ?? شارل بودلير
شارل بودلير

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom